عقود مشبوهة وتهديدات ونفوذ سياسي: الظلام تذكير بحال الكهرباء في العراق

يعد قطاع الكهرباء، بما يشوبه من مشكلات مزمنة لم تستطع الحكومات العراقية المتعاقبة حلها، أحد أبرز أوجه استشراء الفساد المتحكّم في السلع الخدمية الضرورية ودليلا على هشاشة الدولة العاجزة عن مواجهة اللوبيات السياسية والاقتصادية التي تنهب ثروات العراق وتتقاسمها فيما بينها كما تتقاسم الطوائف الحكم.
بغداد - تعتبر الكهرباء في العراق رمزا قويا للفساد المستشري والمتجذر في نظام تقاسم السلطة الطائفي الذي يسمح للنخب السياسية باستخدام شبكات المحسوبية لتوطيد نفوذها. وبمجرد فرز النتائج بعد كل دورة انتخابية، يتنافس السياسيون على التعيينات في سلسلة من المفاوضات بناءً على عدد المقاعد التي تم الفوز بها، وتصبح الحقائب الوزارية ومؤسسات الدولة مقسمة فيما بينهم.
وفي ضاحية مدينة الصدر ببغداد تظهر ملصقات الحملة الانتخابية اللامعة بجانب غابات الأسلاك الكهربائية المتدلية التي تبطن الزقاق المؤدي إلى منزل أبوعمار.
لكن تفكيره بعيد كل البعد عن الانتخابات الفيدرالية العراقية المقررة في العاشر من أكتوبر؛ فلا تكاد مدفوعات الرعاية الاجتماعية المقدمة للجندي المتقاعد البالغ من العمر 56 عاما تغطي كلفة الغذاء والدواء، ناهيك عن كلفة الكهرباء. ولا يستطيع أبوعمار شراء مولّد كهربائي ويعاني بسبب الانقطاعات المزمنة التي تطرأ على الشبكة الوطنية.
وعندما تنطفئ الأنوار لا يكون لديه خيار سوى سرقة الكهرباء من مولّد الجيران.
ويقول هذا الجندي العراقي المتقاعد في تقرير لوكالة أسوشيتد برس أعدته سامية كلاب إنه لا يتمتع بالعلاقات السياسية التي تخوّل له الحصول على الكهرباء.
81
مليار دولار أنفِقت على قطاع الكهرباء منذ 2005، لكن الانقطاعات لا تزال شائعة
وحسب وجهة نظره “في هذا البلد إذا لم تكن لديك هذه العلاقات سيكون وضعك مثل وضعنا”.
وفي وزارة الكهرباء مكّن نظام المدفوعات السرية النخب السياسية من سحب أموال الدولة من الشركات المتعاقد معها لتحسين تقديم الخدمات.
ويعتبر العشرات من المسؤولين السابقين والحاليين في الوزارة ومقاولي الشركات أن الشراكات الضمنية تم تأمينها من خلال التخويف والمنفعة المتبادلة بين المعينين السياسيين في الوزارات والأحزاب السياسية والشركات، مما يضمن أن تنتهي نسبٌ مئوية من هذه الأموال في خزائن الأحزاب. وتحدث جميعهم بشرط عدم الكشف عن هوياتهم لأنهم يخشون انتقام الجماعات السياسية.
وقال المتحدث باسم الوزارة أحمد موسى “يحدث الفساد كفعل فردي أو لمصلحة سياسية… في كل مكان في العراق، وليس في وزارة الكهرباء فقط”.
وفي هذه الأثناء يشعر العراقيون بالغضب لأن توفّر الكهرباء على مدار 24 ساعة في اليوم أصبح حلما بعيد المنال في العراق البلد الرئيسي المنتِج للنفط الذي يمتلك موارد طاقة وفيرة. وتواجه الأحياء في جميع أنحاء البلاد انقطاعات يومية تصل إلى 14 ساعة خلال ذروة الصيف في المقاطعات الجنوبية الفقيرة، حيث يمكن أن تصل درجات الحرارة إلى 52 درجة مئوية.
وتحير هذه الأوضاع خبراء الطاقة حيث يتساءل محلل وكالة الطاقة الدولية علي الصفار “الحلول التقنية واضحة، ولا تُعتمد. على المرء أن يسأل لماذا؟”.
عقود الظل
تلقى رجل أعمال عراقي اتصالا هاتفيا من ممثل اللجنة الاقتصادية للتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر الذي حصل حزبه على أكبر عدد من المقاعد في انتخابات 2018، في يونيو.
أراد عباس الكوفي أن يراه. وكان قد تم إبلاغه بأن رجل الأعمال التقى بمسؤولين في وزارة الكهرباء لمناقشة مشروع بالملايين من الدولارات لزيادة تحصيل رسوم التعرفة الضعيفة: الفواتير المستحقة للحكومة على المستهلكين، والتي نادرا ما يتم دفعها في العراق.
وفي مكتب الكوفي صدرت لرجل الأعمال تعليمات تقضي بتسليم 15 في المئة من الأرباح نقدا، بمجرد توقيع الصفقة ودفع الوزارة الفواتير.
ويتذكر رجل الأعمال أن الكوفي (الذي يتمتع بنفوذ لا يوصف تعززه ذراع الميليشيا القوية للتيار الصدري) قال له “إن وزارة الكهرباء ملك لي ولحزبي، ولا يمكنني فعل أي شيء دون موافقته”.
وأضاف “إنهم ليسوا خجولين. يقولون لك: إذا لم تتبعنا، فسوف نؤذيك”.
ويعدّ الكوفي -الذي كان ذات يوم شخصية بارزة في الميليشيا التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية- أحدث مثال لممثلي الحزب الاقتصاديين الذين لديهم شركات مسلحة قوية.
توفّر الكهرباء على مدار اليوم حلم بعيد المنال في العراق البلد الرئيسي الذي ينتِج النفط ويمتلك موارد طاقة وفيرة
ومن خلال التنسيق بين الموالين للوزارة ومسؤولي الشركات والمشرعين، يتم تعيين ممثلين مثل الكوفي لضمان الموافقة على عقود معينة، ثم اختيار مقاول لتنفيذها وتسليم القطع إلى الحزب، وفقا لمسؤولين في ست شركات معنية بهذه العملية منذ 2018.
وورد اسم الكوفي في وسائل الإعلام المحلية في يوليو عندما اتهمته رسالة -يُزعم أنها صادرة عن وزير الكهرباء السابق ماجد حنتوش- بتقويض عمل الوزارة، ونفى حنتوش الذي استقال فيما بعد كتابتها.
وقال نصار الربيعي، رئيس الجناح السياسي للتيار الصدري، إن حزبه حصل على وزارة الكهرباء لأنه فاز بأكبر عدد من المقاعد البرلمانية في انتخابات 2018. وتعتبر الوزارة -بميزانيتها العالية- من بين أكثر الوزارات طلبا. وأكد أن الكوفي شخصية صدرية، لكنه نفى المزاعم الموجهة إليه أو ضد الحركة، قائلا إنها ترقى إلى “الافتراء”.
وأضاف الربيعي أنه في حالة وجود وثائق تثبت تواطؤ المسؤولين الصدريين فإنه سيحرص شخصيا على مقاضاتهم في محكمة قانونية. ولا يوجد مثل هذا الدليل الورقي.
وقال المقاولون إن الترهيب هو إجراء تشغيل قياسي في وزارة الكهرباء. وقال مسؤول من شركة كبرى متعددة الجنسيات إنه أُمِر بالتعاقد مع شركة محلية حصريا حيث يتم التفاوض مع الحكومة على حزمة من الصفقات بقيمة مليارات.
ويتم إصدار فاتورة تتضمن مواد أكثر كلفة مما تم شراؤها بها في بعض الأحيان، وذلك من أجل تأمين الأموال للمكافأة. وقدّر أحد المسؤولين أن الخسائر تعد بالمليارات في هذه المخططات منذ 2003، لكن الأرقام الدقيقة غير متوفرة.
ويتلقى المسؤولون الذين يتساءلون عن سبب تضخم أسعار العقود تحذيرات، بمن في ذلك أحد الذين اعترضوا على إنشاء محطة كهرباء في محافظة صلاح الدين الشمالية، والتي تجاوزت قيمتها 600 مليون دولار. وأكد تلقي مكالمة عندما اتضح أنه لن يوقع على الصفقة. وقيل له “كن حذرا”.
حل المعادلات
واجه كل وزير للكهرباء -منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 2003 والذي أطاح بصدام حسين- هذه المعادلة الرهيبة: يجب أن يكون العراق قادرا على إنتاج أكثر من 30 ألف ميغاواط من الطاقة، وهو ما يكفي لتلبية الطلب المحلي، لكن نصفها لا يصل إلى المستهلكين.
وتبقى البنية التحتية السيئة والوقود غير المناسب والسرقة من العوامل المسؤولة عن 40 - 60 في المئة من الخسائر، وهي من بين أعلى المعدلات في العالم. وفي الجنوب الأكثر فقرا أدت الحرارة والتوسع الحضري والمساكن غير القانونية إلى زيادة الضغط على شبكة الكهرباء المتقادمة.
كما أن تحصيل الإيرادات سيء للغاية والإعانات المالية هائلة مع تحصيل الوزارة أقل من 10 في المئة مما يجب أن تتلقاه من الفواتير. وأفادت لجنة برلمانية في ديسمبر بأن 81 مليار دولار أنفِقت على قطاع الكهرباء منذ 2005، لكن الانقطاعات لا تزال شائعة.
ويرجع ذلك جزئيا إلى مسؤولي الخدمة المدنية المعينين سياسيا، وخاصة المديرين العامين للإدارات الرئيسية، الذين يتمتعون بأكبر قدر من النفوذ في الوزارة وبصلاحية تسهيل الاحتيال في العقود، وفقا لستة مسؤولين سابقين وحاليين. وتضمنت المفاوضات بعد انتخابات 2018 ما لا يقل عن 500 من هذه المنشورات. وحصل التيار الصدري على أكثر من 200.
إن المستقبل قاتم؛ فمن المقرر أن يتضاعف الطلب بحلول عام 2030، مع نمو عدد سكان العراق بمقدار مليون نسمة سنويا. وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن العراق فقد -من خلال عدم تطوير قطاع الكهرباء- 120 مليار دولار بين 2014 و2020 في الوظائف والنمو الصناعي بسبب الطلب غير المستوفى.
وعود انتخابية
يستيقظ عدي إبراهيم علي لإجراء إصلاحات عاجلة في حي الزبير بالبصرة؛ حيث يعاني أطفال أهالي المنطقة من الحر الخانق الذي أقض مضاجعهم. ولا يمكنه تجاهلهم.
وفي صيف 2018 أدى ضعف خدمة الكهرباء إلى اندلاع احتجاجات في البصرة خلفت 15 قتيلا على الأقل. وبعد ذلك بعام شلت الاحتجاجات الجماهيرية بغداد وجنوب العراق، حيث شجب عشرات الآلاف من المواطنين الفساد المستشري الذي ابتلي بتقديم الخدمات.
المستقبل قاتم؛ فمن المقرر أن يتضاعف الطلب نهاية العقد الحالي مع نمو سكان العراق بمقدار مليون نسمة سنويا
ويضع المرشحون المستقلون من حركة الاحتجاج في البصرة الكهرباء على رأس أولوياتهم استعدادا للانتخابات. وتقل فترات انقطاع التيار الكهربائي مع انخفاض درجات الحرارة في سبتمبر. وحرص المسؤولون العراقيون على تحسين التوزيع لتجنب الاحتجاجات قبل الانتخابات أيضا.
وتعتبر مدينة الصدر في بغداد خط المواجهة في أزمة الكهرباء. وهي معقل للتيار الصدري، حيث تجد صورة الصدر معلقة في كل بيت تقريبا.
وتدعم حركته علنا أجندة إصلاحية، بينما يدعو العراقيون المصابون بخيبة الأمل إلى مقاطعة الانتخابات. ومن المتوقع أن تضمن نسبة إقبال الناخبين المنخفضة فوز الحركات الشعبية مثل التيار الصدري بحصة كبيرة من المقاعد مع أصوات الموالين مثل مهدي محمد.
وعندما تنطفئ الأنوار يغمر المصاب بالربو البالغ من العمر 60 عاما نفسه بالماء ويكافح في الظلام، وبالكاد يستطيع التنفس. ويقول إن الأحزاب التي سبقت التيار الصدري هي المسؤولة، مضيفا أنه سيصوت لمرشح صدري.