عقدة المركز والهامش.. بين ذاكرة الأنفال وصدى الحصار

العلاقة بين الكرد وبغداد لا تزال مرهونة بعقل سياسي لم يتخلَّ كليًّا عن عقلية الهيمنة وإن تبدّلت الأدوات؛ بالأمس كان القمع عسكريّا واليوم أصبح سياسيّا واقتصاديّا.
الاثنين 2025/05/12
لا يزال هناك بصيص أمل

لطالما تمنّى الكُرد أن تكون علاقتهم مع بغداد مبنية على التكامل والشراكة الحقيقية، سواء على مستوى الشعب أو ضمن قوى الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي. لكن واقع الحال، ومنذ تأسيس النظام الجديد بعد 2003، يكشف مسارًا مضطربًا لم يرتقِ إلى مستوى الطموح، بل بقيت العلاقة تتأرجح بين التجاهل والشدّ، دون مؤشرات حقيقية على تغيّر في عقلية الحكم.

في ذاكرة الكرد لا تزال الجراح مفتوحة؛ فـفي عهد النظام السابق بقيادة صدام حسين لم يكن القتل مجرد سياسة، بل ممارسة يومية مدروسة، تجسّدت في حملات الأنفال التي دفنت عائلات بأكملها تحت التراب، وقصفت حلبجة بغاز الخردل وسط صراخ الأطفال وتضرّع الأمهات. لم تكن تلك مجرد أرقام في تقارير حقوق الإنسان، بل مشاهد محفورة في ذاكرة من عاشها أو نجا منها، أو حتى من نشأ على قصصها.

ومع سقوط النظام عام 2003، تنفّس الكرد الصعداء. لكن الأمل لم يلبث أن خفت؛ فالأدوات تغيّرت، أما الشعور بالتهميش فظل حاضرًا. في كل مرة تُقطع فيها رواتب موظفي الإقليم، هناك أب يعدّ الأيام ليشتري دواء طفلٍ مريض، ومعلمة تنتظر أجرة الطريق لتعود إلى مدرستها، وعائلة تُطفئ النور باكرًا لتوفّر ثمن الكهرباء. الحصار ليس فقط رقما في السجلات المالية، بل وجع يومي يشعر به الإنسان قبل المسؤول.

◄ اليوم، يعاني الكثير من أبناء كردستان من خيبة أمل قاسية. فبدل أن يشعر المواطن بأنه جزء من دولة عادلة، يشعر بأنه مستثنى، مراقب، يُساوَم على حقوقه الأساسية

رغم وصول شخصيات كردية إلى مناصب سيادية وتشريعية في الدولة العراقية، إلا أن الكثير منها تحوّل إلى مناصب رمزية، بلا تأثير فعلي، نتيجة أعراف سياسية تطغى على الدستور، وتُبقي مراكز القرار الفعلي خارج متناول من يُفترض أنهم شركاء في الوطن.

إن العلاقة بين الكرد وبغداد لا تزال مرهونة بعقل سياسي لم يتخلَّ كليًّا عن عقلية الهيمنة، وإن تبدّلت الأدوات. بالأمس كان القمع عسكريّا، واليوم أصبح سياسيا واقتصاديا. القوس الذي بدأ بعمليات إبادة، ما زال ممتدًا على شكل تضييق ممنهج، يأخذ شكلاً ناعما لكنه لا يقل إيلاما.

لقد تفهّم الكُرد بطء التحوّل بعد سقوط النظام، وتفهّموا صدمة الشركاء الذين انتقلوا من ساحة المعارضة إلى موقع الحكم. وقدّموا الكثير من التنازلات، إيمانًا بأن بناء وطن مشترك يتطلب صبرًا وحسن نية. لكن النية وحدها لا تكفي، إن لم تُترجم إلى فعل يضع الجميع على قدم المساواة.

اليوم، يعاني الكثير من أبناء كردستان من خيبة أمل قاسية. فبدل أن يشعر المواطن بأنه جزء من دولة عادلة، يشعر بأنه مستثنى، مراقب، يُساوَم على حقوقه الأساسية. وكلما تكررت هذه المشاعر، زاد الانفصال النفسي بينه وبين فكرة الدولة التي حلم بها.

ورغم كل ذلك لا يزال هناك بصيص أمل؛ أمل بأن تتغير العقليات، وأن تُبنى العلاقة بين أربيل وبغداد على الاحترام الحقيقي، لا على التوازنات اللحظية أو الضغوط المتبادلة. أمل بأن يرى كل عراقي، كرديًا كان أم عربيًا، أن له مكانًا متساويًا في هذا الوطن.

9