عظمة غازبروم تتلاشى مع تخلي أوروبا عن الغاز الروسي

يواجه موقع غازبروم الراسخ في سوق الطاقة العالمي تراجعا طويل الأمد مع ابتعاد الأوربيين عن الغاز الروسي، حيث بدأت تتكشف العواقب الاقتصادية والجيوسياسية لهذا التحول على الشركة الروسية العملاقة التي من المرجح أن تفقد المزيد من قوتها بفعل الضغوط المسلطة عليها.
سانت بطرسبرغ (روسيا) - عندما افتتح أليكسي ميلر، الرئيس التنفيذي لشركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم، مبنى فخما على طراز قصر إيطالي وسط سانت بطرسبرغ ليضم ذراع التصدير للشركة قبل 11 عاما، كان يبشر بمستقبل يعتمد على المبيعات الأوروبية.
وقال في إشارة إلى المكاتب الجديدة العصرية في أكثر المدن قربا من أوروبا “هذا أمر رمزي. ستزداد حاجة أوروبا إلى الغاز الروسي.”
وبدلا من ذلك، باتت المكاتب الفخمة رمزا للتراجع السريع، نتيجة لفقدان الشركة، التي يقال إنها أكثر الشركات الروسية تضررا من العقوبات، شبه الكامل للأسواق الأوروبية بعد أن قطعت الحرب في أوكرانيا علاقات موسكو مع الغرب.
ونظرا لخسائرها الكبيرة وبحثها الحثيث عن مدخرات، تدرس غازبروم الآن طرح القصر للبيع مع عقارات فاخرة أخرى تملكها، وفقا لمسؤول تنفيذي ومصدر آخر مطلع على المناقشات الداخلية.
ورغم صمود الاقتصاد الروسي، إلا أن علامات توتر متزايدة ظهرت في عدة قطاعات. وكان الرئيس فلاديمير بوتين يشعر بالقلق من أن الإنفاق العسكري الضخم يشوّه الاقتصاد الأوسع.
وأفاد المصدران إن عدد موظفي غازبروم للتصدير، التي كانت في السابق أكثر وحدات الشركة ازدهارا، وأشرفت على مبيعات الغاز السوفيتية والروسية إلى أوروبا لأكثر من نصف قرن، قد تقلص إلى بضع عشرات فقط.
وهذا الرقم أقل من 600 موظف قبل خمس سنوات، في ذروة الصادرات الروسية إلى أوروبا. ولم يُعلن سابقا عن احتمال بيع المبنى أو تخفيضات في الوحدات.
وأوضح المصدران أن في ظل عدم وجود مبيعات أوروبية، يُركز الموظفون المتبقون على التقاضي مع المشترين السابقين من الاتحاد الأوروبي. وصرح أحد المصادر بأن غازبروم للتصدير “مجرد هيكل”.
وصرح أليكسي غريفاتش، من الصندوق الوطني لأمن الطاقة، وهو مركز أبحاث مقرب من الكرملين، بأن تركيز غازبروم الأقل بريقا في المستقبل القريب سيكون على إيصال الغاز إلى المزيد من المنازل الروسية.
وقال “لقد كُلِّفت غازبروم بالمهمة الاجتماعية المتمثلة في تحويل الغاز إلى طاقة وتأمين إمدادات الغاز للاقتصاد والسكان بأسعار منخفضة خاضعة للتنظيم.”
وتحدثت رويترز مع ثلاثة مسؤولين تنفيذيين وستة موظفين سابقين وحاليين طلب جميعهم عدم الكشف عن هويتهم خوفا من العواقب المهنية، حول عمق التغيير في ما كانت تُعتبر سابقا الشركة الأكثر قيمة في روسيا.
وتكشف المحادثات أن مشاكل غازبروم تتجاوز بكثير وحدة التصدير. فقد أخبر مصدران أن ميلر وافق على خفض 1500 وظيفة في المقر الرئيسي للشركة، في أطول ناطحة سحاب في أوروبا، مركز لاختا البريطاني التصميم، في سانت بطرسبرغ.
ولم يُعلن بعد عن التسريحات، ولكن طُلب من الموظفين إعداد عروض تقديمية فردية توضح أسباب احتفاظهم بوظائفهم. وقال مصدر إنه “طُلب من الموظفين كتابة وصف لمهامهم الوظيفية تحسبا لأي تداخل في المهام”، متوقعا اكتمال العملية في غضون بضعة أسابيع.
وتشمل التخفيضات 40 في المئة من موظفي المقر الرئيسي، لكنها لا تمثل سوى جزء ضئيل من قوتها العاملة البالغة نصف مليون، والمنتشرة في جميع أنحاء روسيا.
وأخطأت الإدارة في تقدير مدى عزم الأوروبيين، وفقا لأحد المديرين التنفيذيين، الذي قال إن التفكير كان أن أوروبا ستعود بسرعة “تتوسل” لاستئناف إمدادات الغاز الروسي.
ورغم المعاناة الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع تكاليف الطاقة لم تتراجع بروكسل عن العقوبات. وقال المدير التنفيذي “لقد أثبتنا خطأنا.”
وسارع مصدرو الغاز الأميركيون إلى استبدال الغاز الروسي في أوروبا، وباتت الولايات المتحدة أكبر مُصدّر إلى القارة، إذ تضاعفت إمداداتها ثلاثة أضعاف منذ عام 2021.
ولا تزال أوروبا تشتري الغاز المنقول بحرا من روسيا، ولكن بشكل رئيسي من منافسي غازبروم، أي مصنع يامال للغاز التابع لشركة نوفاتيك.
ويهدف التكتل الأوروبي إلى إنهاء استخدامه للطاقة الروسية بحلول عام 2027، وقد انخفض استهلاكه الإجمالي من الغاز جزئيا بسبب التحول إلى الطاقة المتجددة.
وسجلت غازبروم خسارة صافية قدرها 7 مليارات دولار لعام 2023، وهي الأولى لها منذ 1999، وهو العام الذي تولى فيه بوتين السلطة. كما سجلت خسارة أخرى في الأشهر التسعة الأولى من عام 2024، وهي آخر فترة تتوفر عنها أرقام.
وانخفض سعر سهمها في ديسمبر الماضي إلى أدنى مستوى منذ يناير 2009، ملامسا 106.1 روبل (1.22 دولار)، بانخفاض يزيد عن الثلث منذ بداية عام 2024.
وبعد بضعة أشهر من إعلانها عن الخسارة السنوية، كشفت غازبروم العام الماضي أنها تبيع محفظة من العقارات الفاخرة، تشمل فنادق فاخرة شهيرة في موسكو ووادي الزهور في أرمينيا.
وتتمتع الشركة بتاريخ طويل من الاستثمار في العقارات الفاخرة، التي تستخدمها لمكافأة موظفيها بالعطلات، واستضافة المؤتمرات والفعاليات مثل دورة الألعاب الأولمبية 2014.
7
في المئة حصة غازبروم في أسواق الاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت تزيد عن 35 في المئة قبل العقوبات
وساعدت عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض على انتعاش سعر سهم غازبروم إلى 180 روبلا (2.08 دولار)، على أمل أن يؤدي اتفاق سلام سريع في أوكرانيا إلى استئناف الصادرات إلى أوروبا، وفقا لما ذكره بنك ألفا في مذكرة الشهر الماضي.
ومع ذلك، لا توجد مؤشرات على أن القارة ستسارع إلى ربط نفسها مجددا بالغاز الروسي، رغم ما أشار إليه تقرير لصحيفة فاينانشال تايمز.
وأفاد التقرير بأن حليفا قديما لبوتين يضغط على الولايات المتحدة للسماح للمستثمرين بإعادة تشغيل خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي تبلغ كلفته 11 مليار دولار، والذي كان ينقل الغاز من روسيا عبر ألمانيا.
وتتمسك ألمانيا بسياستها القائمة على الاستقلال عن الطاقة الروسية. وحتى لو كانت هناك رغبة، فإن خط أنابيب “نورد ستريم” خارج الخدمة ومتضرر جزئيا.
وقال سيدريك كريمرز، نائب الرئيس التنفيذي للغاز المتكامل في شركة شل، في أواخر فبراير خلال مؤتمر أسبوع الطاقة الدولي في لندن، ردا على إمكانية عودة غاز الأنابيب الروسي إلى أوروبا “هذا يعتمد على عوامل كثيرة.”
واستشهد بقضايا تحكيم متعددة مع غازبروم، وتساءل “هل سيظل المتعاملون وأوروبا يرغبون في الاعتماد على الغاز الروسي بنفس القدر؟”
وتقلصت حصة غازبروم في أسواق الاتحاد الأوروبي إلى 7 في المئة، بعد أن كانت تزيد عن 35 في المئة قبل العقوبات، وفقا لبيانات المفوضية الأوروبية.
وتبلغ قيمة الشركة حتى الأربعاء الماضي، حوالي 46 مليار دولار، بانخفاض عن أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 330.9 مليار دولار في عام 2007، وفقا لحسابات بورصة موسكو وغازبروم ورويترز.
ومع تكيف الشركة مع دورها الجديد كمورد محلي للغاز، تبددت طموحات الرئيس التنفيذي ميلر الكبيرة. ففي عام 2007، صرّح بأن القيمة للشركة ستبلغ في نهاية المطاف تريليون دولار.
وفي ذلك الوقت، بدا هذا ممكنا، فروسيا تمتلك خُمس موارد الغاز في العالم، مما يجعل غازبروم أكبر شركة غاز طبيعي في العالم من حيث الاحتياطيات.
وفي أوج ازدهارها، حققت الشركة التي أسستها وزارة صناعة الغاز زمن الاتحاد السوفيتي إيرادات شكّلت أكثر من 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لروسيا البالغ تريليوني دولار.
ويدير الشركة ميلر، الصديق المقرب لبوتين منذ أن كان عمدة سانت بطرسبرغ في التسعينات، أي على مدار الـ24 عاما الماضية. وقد أُدرج على قائمة العقوبات الأميركية منذ عام 2018.
وتسيطر غازبروم على بلدات بأكملها في سيبيريا والقطب الشمالي، مثل ناديم، إذ يعتمد عليها عشرات الآلاف من الموظفين وعائلاتهم كمصدر دخل وحيد.
وصرح يوري شافرانيك، وزير الوقود والطاقة الروسي من عام 1993 إلى عام 1996، لرويترز في عام 2023 بأن غازبروم كانت “دولة داخل دولة”.
ولم تتطرق المصادر التي تحدثت إليها رويترز إلى خطط لخفض الوظائف أو إغلاق أصول الإنتاج في مدن الشركات هذه.
ويبدو وعد بوتين طويل الأجل باستبدال الأسواق الأوروبية بالصادرات إلى الصين متفائلا في أحسن الأحوال، وحتى أكثر المشاريع طموحا التي تُدرس حاليا لنقل الغاز شرقا عبر الأنابيب لن تُحقق نصف ذروة الصادرات السنوية السابقة البالغة 180 مليار متر مكعب.
وكان جزء كبير من غاز روسيا يمر عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا. وعندما توقفت ألمانيا ودول أوروبية أخرى عن شرائه، لم يعد هناك مكان آخر يتجه إليه الفائض.
في المقابل، تمكن مصدرو النفط الروس من إعادة توجيه ناقلاتهم إلى مصافي التكرير في الدول الآسيوية التي لم تفرض عقوبات.
ورغم أن إنتاج الغاز تعافى قليلا العام الماضي من أدنى مستوى قياسي في 2023 بفضل زيادة الطلب المحلي والصادرات إلى الصين، إلا أن سعة خطوط الأنابيب لتوسيع هذه التجارة محدودة.
وحاليا، هناك طريق واحد فقط لروسيا لتزويد الصين بالغاز عبر خطوط الأنابيب، وهو خط أنابيب قوة سيبيريا، الذي ينقل 38 مليار متر مكعب سنويا.
ويتم إنشاء خط أنابيب ثان أصغر حجما بسعة 10 مليارات متر مكعب سنويا، ومن المقرر أن يربط جزيرة سخالين في المحيط الهادئ بالصين بحلول عام 2027.
وتجري روسيا والصين محادثات منذ أكثر من عقد حول بناء خط أنابيب ثالث هو قوة سيبيريا 2 لنقل 50 مليار متر مكعب وتلبية أكثر من عُشر استهلاك الصين. وستستغرق الخطة سنوات حتى تكتمل، وقد تعثرت المحادثات بسبب فروق الأسعار، وفقا لتقارير إعلامية.
وفي مايو الماضي صرّح نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك بأن البلدين يتوقعان توقيع عقد “قريبا” بشأن خط أنابيب الغاز قوة سيبيريا 2.
وذكرت وكالة أنباء إنترفاكس أن بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ ناقشا المشروع في يناير 2025، لكن لم يتم التوصل إلى اتفاق حتى الآن.
وحتى لو تم الانتهاء من مشروع خط أنابيب قوة سيبيريا 2 بسرعة، فمن المرجح أن تكون الأحجام وشروط التسعير أقل بكثير من الصادرات السابقة إلى أوروبا، بحسب محللين من مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا.