عصر الإنترنت والاتصال يخلق معتقدات وديانات جديدة

تقاطع الإرث الديني المحلي السائد في الشرق الأوسط بأفكاره ومعتقداته وطقوسه، مع عصر الإنترنت والاتصال أنتج التوحش.
الأحد 2024/04/21
عربة الماضي بحصان المستقبل

عندما هبت نيران العنف والتطرف الديني والطائفية وأخذت تُحرق أوصال الجسد العربي، امتدت ألسنة اللهب لتصل قلب أوروبا وأماكن أخرى من العالم، فبدا وكأن الماضي السحيق المنسي، استيقظ من موته وأشهر سيوفه في ساحة الحاضر، أتذكر الكثير من مقولات الحسرة الساخرة في وصف الحالة، كمقولة “حلمنا باللحاق بالمستقبل، إلا أن الماضي لحق بنا”. ينظر معظم الناس إلى هذه الكائنات الغريبة، التي تطل علينا من قنوات التواصل الاجتماعي بمشاهد التوحش في فيديوهات الإعدامات وكأنها شخصيات تنتمي إلى ألف عام سبقت، إلا أنها في الواقع من إنتاج الحاضر، وفي الكثير من المناحي، إطلالات للمستقبل وإن كانت بوجوه بشعة ومرعبة.

إنهم ينتمون إلى عصر جديد بدأ لتوه في الانتشار، يتشكل يوميا وبتسارع مدفوعا بتكنولوجيا الاتصال والإنترنت والمواصلات الحديثة. هذا العصر وسمته صحيفة نيويورك تايمز بـ”عصر السلوك”، ففي القرون الوسطى كانت الولاءات والهويات تعرفها الديانات، ثم انتقلنا، مع نشوء الدولة القومية في أوروبا إلى عصر آخر، وأصبحت الأعراق والإثنيات هي أساس الولاء وتعريف الهوية، ثم انتقلنا إلى عصر العولمة الذي نعيشه الآن وأصبح الولاء والهوية تعرفها المواطنة، فمن الطبيعي أن يكون البريطاني إيطاليا مسلما أو يهوديا أو مسيحيا، ولكن مواطنته في بريطانيا هي ما يحدد ولاءه وهويته.

أفراد دعش يتوهمون ويوهمون الناس معهم، أن "دولة الخلافة" تقام حسب عصر ذهبي مضى، إلا أنها تجربة مستعجلة وساذجة لـ"دولة السلوك" التي لم يحن عصرها بعد

هكذا تشكلت حركات المجتمع في الماضي، أولا على أسس دينية، ثم إثنية، ثم وطنية والآن يبزغ فجر عصر أساسه السلوك، حيث تتشكل حركات مجتمعية عابرة للجغرافيا والتاريخ، على شاكلة داعش، ما يجمع بين أفرادها ويوحدهم هو السلوك المشترك، واستعدادهم للالتزام بسلوكيات متعارف عليها، عشرات الآلاف من المقاتلين من إسلامات وإثنيات وقوميات وأوطان مختلفة هبطوا على سوريا والعراق وليبيا وسيناء، في حركة، يسمونها دولة، ظاهرها الدين وتعريفات وشعارات قديمة وباطنها أدوات العصر مع تعبيراتها وتأثيراتها الحديثة.

القلة التي تمكنت من اختراق بعض هذه المجموعات، ونجت من الموت لتروي قصصها وانطباعاتها، عبرت عن دهشتها بأن أفراد هذه الحركات ليسوا متدينين فعليا، بل إن أحد الصحافيين الألمان، والذي هرب من براثن داعش، خرج بانطباع أن هؤلاء الناس لا يعرفون عن الدين إلا ما قل ودل، يعرفون قليلا من الأحاديث والآيات لا لذاتها ولكن لتبرير السلوك.

هذه الحركات وإن كانت راياتها وشعاراتها دينية، إلا أنها كغيرها من الحركات والمجتمعات السلوكية الآخذة في التشكل بكل أنحاء العالم، مثلها كمثل الحركات اليمينية العنصرية في أوروبا، والتي كانت في الماضي تتشكل على أسس دينية وإثنية. والآن تجد اليميني المتطرف البريطاني يلتقي مع أقرانه من حركات التطرف العنصرية في هولندا وألمانيا وباقي الدول الأوروبية، يخططون سويا ويسافرون ويلتقون ويتحدون رافعين رايات العنصرية.

ظاهرة تبدو للوهلة الأولى لا منطقية، لأن نفس هذه التيارات أشعلت خلافاتها في الماضي أوروبا، فنفس القوى ذات النزعات الانفصالية التي تحارب فكرة الاتحاد الأوروبي والسوق المشتركة تتحد الآن وتضع جانبا أسس خلافات الماضي واختلاف الديانات والإثنيات، جاعلة القاسم المشترك بينها السلوكيات العنصرية ضد الأقليات المختلفة في اللون والدين والعادات والتقاليد.

◄ ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية

في سوريا والعراق، فشلت الدولة والنظام في اللحاق بالعصر وبناء دول حديثة على أسس المواطنة، وتشبثت بخليط هجين من أسس مختلفة، كانت فعالة لبناء المجتمعات في حقب ماضية، مثل الأسس الدينية (الطائفية) التي تنتمي إلى القرون الوسطى، أو الأسس القومية والإثنية ابنة القرن التاسع عشر. هذا الفشل أدى إلى إشعال الثورات التي مع مرور الوقت أحدثت فضاءات فارغة مكنت الآلاف من الأفراد من التدفق عليها لملئها من بقاع العالم المختلفة، وبناء كيان السلوك الداعشي.

سهل جدا أن يدفعنا الكسل الذهني إلى التركيز على الماضي وأمواته من ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وغيرهما من أئمة العصور الغابرة، دون البحث في التغيرات العميقة التي تسببها التكنولوجيا مثل الإنترنت وغيرها، تغيرات تصيب الأفراد والمجتمعات، وتعبيراتها تظهر في الأوان مختلفة، وأحيانا على شاكلة داعش.

عصر الإنترنت والاتصال الذي نعيشه يؤدي إلى ظهور معتقدات بل وديانات جديدة تناسبه. بالضبط مثلما أدت الثورة الزراعية قبل 12 ألف عام إلى ظهور ديانات جديدة بطقوس جديدة، كذلك عصر الثورة الصناعية أتى بديانات ومعتقدات جديدة حلت محل الديانات السابقة وإن بشكل جزئي. فغالبا ما نعتقد أن كل دين يقوم على عبادة إله ما، إلا أن هناك ديانات ومعتقدات مختلفة، فالدين الحالي الأكثر انتشارا في العالم ويجلس جنبا إلى جنب مع الديانات التقليدية القديمة، داخل نفس المجتمع، بل وداخل نفس الشخص، هو دين الأنسنة ومعتقداته التابعة مثل حقوق الإنسان والكرامة والدولة المدنية وغيرها.

دين الأنسنة تجد كلا من المسلم والمسيحي والملحد يتبناه ويزاوجه مع معتقداته الدينية الأخرى، ونفس الفرد يُفعل مُعتقدا ويعطل آخر حسب لزوم المناسبة، يمارس طقوس كل دين على حدة. عصر الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي يضيفان حاليا طقوسا ومعتقدات جديدة لدين الأنسنة، إذ إنه قبل انتشار دين الأنسنة كان المجتمع وكل قواه تحث الفرد على الصلاة والزكاة وممارسة طقوس كلها مصممة للتعبير عن ارتباطه بقوة كونية عظمى وتحديد موقعه المتواضع من هذه القوة.

◄ عصر الإنترنت والاتصال الذي نعيشه يؤدي لظهور معتقدات بل وديانات جديدة تناسبه. بالضبط مثلما أدت الثورة الزراعية قبل 12 ألف عام لظهور ديانات جديدة بطقوس جديدة

ففي بداية انتشار دين الأنسنة، تغيرت الطقوس أو أضيفت طقوس جدية. فللتعبير عن مركزية الإنسان ذاته في هذا الكون وترسيخ معتقدات الأنسنة نجد أن كل فرد مهم من خلال تجربته وخبرته، كما أن رؤيته مهمة وفريدة، وقد كانت الأسرة والمدرسة والوظيفة كلها تشجع وتحث الفرد على اقتناء “مفكرة” يكتب فيها كل ما يخطر بباله وكل ما يحلم به ويخطط له للمستقبل.

والآن في هذا العصر الجديد تضاف طقوس جديدة مختلفة تزيح الإنسان الفرد من موقع المركزية، وتجعل منه مجرد عقدة معلوماتية في شبكة وسعت العالم (الإنترنت)، وواجباته الدينية الجديدة هي كالتالي “سجل ثم حمل ثم شارك”، فأي فكرة تخطر ببالك، وأي تجربة تقوم بها وأي مشاهدة تراها، عليك بتسجيلها إما كصوت أو نص مكتوب أو فيديو مصور، وواجبك الثاني هو أن تقوم بتحميلها سريعا على أحد المواقع في الإنترنت، والواجب الأخير هو أن تشارك بها أكبر عدد ممكن من الناس.

المشاهد والمتابع لطقوس أفراد داعش في سوريا والعراق، يجد أكثر طقوس الدين الحديث بدلا من طقوس الدين القديم، فإن صلوا أحيانا حسب طقوس الإسلام فإنهم يمسكون بهواتف ذكية وكاميرات وأجهزة كومبيوتر دائما لتسجيل تجاربهم وأفكارهم وآرائهم وتحميلها على الإنترنت بأي ثمن ومشاركتها مع أكبر عدد من الناس، وحتى وإن ادعوا أنهم من أتباع الدين القديم والسلف الصالح، إلا أنهم أكثر تمسكا بالدين الجديد وطقوسه الحديثة.

قد يتوهمون ويوهمون الناس معهم، أن “دولة الخلافة” تقام حسب عصر ذهبي مضى، إلا أنها تجربة مستعجلة وساذجة لـ”دولة السلوك” التي لم يحن عصرها بعد. في الحضارة الإنسانية، تاريخيا وحاضرا ومستقبلا، تقاطع فكرتين أو اختراعين أو اكتشافين يصنع معجزات، وأحيانا كوارث ومصائب، في حين قد تفشل كل فكرة في إحداث أي أثر إن بقيت لوحدها دون تقاطع. تقاطع الإرث الديني المحلي السائد في الشرق الأوسط بأفكاره ومعتقداته وطقوسه، مع عصر الإنترنت والاتصال أنتج توحشا على شكل داعش وغيره من الحركات المتطرفة.

9