عسكرة باطنية لموظفي الدولة المصرية

القاهرة – أظهر إصرار الحكومة المصرية على خضوع جميع الموظفين الجدد بالجهاز الإداري في الدولة لفترة تأهيل وتدريب وفقا لمتطلبات الأمن القومي، حسب تفسيرها، حجم المخاوف من استمرار الفساد والترهل في دواليبها الوظيفية، وانعكاس ذلك على مساعي النظام الحاكم لبناء جمهورية جديدة منضبطة إداريا، فمن الصعب ترميم العلاقة مع الشارع في ظل ارتباك واضح في بعض الجهات الحكومية، وشكوك حول استمرار تسلل عناصر تابعة لجماعة الإخوان إلى بعض الوظائف العامة.
تعترف دوائر حكومية، على فترات متقاربة، بوجود حالة من الخلل في العديد من المؤسسات العمومية، وبطء في التعاطي مع مطالب الناس، وتعطل مشروعات تنموية، وتعامل البعض من الموظفين مع المواطنين بعقلية بيروقراطية، ما فرض التحرك نحو تكريس المزيد من الانضباط والصرامة، عبر إخضاع كل المتقدمين للوظائف المستقبلية لتأهيل وتدريب في مؤسسة عسكرية ليصبحوا موظفين إستراتيجيين.
كلف رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي مختلف مؤسسات الدولة بأن يحصل الراغبون في التعيين بالحكومة على دورة تأهيل داخل الأكاديمية العسكرية لفترة لا تقل عن ستة أشهر، كشرط أساسي للتوظيف، في تحرك أحدث انقساما بين مؤيدين للخطوة، ومتحفظين عليها، لكن الحكومة لم تعلق سلبا أو إيجابا، على اعتبار أن الفكرة جاءت أصلا ضمن تكليفات رئاسية بأن يتم تعيين المنضبطين فقط داخل أي مؤسسة.
ورأت أصوات معارضة أن إلزام الموظفين الجدد بالخضوع لدورات تأهيل في جهة أمنية لا يخلو من التخطيط لما بات يعرف بـ”العسكرة الباطنية لوظائف الدولة المصرية” بحجة وقف الترهل ومكافحة الفساد، وليس منطقيا أن يكون بديل الروتين الحكومي زراعة عناصر ترتدي الزي المدني وتطبق المفهوم العسكري.
بينما يقول مؤيدون إن إدخال جهة عسكرية مشهود لها بالنزاهة والشفافية والصرامة في تدريب وتأهيل وانتقاء العناصر التي يتم تعيينها بالحكومة يمهد للقضاء على ظاهرة الوساطات واستغلال النفوذ في حجز وظيفة عمومية، وهي أزمة عانت منها كثيرا الدولة المصرية لسنوات، وأصبحت جزءا من العقيدة الوظيفية في الجهاز الإداري، وترتب عليها استبعاد كفاءات مهنية عديدة.
وظل التدريب والتأهيل للعناصر المدنية داخل الأكاديمية العسكرية قاصرين على الشخصيات التي تتقدم لتولي مناصب قيادية في الجهاز الإداري للدولة، لكن جرى تعميم ذلك أخيرا على صغار الموظفين، في محاولة لنسف المعتقد الراسخ بأن الوظائف الحكومية قاصرة على أهل الثقة وليس الكفاءات واستبدال البيروقراطية بانتقاء عناصر تدرك متطلبات وتحديات الجمهورية الجديدة التي يريدها الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وأكد مصدر حكومي مطلع لـ”العرب” أن تدريب وتأهيل الموظفين الحكوميين الجدد بجهة عسكرية مشهود لها بالنزاهة أبعد ما يكون عن “عسكرة” الجهاز الإداري للدولة، حيث يرتبط الأمر بحاجة المؤسسات العمومية إلى عناصر تدرك أبجديات الانضباط وتتعامل مع الوظيفة بطريقة جادة، وتتدرب على علوم الإدارة ومتطلبات الأمن القومي ومخاطر استمرار البيروقراطية عليه.
وتعلن الحكومة المصرية كل شهر حجم الشكاوى الجماهيرية المقدمة لمجلس الوزراء من أداء الموظفين في الوزارات المختلفة، وتعكس الأرقام الصادرة عنها وجود اعتراف بإخفاق الحكومة في ترضية المواطنين بشكل يدفعهم إلى اللجوء إلى أعلى جهة إدارية بالدولة للشكوى من تعطيل مصالحهم وتدني نوعية الخدمات المقدمة.
وبات النظام المصري متخوفا من استمرار المؤسسات العمومية على نفس الوتيرة من الفوضى، في وقت تعاني فيه الدولة من تحديات ضخمة تستدعي أن تكون لديها كوادر قادرة على الالتزام وتحمل المسؤولية، بينما يعيش الشارع نفسه حالة تذمر واستياء جراء تدني ظروف معيشية صعبة، بالتالي فأي خطاب يستهدف إقناع المواطن بالتغيير إلى الأفضل لن يصدقه، طالما استمر الأداء الحكومي المخيب للآمال.
وتخطط الحكومة لتعيين عشرات الآلاف من الموظفين الجدد في الوزارات المختلفة، مثل التعليم والنقل والاتصالات وقطاعات الطب والصيدلة والهندسة والمدن والأحياء، وترغب في أن يكون الأفراد المختارون مختلفين عما جرى في السابق، وأدى إلى تحولهم إلى عبء على كاهل الدولة، ويتهم بعضهم بالتقصير والروتين وتلقي الرشاوى.
النظام المصري لم يعد يرغب في توسيع دائرة الاعتماد على العناصر الأمنية في إدارة المؤسسة المدنية لأسباب سياسية واجتماعية
وتعتقد دوائر سياسية بأن التكليف الرئاسي للوزارات بخضوع الموظفين الجدد لتأهيل عسكري محدود، نابع من الشعور بأن استمرار الترهل سوف يكرس حالة النفور والتذمر من أداء السلطة، فتقصير الموظفين والقيادات المدنية سيتم تصديره إلى رأس السلطة مباشرة، وهو ما يراد له التغيير مع الموظفين الجدد.
قال اللواء فاروق المقرحي، عضو لجنة الأمن القومي بمجلس الشيوخ، لـ”العرب” إن انضباط الجهاز الحكومي أحد أكبر التحديات أمام بناء دولة عصرية، والتراخي في وضع حلول جذرية للبيروقراطية يعرقل بناء الثقة بين المواطنين والحكومة، فخطأ جهة واحدة قد ينسف إنجازات تنموية ويجعل الناس يشعرون بأن التطوير شعارات.
وكثيرا ما تدخل الرئيس عبدالفتاح السيسي لحل مشكلات ومظالم لمواطنين فشلوا في الحصول على أبسط حقوقهم من مؤسسات عمومية، ودائما ما لفت النظر إلى بطء الإجراءات المرتبطة بمصالح الناس والمستثمرين وغياب الحد الأدنى من الوعي والمسؤولية عند شريحة من الموظفين.
ويخشى البعض من المتحفظين على التأهيل بطريقة أمنية للموظفين الجدد أن يتم اقتصار العناصر المختارة للتعيين في الحكومة على المؤيدين للنظام، والموثوق في ولائهم المطلق له، واستبعاد أصحاب الميول المعارضة، لأن ذلك يكرس إقصاء من لديهم تحفظات على السلطة وسياساتها، ويقود إلى إهدار كفاءات مهنية يمكنها أن تصنع الفارق، بغض النظر عن الانتماء السياسي لها.
وأضاف المقرحي لـ”العرب” أن جزءا من أهداف التدريب المنضبط وانتقاء الخبرات، يرتبط في الواقع بمنع تسرب عناصر الإخوان إلى الجهاز الإداري للدولة، لذلك تمضي الحكومة في تدريب الموظفين الجدد على متطلبات الأمن القومي، وتوعيتهم بما تحتاجه البلاد لتنهض، وهناك إصرار على تغليب الكفاءة على الانتماء السياسي، والعبرة ستكون للعطاء والإنتاج وتنامي روح المبادرة داخل القطاعات الوظيفية.
ويبدو أن النظام المصري لم يعد يرغب في توسيع دائرة الاعتماد على العناصر الأمنية في إدارة المؤسسة المدنية لأسباب سياسية واجتماعية، ويرغب في اختيار وتأهيل كوادر لديها نفس صفات الانضباط والحسم والصرامة العسكرية لقيادة مرافق الدولة أو حتى العمل بها كموظفين فيها.