"عروس الغرقة" حكاية امرأتين في رواية داخل رواية

في الرواية يتيح التاريخ نقل المشاعر الإنسانية وتوثيقها في حين يوفر الخيال فضاء رحبا لنمو الشخصيات وتطورها.
الثلاثاء 2025/03/25
قصة امرأة ترويها امرأة (لوحة للفنانة سارة شامة)

مسقط – في واحد من الأنماط السردية في الرواية، يلجأ المؤلف إلى بناء روايتين في رواية واحدة، وقد تكون إحداهما مخطوطة مثلا، كما في “سمرقند” لأمين معلوف، و”عشاق وفونوغراف وأزمنة” للطفية الدليمي، و”البيت الأندلسي” لواسيني الأعرج، ويجد القارئ الكثير من التعاشق بين شخصيات هذه وتلك على الصعيدين النفسي والفكري، وتقوم كلتا الروايتين بدور رئيس لإيصال مقولة الروائي للقارئ، وهذا نمط من شأنه أن يوسع فضاء السرد بشكل كبير، ومثير أيضا.

وفي هذا الإطار تأتي رواية “عروس الغرْقة.. سيرة انتفاضة الماء” للكاتبة العمانية أمل عبدالله الصخبورية، إذ تحكي بطلة الرواية الأساسية عن بطلة رواية أخرى، فرضت نفسها على الأحداث، التي يتداخل فيها الماضي والحاضر، والتي ما فتئت تؤكد لنا دائما أن “التاريخ يعيد نفسه”. وهي مواءمة ما بين التاريخ والخيال في الوقت نفسه، إذ يتيح التاريخ نقل المشاعر الإنسانية وتوثيقها بأمانة، في حين يوفر الخيال فضاء رحبا لنمو الشخصيات وتطورها وفق مخطط مبتكر على صعيد السرد والحكي.

تحضر الحكايات الشعبية تحضر في هذه الرواية بشكل لافت للنظر
الحكايات الشعبية تحضر في هذه الرواية بشكل لافت للنظر

في روايتها الجديدة تجترح الصخبورية زمنين متوازيين، لتبدو “عروس الغرقة” نصين لا نصا، وسيرتين لا سيرة واحدة، وعالمين مختلفين في الظاهر: عالم “غدق” الشابة العمانية (العروس) وحياتها الجديدة في منزل سعود “الزوج”، الذي حددته الكاتبة بعام 2007، وعالم “زيانة حمد”، المولودة في زنجبار لوالد عماني وأم زنجبارية.

تبدأ الصخبورية روايتها بعبارة أقرب إلى اللوحة الفنية، تقول فيها “إنها ليست مجرد رواية.. إنها كلمات من لحم ودم”. وتضيف مدخلا لروايتها تقول فيه “في رحلة التردد، ما بين مواجهة مخاوفنا وبين الهروب منها، سيكون القرار الصائب هو ما نقدِم عليه في نهاية المطاف”.

يحضر الماء في الرواية بوصفه معادلا موضوعيا للمستقبل، فلا بد من انتفاضة لهذا الماء كي تتحقق كينونته، ومن هنا جاء العنوان الفرعي للرواية “سيرة انتفاضة الماء”، وبطبيعة الحال فإن للماء مكانة متأصلة في تفاصيل حياة الإنسان وممارساته بعامة، وبتفاصيل وحياة العمانيين بخاصة، فبينما هو شحيح ونادر ومطلوب، فإنه قد يتوفر بشكل يخلف الكوارث الطبيعية، بيد أن الأسئلة في الرواية حوله ستظل تطوف وتسعى.

 ومن ذلك ما يطالعنا في مستهل الرواية “غدق.. هكذا أسمتني أمي وهي تكابد آلام المخاض، وماء الولادة ملأ أربعة سطول. والسيل في الخارج يجلد الأرض بغزارته. قال الجميع إن مقْدمي على الدنيا خير، لذا لا بد أن يكون لاسمي نصيب من ذاك الغيث الذي روى العباد والزرع والبهائم بعد طول انقطاع، أيد الكل وبارك انتقاء أمي لاسمي: غدق”.

وتحضر الحكايات الشعبية في هذه الرواية بشكل لافت للنظر، بخاصة تلك التي ارتبطت بالماء. ففي الفصل المعنون بـ”غدق” تصارح البطلة نفسها بخبيئة مشاعرها فتقول “كنت أكثر جبنا من مواجهة الماضي، كنت أضعف عزيمة من ذاكرتي، كانت ذكرياتي شرسة كجلاد منزوع الرحمة، ترى أين غادرت تلك الشجاعة التي استنهضتها في لحظة الشدة؟”.

أما الفصل المعنون بـ”صندوق مجهول الهوية” فتقول فيه الساردة حول ما تعرضت له البطلة الحالية، ومدى حرصها على صندوق أسرار البطلة التاريخية “عادت غدق من غمار ذكرياتها وهي وسط كومة لا تحصى من الأشياء، في تلك الأثناء ورغم انشغالها الشديد في إنهاء ترتيبات الانتقال إلى البيت الجديد، وجدت نفسها تقف وتلقي كل ما في حِجرها عدا صندوق زيانة، احتضنته قرب صدرها وفي يدها اليمنى الرسالة الأخيرة”.

وتستكمل الساردة بعيد فقرة واحدة في الفصل نفسه متحدثة عما قررته “غدق” (بطلتها الأولى) في ما يخص صندوق “زيانة” (بطلتها الثانية) “قررتْ أخيرا أن تخرج من صومعة صمتها، أن تتكلم عن كل شيء، أن تفرغ حمولة قلبها وتحكي تفاصيل النكبة، ذلك الصندوق وحكاية صاحبته. رجت غدق أختها أن تكتب نيابة عنها، عن كل ما مروا به، وما سيفعلونه حيال صندوق زيانة، طلبت منها كذلك، أن تعيد كتابة رسائل زيانة وسط حكايتها وحكايات الآخرين ممن عاشوا أزمة الماء الغاضب، لعل أحدهم يقرأ لها ويعرفها”.

الماء يحضر في الرواية بوصفه معادلا موضوعيا للمستقبل، فلا بد من انتفاضة لهذا الماء كي تتحقق كينونته، وبطبيعة الحال فإن للماء مكانة متأصلة في تفاصيل حياة الإنسان وممارساته بعامة

وفي الفصل المعنون بـ”مذياع مفقود” تقول الساردة واصفة ما تعرضت له أسرة “سعود” زوج “غدق” من أهوال قائلة “كان الأب جالسا على طابوقة في زاوية من الفناء وهو يتأمل بحزن ركام داره ويفكر من أين له أن يبدأ وقد فقد داره ومزرعته التي أفنى شبابه في خدمتها؟ ليضيع كل ذلك في ساعات قليلة تحت الماء”.

وتحت عنوان “رسالة زيانة حمد (8)” في فصل آخر تتحدث الساردة عن ذلك الشعور الذي غزا قلب زيانة للمرة الأولى حين شعرت ببوادر الحب فتقول “يا الله! شعور جميل يلامس قلبي لأول مرة. لا أعلم ما الذي أربك مشاعري حين وقعت عيناي عليه، لطالما رسمت حدودا فاصلة بين قلبي وبين عالم الرجال، ولكن ما حصل هنا أمر مختلف، ثمة مشاعر تقتحم سدود قلوبنا وتعلن انتصارها أمام ما آمنا به ذات يوم”.

وتلجأ الروائية إلى استخدام تقنية “التدوير” في نهاية الرواية، من خلال استخدامها فقرة تصلح لأن تكون مفتتحا للرواية، إذ تقول “عادت إلى المقهى الذي كانا يجلسان فيه لتناول وجبة خفيفة، كان قلبها يخفق بشدة من قوة الركض وبعد المسافة التي قطعتها إلى المقهى، تنفست الصعداء حين وجدت مسودة رواية ‘عروس الغرقة’ في مكانها على الكرسي الذي كان بجانبها. في تلك الأثناء سمعت تنبيها من مكبرات الصوت: النداء الأخير، على السادة المسافرين على متن الرحلة المتوجهة إلى تنزانيا زنجبار، التوجه حالا إلى الطائرة قبل إغلاق البوابات”.

يذكر أن أمل عبدالله الصخبورية قدمت العديد من الحلقات واللقاءات التطوعية المختصة بالقراءة والكتابة في محافل ثقافية على المستويين المحلي والعربي. صدر لها “مفتاح الخريطة إلى مملكة أمل” (2020) و”تعويذة الوادي” (2022).

12