عدم توفر المدارس الدامجة يحرم آلاف الأطفال ذوي الإعاقة الذهنية في تونس من حقهم في التعلم

لا تزيد نسبة تمدرس الأطفال ذوي الإعاقة في تونس عن 5 في المئة، وهي نسبة ضئيلة وفق الخبراء الذين يدعون إلى المزيد من تضافر الجهود بين الدولة والمجتمع المدني من أجل تحسين البنية التحتية في المؤسسات التربوية حتى تصبح قادرة على دمجهم. ويجد أطفال التوحد، خصوصا، صعوبة في الدمج نظرا إلى صعوبة توفير مرافقين لهم يصحبونهم إلى المدارس ومختصين في النطق والكلام والتأخر الذهني.
مريم مطيراوي
تونس - يجد الآلاف من الأطفال المعاقين ذهنيا في تونس أنفسهم بمنأى عن مقاعد الدراسة مع كل عودة مدرسية، وذلك بسبب غياب المدارس الدامجة.
ويزيد غياب الظروف المراعية لأنواع الإعاقات والبعد الجغرافي من معاناة هذه الفئة، وخصوصا أطفال التوحد الذين تفرض إعاقتهم توفير عنصر مرافق لهم، وكذلك ضرورة حصولهم على بطاقة إعاقة حتى يتسنى دمجهم في المؤسسات التعليمية العمومية.
وفي الوقت الذي عاد فيه أكثر من مليوني تلميذ وتلميذة إلى مقاعد الدراسة في بداية السنة الدراسية الجديدة يقبع ياسين (طفل متعدد الإعاقات) في المنزل إلى جانب أمه التي تحاول ببعض الأدوات المدرسية والمحامل التعليمية تلقينه بعض الأحرف والألوان والأشكال.
وقالت أم ياسين، التي اختارت أن تبقي ابنها في المنزل وتعتني به وتتولى تعليمه بنفسها، “ذنب ابني الوحيد أنه ولد حاملا لإعاقات”. وأضافت أن قرارها التخلي عن حياتها الاجتماعية لم يكن سهلا في البداية، لكن ما عاشته من صعوبات في إيجاد مكان لابنها البالغ من العمر 13 عاما في المدارس العمومية أو حتى في المراكز الخاصة جعلها أمام خيار وحيد وهو إبقاؤه في المنزل.
مشكلات دمج الأطفال المعاقين في المدارس تجبر أولياء أمورهم على اللجوء إلى القطاع الخاص والمراكز المختصة
وتابعت “لقد تعرض ابني إلى شتى أشكال التمييز داخل المؤسسات التربوية العمومية والخاصة، فالدولة لا تعترف بأطفالنا المختلفين ولا توفر لهم فرصة التمتع بأبسط حقوقهم كمواطنين. فنحن أولياء الأطفال حاملي الإعاقة أو المصابين بطيف التوحد أو الذين يعانون صعوبات في التعلم بصفة عامة نتعرض إلى إنهاك نفسي ومادي مضاعف حتى يتمتع أطفالنا بأبسط حقوقهم في التعليم”.
وقال والد طفل مصاب بطيف التوحد إن محاولة دمج ابنه المصاب باضطراب التوحد في المدرسة العمومية باءت بالفشل بسبب عدم تمكنه من الحصول على بطاقة إعاقة وهو شرط ضروري لتقديم مطلب التسجيل إلى اللجنة المعنية، مشيرا أيضا إلى عدم تعاون إدارة المدرسة آنذاك ورفضها دخول مرافق لابنه إلى الفضاء المدرسي.
وأكد الأب أنه لم يحاول مرة أخرى تقديم مطلب في الغرض أو الحصول على بطاقة إعاقة درءا للعراقيل الإدارية وطول مدة الانتظار واتجه إلى القطاع الخاص لتعليم ابنه منذ سن السادسة إلى غاية 16 عاما (عمره الحالي) رغم الكلفة الباهظة التي يتكبدها شهريا لدفع معاليم الدراسة والرعاية.
ولاحظ أولياء أمور في لقائهم مع وكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات) أن الدمج المدرسي مسار معقد لا يشمل كل الفئات، وأن عملية الدمج المدرسي بالنسبة إلى الأشخاص ذوي الإعاقة في المؤسسات التربوية معقدة وتستوجب عدة شروط، ما يدفعهم إلى اللجوء إلى القطاع الخاص والمراكز المختصة لتعليم أبنائهم وتوفير الخدمات اللازمة لهم التي تتماشى مع نوع الإعاقة.
ويبرز دليل “التربية الدامجة في قلب ديناميكية التنمية المحلية” الصادر سنة 2022 عن المنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة بالشراكة مع وزارة التربية أن عملية الدمج المدرسي تتطلب أولا الحصول على بطاقة إعاقة لإعداد ملف يحتوي على وثائق أخرى ومطلب موجه إلى الإدارة الجهوية للتعليم، وفي صورة قبوله تتم إحالته إلى قسم النهوض الاجتماعي وصولا إلى مرحلة التقييم التي يُستدعى فيها ولي الأمر من طرف أخصائي نفسي بقسم النهوض الاجتماعي لتقييم الوضع النفسي لطفله قبل عرض الملف على اللجنة الجهوية للأشخاص ذوي الإعاقة.
وأشار التقرير الوطني حول وضع الطفولة، الصادر عن وزارة الأسرة في مايو 2022، إلى أن نسبة تمدرس الأطفال ذوي الإعاقة محدودة ولا تتجاوز 5 في المئة وأن الآلاف من الأطفال حاملي الإعاقة يتخلفون عن الالتحاق بالمدارس بسبب عدم قدرة المؤسسات التربوية على توفير فرص لإدماجهم وتمكينهم من حقهم في التعلم، مؤكدا أن “عدد المتمدرسين من ذوي الإعاقة محدود جدا مقارنة بالآلاف الذين لا يشملهم حق التمدرس سواء لعدم توفر المدرسة الدامجة أو لعدم تحقيق الظروف المراعية لأنواع الإعاقات أو البعد الجغرافي”.
“ولا تتجاوز نسبة التمدرس للأطفال ذوي الإعاقة 5 في المئة رغم ترسانة القوانين المتوفرة في تونس والتي تضمن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في التربية والتعليم والاندماج”، حسب ما أفاد به “وات” رئيسُ الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الأطفال معز الشريف.
وأضاف الشريف أن “أصحاب الإعاقة في تونس مغيبون ومنسيون من إستراتيجيات الدولة التي يجب عليها أن تفكر في وضع خطة شاملة تستجيب لاحتياجات هذه الفئة وتأخذ في الاعتبار الإمكانيات المتوفرة”.
واعتبر الشريف أن تونس تفتقر إلى إستراتيجية واضحة تتعلق بإدماج ذوي الإعاقة في المؤسسات التربوية، مشيرا إلى أن جل هياكل الدولة، وخاصة المدارس، غير مؤهلة لاستقبال حاملي الإعاقة.
وقال “من المهم أن تشرع الدولة في رسم إستراتيجية واضحة لعملية دمج هذه الفئة انطلاقا من إقرار إجبارية التصريح لدى وزارة الصحة بالأطفال حاملي الإعاقة وصولا إلى إدماجهم في المؤسسات التربوية العمومية”.
وأوضح المكلف بمأمورية لدى وزارة التربية هشام الشابي في تصريح لـ”وات” أن الفئات المعنية بالدمج في المؤسسات التربوية العمومية تتمثل في أصحاب الإعاقة العضوية والإعاقة السمعية مرفقة بآلة سمع والإعاقة الذهنية من الصنف الخفيف (يحددها الخبراء)، بالإضافة إلى الإعاقة البصرية (فقدان أو ضعف البصر) وأطفال التوحد إذا توفرت فيهم الشروط على غرار الحصول على بطاقة إعاقة التي تعد شرطا أساسيا لتقديم مطلب الدمج المدرسي.
غياب الظروف المراعية لأنواع الإعاقات والبعد الجغرافي ويزيد من معاناة أطفال التوحد الذين تفرض إعاقتهم توفير عنصر مرافق لهم
وأشار إلى أن وزارات الصحة والشؤون الاجتماعية والتربية تصدر مع اقتراب كل سنة دراسية تربوية وتحضيرية جديدة منشورا مشتركا لدعوة اللجان المعنية إلى الاجتماع ودراسة الملفات في مرحلة أخيرة.
وجاء في المنشور الأخير الصادر في 17 أغسطس 2023 أن “المواعيد المنظمة لمختلف العمليات والإجراءات الخاصة بالدمج تضبط من قبل المندوبية والمدراء ضمن وزارات التربية والشؤون الاجتماعية والصحة المعنيين بالأمر على ألا تتجاوز موفى شهر أغسطس 2023، وتتم عملية التسجيل بالمؤسسات التربوية تبعا للمواعيد المضبوطة التي تحددها المناشير الصادرة عن وزارة التربية المتعلقة بالتسجيل وتأكيد التسجيل، على أن تبقى اللجان مفتوحة للنظر في مطالب الدمج على امتداد السنة الدراسية”.
وينص المنشور على العمل على مواصلة تجويد عملية الدمج في المدارس الابتدائية وبالمدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية العمومية والخاصة وتهيئتها لاحتضان التلاميذ المعنيين في مفتتح السنة الدراسية 2023 – 2024 ووجوب توفير الظروف الملائمة لضمان حق هذه الفئة في الدمج المدرسي وفي العملية التربوية على قدم المساواة مع غيرها من التلاميذ.
وقال الشابي في التصريح ذاته إن نصا قانونيا سيصدر قريبا لينظم عملية دمج مختلف الصعوبات التعليمية في مفهومها الواسع على غرار صعوبات واضطرابات التعلم والتوحد فضلا عن طرح هذا القانون لتطويعات بيداغوجية جديدة، وذلك من أجل تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والأخذ بعين الاعتبار جل المشاكل التي يتعرض لها التلميذ “المختلف”.
وبخصوص عملية تكوين الإطار التربوي في تعليم ومرافقة الأشخاص ذوي الإعاقة، أشار الشابي إلى اهتمام وزارة التربية بهذه المسألة، حيث شرعت في تكوين موجه للمدرسين الذين لديهم تلاميذ من ذوي الإعاقة في تونس الكبرى كتجربة أولى.
وكانت السنة الدراسية 2021 – 2022 قد شهدت دمج 4893 تلميذا من ذوي الإعاقة في المرحلة الابتدائية و2090 تلميذا في المرحلتين الإعدادية والثانوية، حسب المتحدث ذاته.

كما أعلنت وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن عن سعيها خلال السنة الدراسية 2023 – 2024 إلى دمج 600 طفل من ذوي طيف التوحد في رياض الأطفال العمومية والخاصة، وذلك في إطار تنفيذ البرنامج الجديد لدمج الأطفال ذوي طيف التوحد ضمن مؤسسات الطفولة والذي لا يزال في طور التجربة النموذجية.
وكان قد تم قبول 314 طفلا من ذوي طيف التوحد في رياض الأطفال العمومية والخاصة في السنة الدراسية المنقضية. ومن جهتها أفادت وزارة الشؤون الاجتماعية بأن هذه السنة سجلت انطلاق عمل المركز الدولي للنهوض بالأشخاص ذوي الإعاقة و24 مركزا نموذجيا للتربية المختصة بكل محافظة، مذكرة بأنها أمنت العودة المدرسية لفائدة حوالي 15 ألف تلميذ من ذوي الإعاقة في حوالي 312 مركز تربية مختصة تابعا للجمعيات العاملة في مجال الإعاقة.
وتتطلب عملية الدمج المدرسي توفر الموارد المادية والبشرية ويضطلع مرافقو ذوي الإعاقة داخل الفضاء المدرسي بدور هام في عملية الدمج، وهو قطاع غير منظم ويتطلب تدخل وزارة التربية لتمكين هؤلاء المرافقين من حقهم في العمل اللائق فضلا عن ضمان جودة الخدمات المقدمة للأشخاص ذوي الإعاقة.
وأوضحت المرافقة المدرسية لذوي الإعاقة آية مولهي أن أغلب المرافقين يشتغلون دون عقد وبأجر شهري زهيد جدا يدفعه الولي، مشيرة إلى أنه يمكن لأي شخص حاصل على شهادة الباكالوريا تلقي تكوين في مجال المرافقة من قبل إحدى الجمعيات المهتمة بذوي الإعاقة.
وبينت أن مهمة وزارة التربية تتمثل بالأساس في عرض المرافق على أخصائي نفسي، الذي يمكنه من وثيقة تخول له ممارسة هذه المهنة داخل الفضاء التربوي دون أي شروط أخرى كضرورة الحصول على شهادة جامعية أو غيرها.
وقالت إنها تشتغل في الغالب بصفة تطوعية وإنسانية لمساعدة الأطفال المحتاجين، وذلك بعد أن تلقت تكوينا ضمن الجمعية التونسية “فرح لإدماج أطفال التوحد وذوي الاحتياجات الخصوصية”.
وعن عملية الدمج المدرسي، التي وصفتها الأم رفيقة منتصري بـ”المغالطة الكبيرة في تونس” خلال حديثها عن وضعية الأشخاص ذوي الإعاقة داخل المدارس العمومية، فهي تحتاج سواء أكانت كاملة أم جزئية إلى توفر موارد بشرية مختصة تدعم الفريق المدرسي على غرار الأخصائيين في تقويم النطق والكلام والتأخر الذهني والمدرسي والأخصائيين في الحركة العضوية وغيرهم، حسب نوع كل إعاقة ومختلف اضطرابات التعلم.
واعتبرت في تصريح لـ”وات” أن المدرس وحده غير قادر على مرافقة التلميذ حامل الإعاقة، مشددة على أن وضعية الأشخاص ذوي الإعاقة تستوجب المزيد من العمل وتضافر الجهود بين الدولة والمجتمع المدني، إضافة إلى ضرورة تحسين البنية التحتية في المؤسسات التربوية بما يتماشى مع حاجيات هذه الفئة.