عدم اليقين يلف فرص تعافي أسواق الحبوب في 2023

نذر عودة صدمة الأسعار مع احتمال تقلص المشتريات الآجلة.
الجمعة 2023/02/24
برأيك كم حمولة الباخرة؟

حملت توقعات محللين وتجار حول تعافي أسواق الحبوب هذا العام في طياتها تشاؤما بالنظر إلى التركة الثقيلة التي لا تزال تخلفها تداعيات الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وسط تنامي التحذيرات من أنه إذا لم تتدارك الحكومات سريعا الخطر فقد يبقى قائما حتى مع إضافة مساحات زراعية.

لندن - يزيد استمرار توتر الأوضاع بين روسيا وأوكرانيا من حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية هذا العام في ظل احتمال عودة الأسعار إلى الارتفاع مجددا وعدم مجازفة المشترين بزيادة الشحنات.

وبعدما أدت تقلبات الإمداد إلى توسيع مكاسب تجارة الحبوب على مدى أشهر، تراجعت الأسعار العالمية إلى مستواها ما قبل النزاع عقب عام من اندلاع الحرب في شرق أوروبا، ما يشكل نقطة توازن هشة في “أجواء حرب باردة”.

ولكن مع ارتفاع الأسعار وتقلبها يخفض مشترو القمح على مستوى العالم مشترياتهم من الإمدادات المستقبلية، غير أن هذا يزيد من تعرضهم لارتفاع الأسعار المحتمل الذي سينتهي به الأمر إلى إثقال كاهل المستهلكين الذين يعانون بالفعل من تضخم أسعار الغذاء.

وأكد محللون وأصحاب مطاحن وتجار أن المشترين يجرون في البلدان المستوردة الرئيسية في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا عمليات شراء آجلة للإمدادات من أجل تغطية الاحتياجات لشهرين إلى ثلاثة أشهر فقط مقابل عمليات الشراء المعتادة لتغطية فترة تصل إلى ستة أشهر.

وعادة ما يستغرق ارتفاع أسعار الحبوب شهورا حتى يشعر به المستهلكون لأن المطاحن تمتلك المزيد من الإمدادات ويمكنها تحمل التقلبات.

أولي هوي: المشترون غير مستعدين لتحمل المخاطر لتغطية الطلب
أولي هوي: المشترون غير مستعدين لتحمل المخاطر لتغطية الطلب

لكن مع انخفاض المخزونات وتراجع عمليات التسليم الآجلة، سيشعر المستهلكون، خاصة في البلدان الفقيرة، بتأثير ارتفاع الأسعار بسرعة أكبر.

وقال فين زيبيل، اقتصادي الأعمال الزراعية في بنك أستراليا الوطني، لرويترز “أصبحت مطاحن القمح والمستهلكون أكثر تحفظا في مشترياتهم بسبب تقلبات السوق”.

وأضاف “لا تزال الأسعار في سوق التجزئة مرتفعة، كما أن تضخم أسعار المواد الغذائية يمثل مشكلة خطيرة للغاية”.

وقفزت العقود الآجلة للقمح في بورصة شيكاغو إلى مستوى قياسي في مارس الماضي بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهما دولتان رئيسيتان في تصدير الحبوب.

وأدى سوء الأحوال الجوية في مناطق منتجة أخرى إلى انخفاض الإمدادات. وانخفضت العقود الآجلة 48 في المئة منذ ذروتها العام الماضي، لكن أسعار الحبوب لا تزال مرتفعة وسط حالة الضبابية بشأن الإمدادات في منطقة البحر الأسود والمخاوف بشأن المحصول في الولايات المتحدة.

وتتواصل شحنات الحبوب من البحر الأسود بموجب اتفاق تدعمه الأمم المتحدة، لكن هذا الاتفاق قيد إعادة التفاوض في محادثات تبدأ هذا الأسبوع وسط خطر تصاعد الحرب.

وقال أولي هوي، مدير الخدمات الاستشارية في شركة أيكون للسمسرة الزراعية في سيدني، إنه نتيجة ارتفاع الأسعار صار المشترون غير مستعدين لتحمل مخاطر شراء الحبوب لتغطية الاحتياجات المستقبلية رغم أن ذلك يعرضهم لأسعار أعلى إذا قلت الإمدادات.

وأضاف “هناك الكثير من القمح المتوفر من البحر الأسود وأستراليا ويمكن أن تنخفض الأسعار في غضون ثلاثة أشهر من الآن”.

ولكن هوي لفت إلى أنه إذا توقفت روسيا عن التصدير، فإن الأمور ستتغير بشكل كبير، وقد ترتفع كلفة القمح بنحو 50 دولارا للطن. وبالنسبة إلى المشترين، قد يحمل الانتظار مكافأة أكبر بدلا من المخاطرة.

ويقوم أصحاب المطاحن وغيرهم من مشتري القمح بتصفية مخزوناتهم. ومن المتوقع أن تتراجع مخزونات القمح العالمية حتى يونيو القادم إلى 269.34 مليون طن، من 276.70 مليون طن قبل عام، في ثاني انخفاض سنوي، وفقا لبيانات وزارة الزراعة الأميركية.

وقال تاجر حبوب ألماني “من المرجح أن تتلقى تركيا ومصر والصين وكوريا الجنوبية الضربة الأكبر من وجهة نظري”.

وتظهر بيانات وزارة الزراعة الأميركية أن المخزونات في مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، من المتوقع أن تنخفض إلى 3.4 مليون طن بنهاية يونيو المقبل، وهو أدنى مستوى في 18 عاما.

ويقدر أن تصل المخزونات في الهند، ثاني أكبر مستهلك للقمح في العالم، إلى نحو 12.6 مليون طن في يونيو المقبل، أي أقل من نصف المخزونات قبل عامين.

مع انخفاض المخزونات تتراجع عمليات التسليم الآجلة
مع انخفاض المخزونات تتراجع عمليات التسليم الآجلة

وعادت أسعار الحبوب بشكل عام إلى مستواها ما قبل الحرب، من بورصة شيكاغو إلى بورصة يورونكست، عند 300 يورو (نحو 320 دولارا) للطن الواحد، حتى أن سعر الذرة سجل تقدّما على سعر القمح الثلاثاء الماضي في الأسواق الأوروبية.

ويرى الباحث سيباستيان أبيس، المدير العام لنادي ديميتر الفكري حول الزراعة، أن “التراجع النسبي” للصدمات التضخمية التي حدثت عام 2022 والتي ضاعفت أسعار القمح وزادت أسعار الأسمدة بثلاثة أضعاف، أدّت إلى وضع “مطمئن بشكل مصطنع”.

ويوضح الباحث في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية ومؤلف كتاب “جيوسياسة القمح” لوكالة الصحافة الفرنسية أن “هناك الكثير من الدول في العالم حيث المواد الغذائية باتت اليوم أغلى والمخزون أقلّ والصعوبات الهيكلية أخطر مما كانت عليه قبل عام”.

وأعادت الحرب في أوكرانيا، وهي من بين أكبر مصدري الحبوب في العالم، خلط الأوراق؛ فقد خسرت البلاد ربع أراضيها الزراعية، مع تراجع الإنتاج بنسبة 40 في المئة خلال العام الماضي.

سيباستيان أبيس: التراجع النسبي لصدمة التضخم أفرز طمأنة مُصطنعة
سيباستيان أبيس: التراجع النسبي لصدمة التضخم أفرز طمأنة مُصطنعة

وأتاح فتح طرق برية جديدة نحو أوروبا، وخاصة ممرا مائيا سمح بإخراج أكثر من عشرين مليون طن من المنتجات الزراعية من المرافئ الأوكرانية منذ مطلع أغسطس الماضي، تخفيف العبء عن الدول المستوردة.

لكن تواصل المعارك والخشية من ركود عالمي أبقيا التقلب قويا في الأسواق مما يشكل هاجسا إضافيا للحكومات حول العالم من أجل تأمين الإمدادات بشكل مستقر في سوق كل بلد.

ويشير داكس ويديماير من شركة يو.أس كوموديتيز إلى أن في العام 2023 “نحن غارقون في انعدام اليقين بشأن القمح والذرة”.

وتتمّ متابعة إنتاج الذرة خصوصا في سياق انخفاض في العرض العالمي بسبب “طقس جاف جدًا” في وسط غرب الولايات المتحدة والأرجنتين، إضافة إلى انعدام اليقين بقدرات الإنتاج في أوكرانيا، والتي كانت رابع مصدّر للذرة قبل الحرب.

ويرى محللون أنه قد تكون نقطة التوازن الهشّة التي تشهدها الأسواق حاليا موضع تشكيك من جديد في حال لم يتمّ تجديد الاتفاق حول الممرّ المائي، الذي وقعته كييف وموسكو برعاية الأمم المتحدة وتركيا، في مارس المقبل.

وبحسب أبيس، فإن هناك ثلاثة عناصر أساسية سيتحتم الوقوف عندها خلال الأشهر المقبلة من هذا العام لمعرفة مدى وصول أسواق الحبوب إلى التوازن.

ويتمثل أول تلك العناصر في دور تركيا الذي يرى أبيس أنه كان أساسيا في الاتفاق على الممر لكنّها “قد تعيد تركيز أولوياتها على أجندتها الداخلية” بعد الزلزال المدمّر الذي ضربها في السادس من فبراير الحالي وقبل الانتخابات المرتقبة في مايو المقبل.

وثاني عنصر مهم هو “سلوك الصين” التي تعيد فتح اقتصادها وسترخي بثقلها على الطلب العالمي، وأخيرا الخطر الذي يشكله المناخ.

شحنات الحبوب من البحر الأسود تتواصل بموجب اتفاق تدعمه الأمم المتحدة، لكن هذا الاتفاق قيد إعادة التفاوض
شحنات الحبوب من البحر الأسود تتواصل بموجب اتفاق تدعمه الأمم المتحدة، لكن هذا الاتفاق قيد إعادة التفاوض

ويوضح أبيس “أننا إذا واجهنا حادثة مناخية في دولة مصدّرة كبرى، سنحتاج تلقائيًا أكثر إلى روسيا، التي تملك اليوم 30 في المئة من المخازن العالمية للقمح”.

ولكلّ هذه الأسباب تبقى السوق “مضطربة”، وفق السمسار إدوار دو سان - دوني لدى بلانتورو أي أسوسييه. ويشرح قائلا لوكالة الصحافة الفرنسية إنه “منذ الحرب الباردة، لم نشهد مثل هذا التوتر”.

وفي حال لم يتمّ تجديد العمل بالممر، فسيكون لذلك بعض التأثير على الإمدادات في الوقت الحالي، لكن السوق قد تسجّل ارتفاعا كبيرا للأسعار. وأوضح سان – دوني “قد نعيش إذًا من جديد سيناريو الخوف الذي شهدناه في الربيع الماضي”.

وتشير أولى توقعات الإنتاج في 2023 التي ساقتها منظمة الأغذية والزراعة (فاو) في تقرير أصدرته مطلع فبراير إلى أن الوضع قد يتحسن بعض الشيء.

وأرجعت ذلك إلى زرع القسم الأكبر من محصول القمح الشتوي في بلدان النصف الشمالي من الكرة الأرضيّة، وإلى توسّع المساحات في عدد من البلدان المنتجة الرئيسية بسبب ارتفاع الأسعار بالدرجة الأولى.

وقالت فاو إنه “بالرغم من أن أسعار الأسمدة قد انخفضت خلال الأشهر الأخيرة، إلا أنها لا تزال مرتفعة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تراجع معدلات الاستخدام مع ما لذلك من آثار سلبية محتملة”.

10