عثمان بن جلون رجل الثقة الذي يترجم رؤية العاهل المغربي عن الشراكة

“أخبرني الكثير من الأصدقاء والمقربين أنني يجب أن أتقاعد وأسلّم المسؤولية للآخرين، حديث بقي مستمرا لمدة 15 عاما، وفي كل مرة كنتُ أجيب أن كلمة تقاعد غير موجودة في مفردات عائلتنا، فنحن نعمل طالما لدينا القدرة على القيام بذلك”.
كانت تلك الكلمات تعبّر عن فلسفة أشهر رجل أعمال بالمغرب وأفريقيا، عثمان بن جلون الذي اشتغل بكل جهده ليحول البنك المغربي للتجارة الخارجية من مؤسسة مالية عامة متخصصة في تمويل التجارة الخارجية إلى مصرف متعدد الأنشطة والمهن البنكية وشبه البنكية، حتى بات أول مؤسسة مغربية خاصة تصدر سندات إيداع دولية مسعرة في بورصة لندن، بهدف زيادة تمويل رأسمال البنك بقيمة 60 مليون دولار.
في خدمة الرؤية الملكية
في السبعينات برزت قدرة بن جلون على إبرام شراكات متينة ومستدامة مع كبار مصنعي السيارات في العالم، فولفو وجينرال موتورز و”كوود يير”، جعلته يطور نشاطه التجاري، وكانت تلك بداية تنمية ثروته من نشاطه في مجال البنوك والتأمينات، وفي العام 1989 اشترى بن جلون الشركة الملكية للتأمين، ذات الرمزية التاريخية بالنسبة للقطاع المالي في المغرب، والتي تم تأسيسها في عام 1949.
عميد المصرفيين الأفارقة يستعد للبدء بـ"تحول استراتيجي رئيسي" لمجموعته المصرفية، "بنك أوف أفريكا"، في مارس المقبل، يتعلق بكافة أنشطة المجموعة في القارة على المدى البعيد
التطلعات الكبيرة لبن جلون انتهت به إلى تشييد إمبراطورية مالية لها مكانتها داخل المغرب وخارجه، باعتماد الصرامة واحترام الضوابط والمعايير المعتمدة دوليا في إدارة نشاط المصارف والتأمين، وهو ما يعكس الحس التجاري الذي ورثه عن عائلته وطوره بجهد ومثابرة، هو اقتصادي مخضرم ومن أبرز رجال الأعمال في المغرب، الذي يقود مجموعة البنك المغربي للتجارة الخارجية باعتبارها إحدى أذرع القوة الناعمة للمغرب في أفريقيا.
إذا كانت المصارف من أدوات القوة الناعمة التي يعتمد عليها المغرب داخل أفريقيا، فإن مجموعة بن جلون تلعب هذا الدور بامتياز، والتي تعمل ضمن المصارف المغربية في 30 دولة أفريقية شرقا وغربا، وهو يخدم بطريقة جيدة السياسة المغربية – الأفريقية التي خطط لها العاهل المغربي الملك محمد السادس منذ سنوات طويلة، خدمة للتنمية المشتركة والتضامن بتمويل مشاريع البنية التحتية وأخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية، مع الاستشارة في مجال تعبئة التمويلات الخارجية، ومساعدة المستثمرين المغاربة في القارة الأفريقية.
استمر بن جلون على نهج أسرته التي أسست مركزا لتجارتهم في مراكز الأعمال المحلية والعالمية في القرن السابع عشر، فهو حفيد الحاج محمد بن لفضل بن جلون أكبر مستورد لمادة الشاي الأخضر من الصين، وابن الحاج عياس بن جلون الذي أسس مقاولة عائلية كبيرة أرست صناعة النسيج في المغرب، ميزة تجارية واقتصادية جعلت من العائلة قطبا أساسيا في التجارة، وكانت سببا في القرب من البلاط الملكي في علاقة استمرت لقرون عديدة.
إلى جانب شغفه بعالم المال والاقتصاد، لبن جلون اهتمامات متعددة تتراوح بين تربية الخيول الأصيلة واقتناء اللوحات التشكيلية، مع ميزات المخاطرة والجرأة مع الموهبة والدراسة التي جعلت منه واحدا من أهم رجال الأعمال الناجحين، فاستطاع الحفاظ على إرث عائلته في خدمة الدولة، حتى عين مستشارا ماليا للملك الراحل الحسن الثاني، كما حظي بوسام العرش من درجة ضابط في العام 2010، والذي وشحه به الملك محمد السادس.
جعبة بن جلون المثيرة
لم يكن هذا الاقتصادي غائبا عندما نجح العاهل المغربي في العام 2017، في إعادة بلاده إلى الاتحاد الأفريقي بعد عقود من مغادرة هذا الكيان الهام، فكثيرا ما ترى الرجل حاضرا في أغلب الأنشطة الاقتصادية التي يحضرها الملك، وضمن الوفد المرافق له، وعلى وجه الخصوص المشاريع التي يدشنها العاهل المغربي بالدول الأفريقية، حيث يمتد نشاط مجموعته الاقتصادية إلى هناك عبر وكالات بنكية ومشاريع اجتماعية. ولم يكن غريبا ولا مفاجئا أن يحصل بن جلون على وسام قائد النجم القطبي للسويد من طرف ملك السويد، ووسام قائد من الدرجة الوطنية للأسد بالسنغال، وحامل درجة “إيكو مييندا” من درجة إيزابيل الكاثوليكية من ملك إسبانيا خوان كارلوس.
عندما تعتقد أنك تعرف كل شيء عنه، وعن استراتيجياته، فإنه يفاجئك بأنه في جعبته الكثير في المجال الذي يعمل فيه. 90 عاما رصيده من العمر، لكنه لا يزال يشتغل بهمة بالغة، فهمه لطبيعة مجال المال والأعمال وتقنياته التي تشربها من آبائه جعلاه يعيش حاضرا مع فهم للمستقبل بشكل أفضل، وها هو عميد المصرفيين الأفارقة، بن جلون يستعد للبدء بـ”تحول استراتيجي رئيسي” لمجموعته المصرفية، “بنك أوف أفريكا”، في مارس المقبل، ويتعلق بكافة أنشطة المجموعة في أفريقيا على المدى البعيد.
تنوّع أداء مؤسسات الدولة المغربية المالية والاقتصادية والتجارية والروحية والأمنية وفعالياتها مكّن المغرب من احتلال المركز السابع عربيا، في مؤشر “القوة الناعمة” الصادر عن مؤسسة “براند فينانس” في أبريل 2021، كما جاء في المركز الـ48 على الصعيد العالمي، فيما تصدرت المملكة الترتيب على الصعيد المغاربي، فالمشاريع المتنوعة منها القطاع المصرفي والتأمين خولت المغرب لتعزيز نفوذه بقوة في عدد من الدول الأفريقية، ولم يعد يقتصر فقط على غرب أفريقيا، بل إن رؤية صانع القرار بالرباط تتواءم مع توجه بن جلون المبني على البرغماتية، وصيغة الربح المشترك كانت وصفة جعلته يفتح باب التعامل مع خصوم المغرب في عقر دارهم، ففي العام 2018 قرر فتح 5 فروع لبنكه في جنوب أفريقيا وزمبابوي، اللتين تدعمان البوليساريو، وكان ينوي فتح فرع البنك في الجزائر قبل أربع عشرة سنة.
استراتيجية بن جلون الاقتصادية متناغمة إلى أبعد حد مع توجهات الدولة في الداخل والمجال الحيوي بأفريقيا، فلم تقتصر أعماله على مجال المصارف والتأمين، بل امتدت إلى حد قطاع الاتصالات والسياحة والفلاحة والنقل الجوي والبري ومجال الإعلام أيضا. وانتقلت مجموعة بن جلون إلى الأسواق الخارجية، كامتداد لتطورها الاقتصادي والتجاري، فبات لديه حضور في أكثر من 20 دولة أفريقية، لتصبح في العام 2015 “البنك المغربي للتجارة الخارجية لأفريقيا”، وبعدها بخمس سنوات تتحول إلى “بنك أوف أفريكا”.
التطلعات الكبيرة لبن جلون مكنته من تشييد إمبراطورية مالية لها مكانتها داخل المغرب وخارجه، باعتماد الصرامة واحترام الضوابط والمعايير المعتمدة دوليا في إدارة المصارف
بن جلون يقول بحسه الاقتصادي إن التغيير الذي ينشده “ليس تغييرا للسنتين أو الخمس سنوات القادمة، ولكن لأفق عام 2030، وستركز هذه الاستراتيجية الجديدة، ليس فقط على طريقة عمل المجموعة في المغرب، ولكن على كل أفريقيا، والتي تمثل 50 في المئة من نتائج مجموعتنا”.
وباعتباره ذراع الدولة المغربية في أفريقيا، فهو يرصد التطورات المتعلقة بالسياسة الصينية وغيرها من الدول الأخرى، من حيث الاستثمار والتجارة الثنائية مع الدول الأفريقية، ولهذا تعتزم مجموعته دعم المستثمرين الصينيين وشركائهم المغاربة والأفارقة المحتملين من خلال الترويج للمغرب، كوجهة ومنصة للاستثمار والتصدير في أفريقيا.
تمت تعبئة جميع فروع المجموعة لغرض الأعمال المصرفية للشركات، والتمويل المنظم والتجاري، والأعمال المصرفية الاستثمارية داخل أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويعتزم مواصلة الترويج للمركز المالي لعملاء المجموعة ومنهم الشركاء الصينيون.
خطته بعيدة المدى هي توسيع شبكة فروع “بنك أوف أفريكا” داخل أفريقيا، ويتوقع رجل الأعمال المغربي في العشرة أو العشرين عاما المقبلة أو حتى أكثر، أن تتواجد المجموعة في جميع دول القارة الأفريقية، وأن تصبح لديها فرص لتطوير التدفقات التجارية مع العملاء الحاليين والمحتملين.
طموح لا حدود له
شهية بن جلون نحو العمل دوما مفتوحة، حيث ضم إلى مجموعته في العام 1999 “الشركة الوطنية للتأمين”، و”شركة الرابطة الأفريقية للتأمين”، المملوكتين لمجموعة “التأمين الوطنية الفرنسية”، ومُولت الصفقة بقرض دولي قيمته 160 مليون دولار شاركت في تمويله حوالي 25 مؤسسة مصرفية أوروبية ودولية. وتجربته الكبيرة في الميدان جعلته يتبوأ مستشار المركز الأميركي للدراسات الاستراتيجية الدولية بواشنطن، ويصبح مستشارا لجامعة الأخوين بإيفران.
الصفقات الرابحة هي مفتاح شخصية بن جلون، حتى في مجال الأعلام الذي كان يطمح إلى أن يكون واجهة دفاعية لإمبراطوريته الاقتصادية، وتغلغل فيه أكثر رغم تعقيداته وتقاطعاته، لكنه توقف عن الإعداد لقناة تلفزيونية، خاصة بعدما لم تتم المصادقة عليها من طرف الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وعندما كانت زوجته ليلى أمزيان ابنة المارشال محمد أمزيان، مديرة نشر صحيفة أمازيغية، كان هو مالكا لمؤسسة “ماروك سوار” بقيمة مالية قدرها 440 مليون درهم، ولأسباب متعددة عنوانها تراكم ضريبي موروث باع نصيبه، ثم اقتنى أسهما في شركة “صورياد” الوصية على قناة “دوزيم” وإذاعة “ميدي 1”، قبل أن يبيعها بعد ذلك.
لا يزال بن جلون يعمل بحيوية ونشاط في المجال الذي يبدع فيه، قال عنه كبير الدبلوماسيين الأميركيين هنري كيسجر “عثمان مغربي كبير يعمل دون كلل”، فمن مدينة فاس إلى لوزان بسويسرا كانت رحلة بن جلون حافلة بالتحصيل الأكاديمي، بعد حصوله على الثانوية تخرج بعدها بسنوات من كلية البولتيكنيك مهندسا معماريا، شهادة لم يكتف بها ليشيد المباني والمصانع، بل سيكون طموحه أكبر من طموح مهندس يتقاضى أجره من الدولة، حيث سيسبح بقوة في بحر الأعمال في مجال المصارف والتأمين وقطاع الاتصالات والسياحة والفلاحة والنقل الجوي والبري، بعدما كانت انطلاقته نجاحه صحبة أخيه عمر نهاية الخمسينات مع صناعة وتركيب السيارات والشاحنات.