عثمان بطيخ.. مفتي الديار التونسية الذي تخذله السياسة

شيخ مستنير يتبع إعمال العقل ومحاولة تكييف النص القرآني مع المتغيّرات الاجتماعية العصرية، فيما يكفّره الإسلاميون ويصفوه بـ"مفتي البلاط".
الثلاثاء 2020/04/21
دور أكبر مع أزمة كورونا

كم هو صعب أن يجد المفتي نفسه بين مطرقة مطالب التجديد والتغيير خاصة ما يتعلّق بحرية الضمير وقوانين الأحوال الشخصية، وسندان قوى رافضة لذلك تعمل على شدّ المجتمع إلى الخلف، ولا تتوانى حتى عن استعمال العنف من أجل تحقيق أهدافها. وليس سهلا أن تكون مفتيا في دولة مثل تونس، وفي وقت سيطر فيه خطاب دخيل، إخواني وسلفي، اختلّت معه موازين مجتمع عاش لعقود ضمن قالب علماني إسلامي محدد، علاقة المفتي بالشعب فيه لم تتجاوز ظهوره المناسباتي للإعلان عن شهر رمضان وتحديد موعد العيدين.

تبدو مهمة المفتي أكثر تعقيدا، اليوم، في مواجهة أطراف تنازعه مسؤولية الإشراف على الإفتاء، وتعمّق حالة الفوضى السائدة في المجتمع. هذه هي حال مفتي الديار التونسية المخضرم عثمان بطيخ، الذي شغل هذا المنصب قبل ثورة يناير 2011 وبعدها، ضمن مرحلة تخللتها الكثير من المفارقات والتحديات التي جعلت من حضوره اليوم يتجاوز تلك المهام البروتوكولية التي عُرف بها قبل الثورة. فبطيخ يحضر حتى في قلب جائحة كورونا، يتواصل الناس معه ويسألونه عن الصوم وإلغاء العمرة والحج، وغير ذلك من أمور تبدو حياتية وجديدة على دور المفتي.

المساواة في الميراث

تكفيره من قبل الإسلاميين حجتهم فيه أن المفتي بطيخ "يحرم ما حلل الله" وهي التهمة التي وجهت أيضا للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، حين تقدم بمبادرة المساواة في الميراث
تكفيره من قبل الإسلاميين حجتهم فيه أن المفتي بطيخ "يحرم ما حلل الله" وهي التهمة التي وجهت أيضا للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، حين تقدم بمبادرة المساواة في الميراث

خلق الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي علاقة جديدة بين المفتي والتونسيين، وقد دعّمها بطيخ، هذا الشيخ الزيتوني المستقلّ، والذي شغل منصب وزير الشؤون الدينية في حكومة الحبيب الصيد، من خلال محاولة استيعاب خصوصية المرحلة التي يعيشها التونسيون وحالة "الفصام" التي أصابت المجتمع وانقسامه بين علماني وإسلامي، وفي بعض الأحيان يبدو كل طرف أشدّ تطرّفا في مواقفه من الآخر.

في خضم الفوضى التي رافقت فترة تحكم البعض بالخطاب الديني، سطع نجم بطيخ، حتى وصل الأمر إلى تكفيره من قبل الإسلاميين، وحجّتهم في ذلك أنه "يحرّم ما حلل الله" وهي التهمة التي وجهت أيضا للرئيس قايد السبسي، حين تقدّم بمبادرة المساواة في الميراث، وقبله الرئيس التونسي المؤسس الحبيب بورقيبة حين أقرّ مجلة الأحوال الشخصية التي ارتقت بمنظومة حقوق المرأة في تونس.

تخرّج بطيخ من المدرسة العليا للحقوق ثم أكمل دراسته في كلية الشريعة وأصول الدين. ودرّس الفقه المقارن والسياسات الشرعية بالكلية ذاتها. وشغل منصب مفتي الجمهورية التونسية منذ العام 2008 في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي واستمر حتى العام 2013، عندما قام الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي بعزله من منصب الإفتاء، إلا أنه أعيد تعيينه في بداية عام 2016 كمفتٍ لتونس مرة أخرى.

لن يتنسى لنا هنا عرض تفاصيل ما واجهه عثمان بطيخ بين سنوات 2011 و2013، كمفتٍ أو كوزير، من حملات تحريض زمن انفلات المجموعات التكفيرية. إلا أن سنة 2016 مثّلت منعرجا في مسيرة الرجل وأحدثت جدلا واسعا بين التونسيين إثر عدم اتخاذه موقفا في بداية الأمر من دعوة الرئيس قايد السبسي للمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، ما فهم على أنه مباركة، قبل أن يتدارك الأمر بالقول إن المساواة في الميراث لا تجوز شرعا.

قال حينها معلّقا على مقترح الرئيس “كانت مقترحات قايد السبسي التي أعلن عنها، تدعيما لمكانة المرأة وضمانا وتفعيلا لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، في الحقوق والواجبات التي نادى بها ديننا الحنيف في قوله تعالى: ‘ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف’، فضلا عن المواثيق الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية، التي تعمل على إزالة الفوارق في الحقوق بين الجنسين، فكانت بلادنا رائدة في مجال التقدم والحداثة ومواكبة العصر”.

مواقف المفتي قُوبلت أيضا بتحفّظ وحذر من قبل عدد من الأحزاب السياسية في تونس، التي تصنّف نفسها على أنها علمانية، إذ دعت إلى إطلاق حوار مجتمعي بشأن المبادرات المطروحة تتضمن جلّ الحساسيات والمرجعيات الفكرية، ما فُهم على أنه تملّص من إثارة جدل مجتمعي قد يؤثّر سلبا على شعبيتها ونتائجها الانتخابية

ورفض علماء جامعة الزيتونة، أيضا، قرار مساواة الميراث، كونه يعتبر “معارضة صريحة لآيات الميراث القطعية واعتداء على أحكامها، ويصادم الدستور في توطئته وفصليه الأول والسادس“، واعتبروا أن “الالتزام بالأحكام الشرعية في مسائل الميراث لا يعارض مقوّمات الدولة المدنية المنصوص عليها في الدستور”.

تجاوز الجدل الداخل التونسي ليشمل المؤسسات الدينية الكبرى في العالم العربي على غرار مؤسسة الأزهر في مصر والتي أصدرت فتوى بعدم جواز المساواة في الميراث في الجنسين، وأن النص القرآني جازم في هذه المسألة وذلك على إثر الجدل الحاصل في تونس.

وقال بطيخ في ردّه على الأزهر أنه يحترم الآراء والمواقف، موضحاً أن “كل طرف له موقف، والجميع يخوّل له إبداء الرأي، لكن أهل مكة أدرى بشعابها، ولا يمكن التدخل في شأن ونقاش داخلي في تونس، ومع ذلك علينا احترام كل المواقف وكل الآراء”. وأن الشعب التونسي “مثقف وواع ويدرك الحقيقة بشكل جيد”، مختتما تصريحه بالقول “نحن شعب مسلم نحترم ديننا”. وأعادت مواقف بطيخ حينها إلى أذهان المغاربة الجدل الذي عاشه المغرب في أكتوبر عام 2015، بعد توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمساواة في الإرث بين الرجال والنساء، وهي التوصية التي لقيت اعتراضا شديدا من رئيس الحكومة السابق عبدالإله بن كيران، بينما فضّلت المؤسسة الدينية الرسمية الصمت حيال الموضوع.

وفي نهاية الأمر استطاع الإسلاميون تجميد مقترح الرئيس قايد السبسي الذي دعّمه بطيخ في أروقة البرلمان التونسي ولم يحسم إلى حد اليوم، في وقت استبعدت فيه رئيسة لجنة الحقوق والحريات في البرلمان السابق بشرى بلحاج حميدة تمرير مشروع القانون في ظل “ماكينة دينية تقودها حركة النهضة الإسلامية”.

زواج التونسية من غير المسلم

المفتي بطيخ يحاول استيعاب خصوصية المرحلة التي يعيشها التونسيون وحالة "الفصام" التي أصابت المجتمع وانقسامه بين علماني وإسلامي
المفتي بطيخ يحاول استيعاب خصوصية المرحلة التي يعيشها التونسيون وحالة "الفصام" التي أصابت المجتمع وانقسامه بين علماني وإسلامي

مرة أخرى يجد مفتي الديار التونسية نفسه أمام جدل مجتمعي اختلط فيه الديني بالسياسي، بعد أن دعا الباجي قايد السبسي إلى تحديث القانون الذي يمنع زواج التونسية من أجنبي غير المسلم، نظرا إلى المتغيّرات التي يشهدها المجتمع وسفر المرأة إلى الخارج سواء للعمل أو الإقامة.

يقضي القانون 73 الصادر عن وزارة العدل التونسية في العام 1973 بمنع زواج المرأة التونسية المسلمة بأجنبي غير مسلم، ويوجب شهادة اعتناق الإسلام من أي رجل غير مسلم، لإتمام زواجه بتونسية مسلمة. وفي حال إبرام الزواج خارج تونس دون هذه الوثيقة، فإن عقد الزواج لا يمكن تسجيله في تونس.

واعتبر المفتي أن “ذلك فيه مصلحة للناس، ولأن العالم كله تغيّر وأصبحت هناك مبادئ وقوانين محلية وعالمية تحكم علاقة الزوج بزوجته، وتمنعه من إجبارها على شيء أو التعدي عليها أو إخضاعها له، وتحافظ على حرية العقيدة والعبادة لكل فرد”.

قوبلت تصريحات بطيخ بموجة جدل، حيث يرى البعض أنه يعطي الأولوية لاتفاقات دولية تستهدف الأسرة المسلمة على أحكام الله مثل اتفاقية “سيداو” التي تم رفع عنها كل التحفظات في غفلة من الشعب التونسي ودون استفتائه، وهو ما اعتبره البعض “جريمة ترتقي إلى الخيانة العظمى”.

وكان من المفترض أن يقود الجدال الديني والمجتمعي إلى حوار واسع بهدف تقريب وجهات النظر، وأن يحاول الإجابة عن أسئلة مهمة حول مدى ملاءمة النصوص والتشريعات الدينية مع واقعها وحول مجالات الاجتهاد الممكنة في بعض التشريعات. لكنّ الحكومة التونسية وعلى الرغم من موجة الرفض أقدمت على تلبية دعوة الرئيس التي لم يرفضها بطيخ. وأُقِرّ رسميا إنهاء العمل بالمنشور المتعلق بزواج المرأة التونسية المسلمة بغير المسلم، بعدما أصدر رئيس الحكومة في الثامن من سبتمبر2017 قرارا يقضي بإلغاء التعليمات الكتابية التي سبق أن أصدرها الوزير الأوّل في 19 أكتوبر عام 1973، ليصير متاحا بصورة قانونية زواج المرأة التونسية برجل غير مسلم، من دون تقديم شهادة من دار الإفتاء تفيد باعتناقه الدين الإسلامي مثلما كان يحدث.

البوركيني وكورونا

لم يتوقف سيل الهجمات على بطيخ. فالتحدي الآخر الذي وجد نفسه مقحما فيه في علاقة بقرار السلطات الفرنسية منع ارتداء “البوركيني” على شواطئها. وكعادتهم تلقف الإسلاميون في تونس الحادثة لإبداء أرائهم في شؤون غيرهم، ما أثار جدلا على وسائل التواصل الاجتماعي كما وسائل الإعلام، خاصة بعد أن فاجأ مفتي الديار التونسية الجميع بتصريحات جاء فيها أنه لا يرى ضرورة من ارتداء البوركيني عند السباحة. قال المفتي إن “الحديث عن البوركيني هدرة (قصة) فارغة لأن هذا اللباس الذي ترتديه المرأة وتنزل به إلى الشاطئ هو لباس صنع من القماش الذي يظهر مفاتن الجسم بل ويظهرها بالتفصيل”. وتابع لكل تلك الأسباب فإني اعتبر أن “البوركيني أمر غير ضروري بل إن لجوء المحجبة إلى لباسها العادي أفضل بكثير”. وطالب المحجبات في فرنسا بأن يبتعدن عن الأنظار أثناء السباحة تفاديا للمضايقات.

مسّت أزمة فايروس كورونا المستجد جميع القطاعات الحياتية في جلّ دول العالم، والمجال الديني كان له نصيب، وكان من بين أكثر القرارات إثارة للجدل، بعد قرار إلغاء العمرة، وربما الحجّ، توصيات الأطباء بضرورة دفن المتوفين بالفايروس دون غسلهم أو تكفينهم لمنع انتقال العدوى، إذ اعتبرها بعض الغلاة مخالفة للشريعة الإسلامية وتعديا على طرق الدفن الشرعية، على الرغم من أن ذات الشريعة تقول إن الضرورات تبيح المحظورات.

انتشار وباء كورونا في تونس تواجهه دار الإفتاء، منذ بدايته، بمساندة الإجراءات الحكومية وإغلاق دور العبادة، الأمر الذي ينتقده البعض منساقاً وراء فتاوى متشددة

جاء في بيان لدار الإفتاء التونسية أن “من المصالح الشرعية المعتبرة دينا وعقلا هو اتباع نصائح الأطباء والالتزام بها التزاما دقيقا وكاملا في هذه الفترة العصيبة من انتشار الوباء، وأن المحافظة على النفس وعلى صحة البدن هو من أهم مقاصد الدين الإسلامي وسائر الأديان السماوية”. وأشار في هذا الخصوص إلى أنه يجوز تكفين المتوفى بسبب فايروس كورونا بالصيغة التي وضّحها الأطباء ويجوز أن يصلي شخص واحد على الميت، وأن يدفن من غير غسل لما قد يحتمله ذلك من الإصابة بالعدوى، لافتا إلى أن ذلك حكم اضطراري.

ومنذ بداية انتشار الفايروس في تونس علّقت دار الإفتاء التونسية إجراءات اعتناق الإسلام توقيّا من العدوى، كما ساندت الإجراءات الحكومية على إغلاق دور العبادة، ما انتقده كثير من التونسيين، الذين انساقوا وراء فتاوى فيسبوكية وتعليقات متشددين بعيدة عن الواقع. وقد رد بطيخ على ذلك بقوله إن “الثقافة الإسلامية ليست ثقافة موت”، وذلك في مسعى إلى إقناع التونسيين بعدم الانسياق وراء تلك الأفكار المتطرفة وبالبقاء في البيوت وتبرير تعليق الشعائر الدينية، من عمرة وحج وصلاة جماعة.

أكد بطيخ أنّ حماية النفس البشرية مقدمة على الشعائر وأنّ فتواه، وفتاوى غيره من المؤهلين في أنحاء العالم الإسلامي، لا تستهدف الدين الإسلامي كما يزعم أنصار نظريات المؤامرة من المتشددين الذين يوغلون في إذكاء الفتنة باعتبار أن إيقاف الصلوات إعلان عن أن دار الإفتاء “أصبحت دار كفر“. وعلى الرغم من وصفه بـ”مفتي البلاط” من قبل خصومه ومنتقديه، اتبع بطيخ، الذي تتلمذ على أيدي أشهر الزيتونيين الإصلاحيين في تونس من أمثال الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، من خلال مواقفه الجريئة من المستجدات التي عرفتها البلاد، إعمال العقل والاجتهاد الديني ومحاولة تكييف النص القرآني مع المتغيّرات الاجتماعية العصرية والتي تستوجب إعادة النظر في جزء كبير من “العرف الاجتماعي” الذي تتشبث به بعض الفئات على أنه من “المعلوم بالدين بالضرورة”.

العقلاني والعصر

مهمة المفتي تبدو أكثر تعقيدا، اليوم، في مواجهة أطراف تنازعه مسؤولية الإشراف على الإفتاء، وتعمق حالة الفوضى السائدة في المجتمع
مهمة المفتي تبدو أكثر تعقيدا، اليوم، في مواجهة أطراف تنازعه مسؤولية الإشراف على الإفتاء، وتعمق حالة الفوضى السائدة في المجتمع

يقدّم المفتي نموذجا لجدلية النص والواقع في الفقه، ويعبّر بكل وضوح أن الفتوى تكون دائما بين النص الشرعي المنطَلق وبين الواقع الذي تتوجّه نحوه، ويستلهم أفكاره وتصوراته من المدرسة الأشعرية العريقة والمذهب المالكي، أكثر المذاهب الإسلامية تعويلا عن العقل واجتهادا في تأويل النص القرآني وتكييفه مع متطلبات الحياة العصرية. على خلاف بقية المذاهب التي تعتبر أكثر تشددا في التعامل مع النص.

يعيب البعض على بطيخ عدم الاستدلال بالآيات القرآنية في تصريحاته وحتى في فتواه، ما دفع البعض إلى التشكيك حتى في قدراته الفقهية عندما ساند العلم كطريقة لمجابهة الوباء. لكن، اللحظة هي علمية طبية بامتياز والتعويل على النظريات العلمية لمواجهة الجائحة هي عين العقل، فالقرآن الكريم يأمرنا بالقراءة ويطلب اللجوء إلى العلم قبل التعويل على الغيب.

13