عبقرية بليغ

الكثير من الجمال والسحر، والكثير من التمرد والجنون، والكثير من التدفق الاستثنائي فنيا وعاطفيا، وحياة أقرب ما تكون إلى البوهيمية، ورحلة حياة مليئة بالأحلام والآلام والأحزان والغربة، وحب كبير لمصر، ونبوغ فطري لا يمكن تفسيره إلا بعظمة الموهبة التي سكنته منذ طفولته، ذلك هو بليغ حمدي الذي سبق عصره، وأعطى للموسيقى العربية رصيدا رائعا من الألحان التي تحمل شروط التألق والبقاء.
قبل 30 عاما، تحديدا في 12 سبتمبر 1993، رحل بليغ وهو في الثانية والستين من عمره، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، ونحت اسمه في سجل الخالدين، وبعد أن ساهم، وبدور كبير، في تشكيل الوجدان المصري والعربي. كانت حياته مكتظة بالحركة والتميز والإبداع والحب، وكانت تجربته متفردة بثرائها وتنوعها وتعدد مساراتها وألوانها. ما قدمه لوردة وعبدالحليم وشادية ومحمد رشدي وفائزة أحمد ونجاة وعفاف راضي وصباح ومحرّم فؤاد والعزبي وغيرهم، لايزال متوهجا بخلاصة عبقريته التي تدل عليه بما له من خصوصيات أهمها أن موسيقاه “قريبة من الناس وأليفة وعشرية” كما وصفها محمد عبدالوهاب .
إذا اتجهنا إلى عالم أم كلثوم مثلا، فإن بين أغانيها العشر الأكثر انتشارا، هناك ستّ منها من ألحان بليغ حمدي، “سيرة الحب”، “بعيد عنك”، “الحب كله”، “ألف ليلة وليلة”، “فات الميعاد”، و”أنساك”. أول عمل غنته كوكب الشرق لبليغ هو “حب إيه” كلمات عبدالوهاب محمد في العام 1960، نفس الثنائي اجتمع في آخر أغنية سجلتها في أستوديو ولم يمهلها القدر لأدائها في حفل عام قبل رحيلها في فبراير 1975، وهي “حكم علينا الهوى”.
ولد بليغ في حي شبرا بالقاهرة في 7 أكتوبر 1931، كان والده يعمل أستاذا للفيزياء في جامعة فؤاد الأول، أتقن العزف على العود وهو يتم السابعة من عمره، وعندما بلغ 12 عاما قرر أن يدرس أصول الموسيقى، لكن صغر سنه حال دون ذلك. التحق بكلية الحقوق، وفي نفس الوقت انتسب بشكل أكاديمي إلى معهد فؤاد الأول للموسيقي (معهد الموسيقى العربية حاليا).
كل المؤشرات كانت تدل على أنه حالة استثنائية في مجال الإبداع، كان نهرا يتدفق بالأنغام، وعواصف تهبّ بالألحان. عشرات وربما مئات من الأغاني كتبها بنفسه ونسب كلماتها إلى بعض أصدقائه من الشعراء. في منتصف الخمسينات أقنعه محمد حسن الشجاعي مستشار الإذاعة المصرية باحتراف الغناء، وبالفعل سجل للإذاعة أربع أغنيات، لكن عشقه للتلحين تغلب عليه، قدم في العام 1955 أغنيتين لفائدة كامل، وانتشرت له أغنية “ما تحبنيش بالشكل ده” لفائزة أحمد، وساعدته علاقته بالفنان محمد فوزي على أن يتعرف من خلال شركته “مصر فون” على عبدالحليم حافظ ويقدم له أغنية “تخونوه” في العام 1957، ثم تعرف على أم كلثوم التي وجدت فيه روحا مختلفة وحالة فنية لا يمكن تشبيهها إلا بسيد درويش.
حوالي 1500 أغنية قدمها بليغ بين عاطفية ووطنية واجتماعية ودينية. اليوم تحتل تلك الأغاني المراتب الأولى في مداخيل الأداء العلني من قبل مؤسسات حقوق التأليف، وهي الأكثر اختراقا للزمن من خلال البث الإذاعي والتلفزيوني ومن حيث الانتشار والتردد على ألسنة الناس في الحفلات العامة والخاصة، وكذلك من حيث إعادة التسجيل بأصوات الفنانين الجدد الذين لم يعرفوه عن قرب.
يبقى بليغ حمدي حالة فنية متفردة في جمالها وجلالها وثرائها وصدقها وكأنه أعاد تأسيس أصول الموسيقى العربية وتشكيل ملامح الغناء الشرقي .