عبدالوهاب عبدالمحسن.. رسام الماء والأرض والهواء

كانت الطبيعة هي المصدر الأول للرسم. حين لجأ إليها الانطباعيون ووقفوا أمامها بشكل مباشر فإنهم فعلوا ذلك من أجل أن يختبروا قدرتهم على استخراج تجليات جمالها المختلفة. ولكن أحدا منهم لم يزعم أنه قبض على الخلاصة بالرغم من أن نقاد الفن في وقت متأخر صاروا يزعمون بأن كلود مونيه فعل ذلك.
لم يمش المصري عبدالوهاب عبدالمحسن في أثر مونيه حين سعى إلى أن يستلهم جمال الكائنات الحية ممزوجا بجمال الطبيعة ليصل إلى نتائج مختلفة عن تلك التي وصل إليها الرسام الفرنسي الذي مهد في نهاية حياته لولادة التجريد الصافي.
قرب الماء
نزعة عبدالمحسن إلى التجريد تظل مرتبطة بأثر الكائنات الحية التي تعيد المتلقي إلى مفردات المكان الذي عاش فيه الفنان ووقع تأثيرها النفسي على مزاجه التعبيري. بصريا كانت مدينة كفر الشيخ حاضرة في جميع لوحاته. وكان الماء هو سيد العناصر المرئية التي شكلت عالما لإلهامه.

“قرب الماء” هو عنوان معرضه الذي أقامه العام الماضي. لم يكن في حاجة إلى أن يخبرنا بأنه كان دائما يقف قريبا من الماء وهو يرسم. كل لوحاته مترعة بالماء. كان احتجاجه على تجفيف البحيرات الطبيعية قد دفعه إلى إقامة ملتقى فني باسم بحيرة البرلس يقوم فيه الرسامون بالرسم على الحيطان والقوارب.
يعيد عبدالمحسن اكتشاف علاقة الإنسان بالطبيعة. وهي علاقة بصرية تقوم على أساس ما يراه الإنسان وما يتذكره من الطبيعة في الوقت نفسه. علاقة يسترسل الرسام في تصفح دفاترها. كل صفحة تشير إلى تطور أسلوبه، ليس في النظر إلى الطبيعة وحسب، بل وأيضا في التفكير في الرسم باعتباره وسيلة لتهذيب صورة الطبيعة والوصول بها إلى نقطة فنائها التجريدي.
صياد طيور أسطورية
يلتقط عبدالمحسن المعاني الأسطورية التي تختفي وراء المفردات المتاحة من الطبيعة ليرسم تلك المفردات كما لو أنه لم يستعرها من الطبيعة. فهو يعيد صياغة أشكالها. الطيور مثلا. إنها طيوره التي لا تجد لها مثيلا إلا في رسومه بالرغم من أنه كان قد تذكرها أو حلمها. هنا تتنافس الطبيعة والطفولة على الإلهام.
لا أعتقد أن الرسام قد خسر شيئا من خزينه البصري. إنه يعمل على انتقاء ما ينفعه في توسيع مداه البصري وعالمه الحلمي. بشفافية وأناقة ورقة قدم ما كان رأى وما كان تذكره بطريقة كما لو أنه لم يكن من قبل. تلك هي صور من اختراعه لم يرها أحد من قبل. صور بقدر ما هي مسلية بقدر ما هي عميقة في أثرها النفسي.
لقد وصل إلى التجريد بعد أن جمع بين ما كان قد رآه وما كان قد تذكره كما لو أنه الشيء نفسه. لن يسعه أن يلجأ إلى النسيان وهو الذي اختار أن يتذكر لأنه من خلال فعل التذكر يمارس إنقاذ حياة كائنات حية كثيرة.
ولد عبدالمحسن عام 1951 في الدقهلية بمصر. درس الغرافيك “الحفر الطباعي” في كلية الفنون الجميلة بجامعة الأسكندرية، ونال عام 1993 شهادة الماجستير من جامعة حلوان وكان عنوان أطروحته “فن الغرافيك المعاصر في الأسكندرية”. ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة في الفنون الجميلة من جامعة حلوان وكان موضوع بحثه هو “رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري من خلال فن الحفر”. بعدها قام بتدريس الغرافيك وعمل في هيئات الثقافة.
أقام أول معارضه عام 1982 في قصر الثقافة بكفر الشيخ. بعده أقام أكثر من عشرين معرضا توزعت بين مدن مصرية ومدن عالمية كان أهمها باريس، جدة، بازل وعمان. حملت معارضه عناوين ذات دلالات تشير إلى العلاقة التعبيرية بالمكان ومن حوله الكائنات مثل “مدن الملح”، “البحيرة”، “غواية الأرض”، “قرب الأرض”، “ناس”، و”نقار الخشب”. وهو ما يسلط الضوء على عالمه الذي انفتح على الوضع البشري من خلال العلاقة بالمكان لا من جهة مفرداته الجمالية بل من جهة كونه حيزا لاختبار الجمال الخفي لكائنات عابرة تترك صورتها على سطح الماء من غير أن تترك أثرا ماديا يشير إليها.
الصوت باعتباره إلهاما

◙ "المياه، الأرض، الهواء" أما الطيور فإنها زائر مؤقت. تلك هي عناصر المشهد الذي يستلهمه عبدالمحسن
“الزائل”، “الهارب”، “الغامض”، “المتلاشي”، كلها صفات تشير إلى العالم الذي يسعى عبدالمحسن إلى أن يهبه شيئا من البقاء من خلال رسمه. لذلك نراه مثلا قد عنون أحد معارضه بـ”نقار الخشب” ذلك الطائر الذي يسبقه فعله إلينا. قبل أن نراه يصلنا صوته. سيكون علينا أن نفكر مع الفنان في إمكانية أن يحل الصوت محل الجسد باعتباره مصدرا لإلهام محلق. نشأ مرتبطا بمكان يحفظ للطبيعة صفاتها فكان دفاعه عن الطبيعة هو نوع من الإخلاص للبيئة التي احتضنته ورعته إنسانا وفنانا. وإذا كان عبدالمحسن لم يلجأ إلى الرسم الواقعي أو حتى الانطباعي فلأن علاقته بالطبيعة لم تكن قائمة على التفاعل البصري وحده، بل هناك تفاعل روحي غالبا ما كان سببا في أن تتخذ طريقة نظر الفنان إلى الطبيعة طابعا تجريديا. إنه يفكر في الطبيعة كما لو أنه يبصرها.

“المياه، الأرض، الهواء” أما الطيور فإنها زائر مؤقت. تلك هي عناصر المشهد الذي يستلهمه عبدالمحسن. ولكنها عناصر مطلقة، سيكون من الصعب على الرسام أن يتعامل معها بطريقة تناسب مزاجه المتغير. ذلك سؤال ستكون الإجابة عليه صعبة لو أن الرسام لم يكن ابن تلك الثلاثية في تبدل أحوالها. فمثلما احتوته يوما ما فإنه صار يجرب العمل على احتوائها متذكرا النعمة الخفية التي كانت في جزء منها مستلهمة من العيش على حافة الإلهام.
لا يحتاج عبدالمحسن إلى العودة إلى آثار الفراعنة لكي يكون مصريا. لقد وهبته الطبيعة موهبة استثنائية تمكنه من اكتساب هويته المحلية من غير حاجة إلى استدراج الماضي إلى فخ شخصي. كانت الطرائد كلها حاضرة أمامه. ولقد حضر الدرس كله أمامه نقيا من غير أي شوائب. ما كان عليه سوى أن يتبع خيال يديه. لقد رسم ما أحب. منذ طفولته وهو يرى البحر ويلمس بقدميه الأرض ويحلق في الهواء. كان تلميذا وفيا ومخلصا لعناصر إلهامه.
عبدالمحسن رسام مصري من نوع مختلف. هو ابن الطبيعة لكنها طبيعة تشبه المزاج الشعري. لقد اختار أن ينحاز إلى الجغرافيا على حساب التاريخ. إنه ابن الجغرافيا التي وهبته الكثير من تفاصيل رحلته في الزمن. ذلك هو زمنه الخاص. وإذا كان الفنان قد استلهم الكثير من الصور من ذكرياته البصرية فلأنه رأى صورته وهي تنعكس على سطح البحيرة المهددة بالجفاف.
بالنسبة إلى الرسام ليس هناك ما يهبه مساحة لكي يقف بين الإلهام وفكرته أو لنقل الصورة التي تعبر عنه. حين يصفو إلى نفسه فإنه سيكون على يقين من أنه وهب المكان الذي احتضنه الجزء الأعظم من موهبته حين التقط هواءها وكان وفيا لمزيج أرضها ومائها. لم تصف لوحاته ما جرى غير أنها ارتقت به أعلى من النسيان. عبدالوهاب عبدالمحسن يمس الأرض بقوة الهواء الذي تدفعه مياهه.