عبدالله باتيلي رئيسا للبعثة الأممية بليبيا في مهمة محفوفة بالتعقيدات

خلف السنغالي عبدالله باتيلي الدبلوماسي السلوفاكي يان كوبيتش الذي شغل سابقًا منصب المبعوث الخاص ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وباتيلي هو أول أفريقي يتصدى لهذه المهمة التي سيستخدم فيها خبرته في السياسة والعلاقات الدولية مع الحكومة السنغالية والكيانات القارية الأفريقية والأمم المتحدة نفسها، وهي مهمة معقدة سيستدعي معها هذا الدبلوماسي الحاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة والتاريخ من جامعة برمنغهام في المملكة المتحدة كل ترسانته وشبكة علاقاته للتعامل مع ليبيا التي ينظر إليها على نطاق واسع على أنها تحدٍ رهيب.
قبل الموافقة على باتيلي شهد مجلس الأمن العديد من الانقسامات حول الشخصية المناسبة لملء المنصب الشاغر خلال هذه الأشهر، وكانت ستيفاني ويليامز هي التي عملت كمستشارة خاصة لليبيا بسبب رحيل رئيسها يان كوبيتش، لكن تركها لهذا المنصب في نهاية يوليو أعاد تنشيط البحث عن مبعوث خاص للأمم المتحدة إلى الدولة الواقعة في شمال أفريقيا.
وقد يعيد المبعوث الجديد الزخم اللازم للعملية سياسية، كما يمكن أن يحدث تغييرًا حقيقيًا، فالأمم المتحدة وعدت بإتمام تلك العملية، والتوسط بين الفاعلين الدوليين الذين يحاولون استغلال دولة محاصرة، وإدارة الجوانب الفنية اللازمة لإحداث تغيير بناء، مع أجواء تلعب فيها الميليشيات على انعدام الأمن وعدم الشرعية وعدم كفاءة السياسيين في ترسيخ مواقعهم داخل المؤسسات الليبية، وفي وقت يعاني فيه الناس من آثار انهيار الدولة، ويموتون في مرمى نيران المناوشات التي لا تنتهي، ويتوقون إلى التغيير الذي ما زال بعيدًا عنهم.
استقرار ليبيا غاية مثلى
بصفته قائدًا طلابيًا ونقابيًا وأكاديميًا وسياسيًا كان باتيلي مدافعًا قويًا عن الوحدة الأفريقية، ولقد ناضل منذ فترة طويلة من أجل تحرير القارة، وخط سير رحلته هو مسار النضال، رغم أنه لم يتم انتخابه لرئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي، إلا أنه يظهر عزما كبيراً على أنه سيكون قادرًا على تنفيذ ما آمن به طوال هذه العقود، في مناصب مسؤولياته.
ولعقود من الزمن كان باتيلي منخرطًا في صراعات القارة على المستوى الدبلوماسي، سواءً حين كان برلمانيا في بلده ووزيرا في حكومة السنغال، أو عند تعيينه في بوروندي، ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة لوسط أفريقيا وغيرها. وقد كتب ونشر على نطاق واسع في تاريخ أفريقيا والسياسة.
وهو بلا أدنى شك يعي تماما ما تمثله ليبيا كمشكلة دبلوماسية مستعصية، فالبلاد منقسمة بين حكومتين، والدول الغربية التي تشعر بالقلق إزاء عواقب انهيار ليبيا تراهن على الممثل الجديد للأمم المتحدة، وفي هذه المرحلة لا بد من مدّه بالأدوات السياسية والقواعد التي يحتاجها للمساهمة في إعادة بدء العملية الانتخابية في ليبيا.
ولقد أدت الفوضى في ليبيا إلى جعلها مركزًا جاذباً للمقاتلين ومهربي الأسلحة وعصابات المخدرات التي تعمل في جميع أنحاء أفريقيا، وأضحت البلاد بوابة لروسيا في حملتها لكسب النفوذ في القارة السمراء، مما سمح لموسكو بالسيطرة على طريق للطاقة آخر إلى أوروبا، وإنشاء قواعد عسكرية متعددة على بعد مئات الأميال فقط من مقر الناتو في صقلية.
بالنسبة إلى باتيلي من الضروري أن يتم تنفيذ المقترحات المقدمة في مناسبات مختلفة بشكل نهائي، ويجب أن تؤكد أفريقيا نفسها كعنصر فاعل ومؤثر في مصيرها، وفي غضون ذلك يجب على الأمم المتحدة ومجموعة من الدول المهتمة الضغط على القادة السياسيين الليبيين الحاليين للتوصل إلى اتفاق يلتزمون فيه بتطبيق هذه الإجراءات القانونية، مقابل ترتيب تقاسم السلطة بعد الانتخابات. وبشكل أساسي، قد يعني هذا استخدام المأزق الحالي لإنهاء عقلية الفائز الذي يريد أخذ كل شيء، ما خلق حالة عدم الاستقرار وساعد في إفشال آخر انتخابات خطط لها.
يتمتع باتيلي بخلفية أكاديمية كبيرة لأكثر من 30 عامًا خصوصا في مجال التاريخ في جامعة الشيخ أنتا ديوب في السنغال، وقد حاضر في جامعات عديدة حول العالم، وهي خلفية تساعد على فهم الصورة في عمومها وتفاصيلها، وهناك هدف ضمني من تعيين باتيلي يتجسّد باستعادة الأمم المتحدة لمصداقيتها في الداخل الليبي ولدى النخب التي من المفترض أن تتوسط بينها، فهذا الممثل الخاص للأمم المتحدة سيحاول الحد من تعميق الانقسامات داخل البلاد وبين القوى الأجنبية التي لها مصالح هناك.
المغرب لم يتأخر بالإعلان عن دعمه الكامل للمبعوث الأممي الجديد، مؤكداً استعداده التام للتعاون معه من أجل المساهمة في الجهود المبذولة لتوصل الأطراف الليبية إلى توافقات راسخة
ومن الحقائق التي يبرزها والتي تشكل ذهنيته في التعامل مع أزمات القارة، أن الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا كان عليهما أن يديرا أزمات خطيرة للغاية في الماضي، سواء في ليبيريا أو سيراليون أو مالي وليبيا حاليا، وأن لديهما خبرة معينة في هذا المجال، وهو ليس لديه أدنى شك في أنهما سيكونان قادرين على أن يجدا بداخلهما الطاقة والحزم اللازمين لقلب هذه الصفحة المظلمة في تاريخ عدد من الدول الأفريقية بسرعة.
المغرب الداعم
لم تتأخر المملكة المغربية بالإعلان عن دعمها الكامل للمبعوث الأممي الجديد، مؤكدة استعدادها التام للتعاون معه من أجل المساهمة الفعالة في الجهود المبذولة لتوصل الأطراف الليبية إلى التوافقات الضرورية لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية كسبيل وحيد لتخطي الوضع الحالي.
الترحيب بهذا التعيين سيكون محفزا جديدا للمملكة بمواصلة انخراطها في الجهود الدولية لإحلال الأمن والاستقرار في هذا البلد المغاربي الشقيق، مشيرة إلى احتضانها التوقيع على الاتفاق السياسي للصخيرات بتاريخ السابع عشر ديسمبر 2015 كما أنها استضافت حوارات بوزنيقة بين الأطراف في ليبيا، وجرت محادثات من أجل السلام والعملية الديمقراطية في المغرب الذي لعب دور الوسيط، وتم الاتفاق على تعيين الحكومة المؤقتة بقيادة عبدالحميد الدبيبة، لكن عدم القدرة على إجراء الانتخابات نهاية العام الماضي أدى إلى فترة من عدم الاستقرار، وإلى قيام برلمان طبرق بتعيين فتحي باشاغا رئيساً للوزراء بديلاً على أساس أن ولاية الدبيبة في السلطة قد انتهت بسبب رفض الأخير الاستقالة والرحيل.
ولا زالت المملكة قادرة على جمع الأطراف المتنازعة والاستماع إليهم دون فرض تسوية عليهم، وبطبيعة الحال، فإن مهمة باتيلي صعبة للغاية في الوقت الحالي، لتجاوز العقبات التي فشل فيها غيره، إذ لا يوجد مخرج واضح للانتقال الديمقراطي في ليبيا وإجراء انتخابات من شأنها أن تؤسس في النهاية لهيئة تنفيذية منتخبة بشكل شرعي.
الانتخابات ونزع سلاح الميليشيات والحوار، من الأبجديات التي يشتغل عليها باتيلي، فدون هذه الشروط لا يمكن إجراء انتخابات حرة وديمقراطية وشفافة. ومن الواضح أنه سيعمل على مرجعيات أساسية منها اتفاق بوزنيقة وأساسا اتفاق الصخيرات الذي حافظ على الوضع في ليبيا بعد الانزلاق إلى حافة كبيرة رغم خطورته، فهذا الاتفاق هو الذي حصل على الشرعية بقرار من مجلس الأمن منذ العام 2015.
باتيلي يؤمن بأن المصلحة تتناسب مع الرهانات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ولهذا فالأمر متروك لليبيين لإيجاد حلول داخلية لهذه الأزمة، وهو يدرك أن الدبلوماسية المغربية تحظى بثقة الليبيين، باعتبار أن المملكة استطاعت أن تعطي دفعة لهذا الملف باحتضانها للمفاوضات بين الأطراف، وأنها تسهل التقاء وجهات نظر الأطراف وليس اقتراح الحلول والضغط لتحقيقها لأن الحل يجب أن ينبع من الليبيين.
يقدم باتيلي نفسه كجزء من الجيل الذي حلم بأفريقيا حيث سيتم تطبيق العدالة في النهاية، فالأسلوب الذي لا بد وأن ينهجه سيكون تحقيق العدالة من خلال الاستقرار والتغاضي عن الأخطاء كجزء من فلسفته لتخطي العقبات الكثيرة التي ازدادت حدة بعد مبعوثين أمميين سابقين لإخراج الليبيين من حالة الاقتتال والانقسام بالوصول إلى تسوية سياسية تسهم في إعادة الاستقرار إلى هذا البلد. والعودة إلى فكرة الانتخابات والوثيقة الدستورية بشكل أساسي، وكجزء من منهجيته التي عمل عليها، من الضروري أن تفي كل الأطراف بالمواعيد النهائية، لأن هناك خطرًا حقيقيًا من تفاقم الأزمة وبسبب تدهور الأوضاع الإقليمية، إذا لم تؤد الانتخابات إلى استقرار الوضع في ليبيا والدول المجاورة.
تحديات المرحلة
يأتي تعيين باتيلي في وقت تعمل فيه تركيا بشكل ملح وسريع على الإمساك بخيوط الأزمة، حتى تفرض حلا يضمن لها تواجدا مصلحيا واسعا في ليبيا وما بعدها داخل القارة الأفريقية، ولم يستطع الطرفان المتصارعان، الممثلان في رئيس حكومة الوحدة المنتهية ولايتها؛ الدبيبة ورئيس الحكومة المدعومة من البرلمان فتحي باشاغا من فرض نفسيهما كمحققين للسلام والاستقرار بهذا البلد، خصوصا مع محاولات الأخير دخول العاصمة طرابلس بقوة السلاح.
الصراع في ليبيا يتأثر بالتجاذبات بين القوى الكبرى، وتوقيت تعيين باتيلي يحمل حساسية بالغة، فهو تحد أيضا لهذا الرجل، خصوصا وأن الملف الليبي تأثر بشكل واضح بعلاقات روسيا بالدول الغربية، والعنوان الذي تلعب عليه تركيا هو توحيد الجهود الدولية والمحلية لدعم الانتخابات في ليبيا، بينما الأساس عند مخططي السياسة الخارجية لأنقرة هو المزيد من بسط السيطرة بدعم روسي.
أثارت حكومة الوحدة الوطنية بقيادة رئيس الدبيبة اعتراضات على تعيين باتيلي على الرغم من الموقف الإيجابي لدول مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ورغم إذعانها للأمر الواقع فالوضع في ليبيا حساس حيث لا يوجد حتى الآن موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة في ديسمبر الماضي لكنها تأجلت دون موعد محدد بسبب الخلافات بين الكتلة الشرقية في طبرق وسلطة الدبيبة السياسية المتمركزة في طرابلس، وكممثل خاص لوسط أفريقيا ورئيس مكتب الأمم المتحدة الإقليمي لوسط أفريقيا سيعمل باتيلي على معالجة هذه التعقيدات بمنهجية متكاملة.
الدول الغربية تراهن على الممثل الجديد للأمم المتحدة، وفي هذه المرحلة لا بد من مده بالأدوات السياسية والقواعد التي يحتاجها للمساهمة في إعادة بدء العملية الانتخابية
شكلت الحرب في أوكرانيا ومخلفاتها على قطاع النفط والغاز مانعا مؤقتا لبعض الدول الكبرى للاهتمام بالملف الليبي، لكن مرة أخرى اتخذت المعركة في ليبيا وكما عليه الأمر بعدًا دوليًا مع العديد من الدول المهتمة بالوضع الجيواستراتيجي لليبيا ومواردها النفطية، وبشكل عام ومن خلال تجربة باتيلي فقد شكل قناعة تقول إن الأشخاص الذين هم أصل النزاعات والكراهية يجب أن يتركوا للآخرين قيادة هذه المرحلة الجديدة، جميعهم لديهم عائلات سياسية يمكنها مواصلة القتال دونهم، وذلك يصب في مصلحة البلدان ومصلحتهم الخاصة.
ويبدو أن رؤيته للحل في ليبيا تنبع من خبرته في الملف الكونغولي، فهو يعتقد أن على الجهات السياسية، سواء في السلطة أو في المعارضة، إظهار المسؤولية والتوصل إلى حل وسط، رغم أنه ليس بالشيء السهل، من خلال التسوية، ولقد اختبر باتيلي هذا طوال مسيرته السياسية في السنغال ويطلب تصديقه بأنه إذا أردنا إجراء انتقال سلمي وديمقراطي فعلينا تقديم تنازلات.
وما لم تجد ليبيا طريقة للخروج من دائرة الدمار فإنها ستغرق في صراع أكثر دموية وواسع النطاق من أي صراع في تاريخها الحديث، فالمبعوث الأفريقي الجديد في ليبيا، والذي شغل منصب نائب الممثل الخاص للأمين العام في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، مقتنع بأنه لا يواجه نفس النوع من المواقف في ليبيا كما هو الحال في مالي، إذ هناك مجموعات سياسية مختلفة يمكن التوصل إلى اتفاق معها، ففي أي بلد، كما يرى عبدالله باتيلي، يجب قبول نتائج الانتخابات من قبل الجميع، خاصةً عندما يتم الاتفاق مسبقًا على قواعد اللعبة.