عبداللطيف المكي سياسي تونسي يحاول انتزاع عباءة الغنوشي

الأحد 2017/09/17
قيادي حائر ما بين الصقور والحمائم

تونس - لم يكد يمضي أسبوع واحد على التعديل الوزاري المثير للجدل الذي أجراه رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد، حتى ثارت ردود الفعل الحادة داخل الأوساط السياسية التونسية.

ويرى بعض المراقبين أن التعديل الواسع الذي أعلن في الـ6 من سبتمبر الجاري، وإن لم يمسّ التوازنات السياسية بين نداء تونس والنهضة بشكل خاص، إلا أنه يعزز السلطات التنفيذية للرئيس التونسي الباجي قايد السبسي. وقد ضم الفريق الحكومي الجديد سياسيين يضفون المزيد من الحضور لـ”نداء تونس” مثل محمد رضا شلغوم الذي عين وزيراً للمالية وهو منصب تولاه أثناء حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

وكذلك وزير الصحة الجديد سليم شاكر الذي كان مستشاراً للسبسي. أما وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي فعمل مستشاراً للسبسي عندما كان الأخير رئيساً للحكومة سنة 2011.

ووسط هذا الجدل قال علي العريض القيادي البارز في حركة النهضة الإسلامية المشاركة في التحالف الحكومي إنه “لا يجب إطلاق الأحكام على الأشخاص بالجملة، بل يجب الحكم على كل شخص على حدة وحسب مدى انخراطه ضمن تونس الجديدة وقطعه مع الماضي”.

وفي هذا المناخ خرج الرئيس السبسي قائلا إنه “حان الوقت لتقييم المنظومة السياسية الحالية وتدارك نقائصها وتجاوز المطبات التي تضمنها الدستور”. وفي تعليقه على تصريح رئيس الجمهورية اعتبر القيادي في حركة النهضة عبداللطيف المكي أنه من الممكن مراجعة النظام السياسي من خلال تقييم موضوعي ودراسة معمقة لتطوير النظام البرلمانى لا لتغييره. وأضاف المكي أن “الدستور الحالي لتونس هو دستور جديد ومن الطبيعي أن يمرّ بفترة تجربة في الواقع واختبار خاصة في دولة عاشت طلية سنوات على وقع نظام رئاسي وبالتالي ليس من السهل التأقلم مع نظام سياسي جديد”.

ويصعب التنبّؤ بإمكانية الولوج إلى حركة النهضة من الداخل وكشف المسارات الخفية للحزب الذي يدّعي المدنية، لجهة ما تفرضه الحركة من حزام ساتر وتكتّم مطبق على برامجها وتوقيت انعقاد جلساتها الحزبية وعدم السماح بإخراج إلا ما تراه هي مناسبا ويتماشى مع مصالحها الضيّقة للعلن. ويبدو أن المسار الديمقراطي الجاري في تونس والانتظارات المعلقة على مختلف الأحزاب سمحا بكشف الكامن لدى بعض القيادات في حركة النهضة ومن بينهم المكي القيادي النشط المحسوب على فئة الصقور الذي ظل يبحث عن التموقع داخل حزبه دون أن يفلح في التخلص من عقدة المرجعية التنظيمية التي تحكم الحركة ومؤسسها راشد الغنوشي.

الدارس لمسار حركة النهضة في تونس وتطوراتها كحزب مدني ديمقراطي سيتوقّف بعد طول اجتهاد عند حتمية مفادها أن الحركة الإسلامية فعلا تغيّرت واصطبغت بثوب حزب وقامت بالعديد من المراجعات ومازالت تقدم التنازلات، وهي أيضا تعمل جاهدة على تطوير أدائها داخل المنظومة الحزبية في تونس.

لكن في المقابل بقي الاحتراف الحزبي للقيادات وتاريخها النضالي المغموز في الأساليب القمعية المطبّقة عليها من النظام السابق، ومنها بالأساس فئة الصقور، رهين أوامر وتطلعات القيادة الكبرى في الحزب ممثلة في زعيم الحركة راشد الغنوشي. وهنا يبدو الحديث ذا مغزى إذا ما استدل على العديد من الخصومات وردود الفعل المتشنّجة لبعض القيادات في كل مرّة يطرح فيها موضوع يتعلق بالدولة أو يمسّ طرفا من الأطراف الفاعلة فيها أو يغازل فيها أحد السياسيين الحركة ويستفزّ مشاعر قادتها لإخراج ما يتستّرون به للملأ عبر خطاباتهم.

وعلى مستوى بنية الخطاب تتجلّى آثار المراجعات التي قامت بها حركة النهضة في أنها سمحت بخلق تراتبية واضحة في مستوى خطاب أبرز قادتها وتصريحاتهم التي يدلون بها أثناء اللقاءات الإعلامية والحوارات التلفزيونية. لكن القيادة في الحزب مختلفة وهي درجات أيضا، بدءا من القاعدة الشعبية والكوادر الحزبية للحزب، مرورا بفئتي الحمائم والصقور وصولا إلى أعلى الهرم ممثلا في شيخها وزعيمها راشد الغنوشي.

المكّي يعدّ واحداً من قيادات حركة النهضة الذين شدوا الرأي العام في تونس بعد ثورة يناير 2011 بأسلوبه السلس في الخطابة ومنهجه المرن في المجادلة وخوض الحديث بنوع من الهدوء، تدفع به الحركة إلى واجهة كل خصوماتها الحزبية.

المؤكد والذي لم يخرج للعلن وظل حبيس أروقة مقر النهضة في مونبليزير بتونس العاصمة أن الخلاف احتدم بين المكي والغنوشي حول إشكالية الفصل بين السياسي والدعوي، ويقول إسعاد مقداد الذي انشق عن النهضة بعد عمر طويل إن الفصل بين الدعوي والسياسي بالنسبة إلى الحركة لا يتجاوز أن يكون "حيلة من بعض القيادات"

البرلماني الكيميائي

بعد ثورة يناير 2011 عرف التونسيون العديد من القيادات الحزبية في حركة النهضة وتفاعلوا معها لجهة فصاحة اللسان التي طبعت العديد منهم والخطاب الرنان الذي يقدمونه، ظنا منهم أن الثورة أتت بهؤلاء “المظلومين” المحرومين الذين سيخافون الله في مصلحة البلاد والعباد، لكنهم سرعان ما فقدوا ثقة العباد وضاعت الدولة إبان تولي حكومتي الترويكا الحكم في تونس.

المكي واحد من هؤلاء القادة المنتمين لحركة النهضة. من مواليد أغسطس 1962 بمدينة القصور من محافظة الكاف في تونس. شغل منصب وزير الصحة بين 2011 و2014 في حكومة الترويكا الأولى والثانية.

المكي يملك شهادة في الكيمياء الحيوية وأصبح يشغل مهامه كطبيب بعد ذلك. يعرف بنشاطه السياسي منذ المرحلة الطلابية. أصبح أمين عام الاتحاد العام التونسي للطلبة الذي تأسس سنة 1985 وذلك بين 1989 و1990. اعتقل لمدة قصيرة وأفرج عنه عند وصول زين العابدين بن علي للحكم سنة 1987 قبل أن يعتقل في مرة ثانية يوم 14 مايو 1991 بعد أن كان ناشطا في الحراك الطلابي الذي ينادي بحرية التعبير والنشاط السياسي داخل الجامعات. تم تعذيبه ونقله إثر ذلك مرتين إلى المستشفى. بعد ذلك حُكم عليه بـ11 شهرا ثم تلاه حكم ثان بعشر سنوات سجن من قبل المحكمة العسكرية، ليطلق سراحه في 2001.

بعد الثورة التونسية ترأّس المكي قائمة حركة النهضة عن دائرة الكاف الانتخابية أثناء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التونسي في أكتوبر 2011. فاز بمقعد كنائب في المجلس التأسيسي، ثم أصبح وزيرا للصحة في حكومة حمادي الجبالي. ونظرا لعدم جمع هاتين الوظيفتين (نائب ووزير) خيّر المكي تقديم استقالته من منصبه كنائب في المجلس. ليتم الإبقاء عليه كوزير للصحة في حكومة علي العريض وذلك بعد استقالة حكومة الجبالي. لينهي مهامه في بداية العام 2014 عند تغيير حكومة علي العريض بحكومة المهدي جمعة.

ترشّح في الانتخابات التشريعية التي أجريت سنة 2014 عن دائرة الكاف الانتخابية وفاز بمقعد في مجلس نواب الشعب الجديد كنائب عن حركة النهضة وهو يشغل هذه الخطة حاليا.

تداخل الحزبي بالدعوي

تسجل المشاهد الموثّقة على موقع التواصل الاجتماعي “يوتيوب” خلال المؤتمر العام الأخير لحركة النهضة الذي انتظم بين 20 و23 مايو 2016 وحمل عنوان “التقييم العام للحركة منذ التأسيس وتجربة الحكم، والفصل بين السياسي والدعوي” وتم خلاله ترشيح رئيسها لولاية أخيرة، لحظة تاريخية امتزجت فيها مشاعر الدموع بالمصالحة بين المكي وزعيمها الغنوشي. لغة العيون بدت فاضحة لنوع من الاختلاف في وجهات النظر بين الرجلين، رغم أنهما لا يبدوان على نفس الدرجة من تراتبية القيادة الحزبية، فيما يرجع بعض المحللين ذلك إلى نوع من التبرّم يطبع “صقر النهضة” المعروف عنه شراسته في الدفاع عن مسائل جوهرية داخل الحزب وأوّلها مواقفه من مسألة الفصل بين ما هو دعوي وما هو سياسي، إضافة إلى مسائل أخرى جوهرية تتعلق أساسا بمواصلة رئاسة الغنوشي للحركة.

ما هو مؤكد ولم يخرج للعلن وظل حبيس أروقة مقر الحزب في مونبليزير بتونس العاصمة أن الخلاف احتدم بين المكي وزعيمه ذات يوم.

المكي لا يتردد في انتقاد هيمنة الغنوشي على النهضة، وهو يقول بأن “القانون الأساسي داخل حركة النهضة يمنع الغنوشي من التمتع بولاية جديدة ولا يوجد أفق لتغيير هذا القانون”.

أما عن الأول، أي إشكالية الفصل بين السياسي والدعوي، فيقول واحد من أبناء الحركة الأولين والذي انشق عنها في ما بعد، على كثرتهم، وهو إسعاد مقداد في حوار مع صحيفة “الصباح” المحلية إن الفصل بين الدعوي والسياسي بالنسبة إلى حركة النهضة لا يتجاوز أن يكون “حيلة من بعض القيادات”، وموضوع إلهاء للقواعد والإعلام، وأن الحركة السياسية تسعى إلى حكم تونس بالدين.

ويضيف مقداد أن فشل النهضة في تجربة الحكم منفردة كان بسبب “الفقر الفكري لقياداتها” وليس بسبب عدم صلاحية الدين لتسيير الدولة، موضحا أن الدعاية النهضوية صوّرت الغنوشي كـ”عبقرية سياسية وفكرية بالادعاء أن الأتراك قد استلهموا منه تجربة حكمهم، في حين أن الحقيقة غير ذلك تماما بما أن إسلاميي تركيا ينتمون إلى المدرسة الواقعية في حين أن راشد الغنوشي “إخواني حدّ النخاع”.

فيما يفسّر المكي مسألة بقاء الغنوشي على رأس الحركة بقوله إن “الذين يغالون في الاعتقاد بأن الحركة ستتفتت بعد راشد الغنوشي باعتباره الأب الروحي والماسك بسلامة الحزب وزمام الأمور داخلها ليس سوى محاولات لخلق سيكولوجيا التخويف من البديل”. ويضيف أن الحركة اشتغلت في فترات صعبة من تاريخها دون رئيسها الغنوشي عندما كان في السجن أو خارج البلاد، معتبرا أن حركة النهضة هي حركة مؤسسات لا أشخاص، موضحا أن الحركة واصلت وعملت في فترة الثمانينات من القرن الماضي عندما وقع اعتقال القيادة المؤسسة لها المكونة آنذاك من راشد الغنوشي وصالح كركر وعبدالفتاح مورو وقام شباب الحركة بمسك زمام الأمور.

المكي يعلّل كلامه بأن “القانون الأساسي داخل حركة النهضة يمنع الغنوشي من التمتع بولاية جديدة ولا يوجد أفق لتغيير هذا القانون. الإخوة في الحزب واعون بوضعهم لهذا القانون”.

وفي مستوى آخر يلوح المكي في موقع المدافع عن الحركة ويفصح عن رأيه بخصوص الطرح المقدم لبعض البرامج السياسية في البلاد والقوانين المتعلقة بالمصالحة الاقتصادية ومحاربة الفساد وتحديدا المبادرة الأخيرة المتعلقة بحقوق المرأة في الميراث التي تقدم بها الرئيس الباجي قايد السبسي وهي مسائل خلّفت موجة من التوتر والخلافات داخل الحركة وربما أدت إلى انشطار في الكوادر الحزبية. يقول المكي “هناك أناس يمارسون الانتقائية بغاية شيطنة النهضة ومحاصرتها وتشويهها والأسباب معلومة آنفا وهي أن هؤلاء لا يريدون حزبا صاحب مشروع لا نداء تونس ولا النهضة ولا غيرهما.. فقط يريدون طبقة سياسية تتحكم فيها اللوبيات”.

لكن الاختبار الأخير للحركة الذي فرضه السبسي على الصديق في الحكم بطرحه لقانون الميراث أسقط قادتها في خطاب ارتجالي معلن صراحة ومعارض للطرح في منبته، وعن ذلك يقول المكي “إن ما جاء على لسان رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي يتطلب تفسيرا لأنه أمر خطير قد يدخل البلاد في أجندات سياسية، في حين أن تونس تحتاج لأجندة تنموية تنهض بالاقتصاد”.

الطرح الجديد اللامتوقع من بعض القيادات داخل النهضة، مثل المكي، يستبشر به المتابعون لمسارها وتفاعلاتها مع محيطها لأنه يعد سابقة في تقاليد الإسلاميين.

حزب جديد

ما يحسب للمكي، المعروف بجرأته ومواقفه الصريحة، وربما عليه أيضا من وجهة نظر أبناء الحركة أنفسهم، أنه بدأ يخرج عن الصف ليظهر للعلن في أوقات معيّنة من تاريخ الحركة وخصوصا منذ حصول الزيجة مع حزب نداء تونس “العدوّ الصديق”، ليتحدث عن خلاف داخل النهضة حول زعامة الشيخ وحول الانسياق الأعمى للحركة وراء نداء تونس وخضوعها للسبسي تحديدا رغم ما تعلمه قيادات النهضة قبل غيرها من مرحلة حرجة يمر بها شريكها في الحكم وصراع ليّ الأذرع الذي يطبع أغلب قياداته وهي تعمل في هذا الاتجاه على تغذية النعرات بين مختلف قادة الحزب الشريك، أحيانا باستقطاب بعضهم وأحيانا أخرى بتذكية الخلافات بينهم.

هذا الطرح الجديد اللامتوقع من بعض القيادات داخل النهضة استبشر به بعض المتابعين لمسار الحركة وتفاعلاتها مع محيطها لأنه يعد سابقة من نوعها في تقاليد الحركة الإسلامية، فيما تقر تقاليد التنظيمات الإخوانية المبنية على “الرفاقية” بأن نشر الخلافات الداخلية يعتبر من “الكبائر” السياسية وآخر الدلائل تجربة خروج رياض الشعيبي الذي أسس حزبا آخر في صمت وهو حزب البناء الوطني، وخروج الجبالي دون شوشرة إعلامية وقديما خروج قيادات تاريخية “مظلومة” من غطرسة الغنوشي لكن في صمت أيضا.

المكي بدا أنه لن يشذّ عن هذه القاعدة، رغم نفيه لمغادرة الحركة وتأسيس حزب جديد، لكنه أيضا لم ينكر أن الفكرة كانت تراوده منذ عودة الغنوشي من لندن بعد الثورة، حيث قال “كنا نسير باتجاه تأسيس حزبين آخرين مع الحركة، لكن الأمر استقر في النهاية على الإبقاء على الحركة”.

ما يجب التأكيد عليه أن حركة النهضة، التي استفادت حتى النخاع من تنازلاتها “الشكلية” عبر غلق ملفات كبرى وفي مقدّمتها علاقة قياداتها بالإرهاب وبالاغتيالات السياسية وزرعت أبناءها في مفاصل الدولة وفي الإدارة وغنمت مقابل تنازلها لتصدّر النداء واجهة الحكم غنائم لا تحصى، كل هذا يعلمه المكي وباقي العناصر النشيطة في الحزب وربما بتخطيط منهم، رغم أنه أقلق بعض القيادات السلفية الأقل استعدادا للمناورة ولاستحقاقات الحكم في محيط جلّه معاد لها، ليدبّ هذا القلق في صفوف بعض القواعد المسكونة بصورة عارية عن النهضة قوامها حركة ترمي لإرساء حكم الشريعة دون أن تكون لها القدرة على هضم التكتيكات المرحلية ودفع “التدافع الاجتماعي والسياسي” إلى أقصاه من أجل “التمكين”.

هذا القلق والتململ في القواعد، وخصوصا القاعدة الانتخابية المهيّأة دائما للتخدير والاستعمال في كل استحقاق انتخابي خاصة وأن استحقاق الانتخابات البلدية على الأبواب، تطلّبا صوتا من داخل الحركة له وزن كعبداللطيف المكي لتحريك السواكن وتفهّم قلق هذه القواعد من “الزيجة المغلوطة” مع نداء تونس وتذمّرها من قبول طبخات موسّعة بعناصر لا يمكن بمجرد التفكير في الشراكة معها حتى لو تحول التنظيم إلى حزب مدني كغيره من الأحزاب الديمقراطية.

7