عبدالكريم الزبيدي زاهد في السلطة يدفعونه إلى ميدانها دفعاً

متمرس، هادئ، قليل الطباع الحادة. يوصف بالمحنك. يجادل خصومه بابتسامة فيها الكثير من الأنفة والكبرياء. هو واحد من الذين خالفوا قاعدة السير وفق الأهواء والإثارة وخيّر الابتعاد عن أطر السياسة الضيقة في تونس. ليظل عصيّا على الشخصنة والبحث عن الإثارة والصخب الإعلامي.
بقي هذا الرجل بعيدا عن نزعة الاستعراض التي طبعت المشهد السياسي التونسي، وحكمت العديد من الوزراء وتركزت بالخصوص حول طبيعة تميزت بالإثارة المشهدية ومحاولة العمل للصالح الخاص بعيدا عن سياسة التجانس والانضباط الحكومي.
عبدالكريم الزبيدي وزير الدفاع في أغلب حكومات ما بعد الثورة. ينحدر من مدينة رجيش التابعة لمحافظة المهدية الساحلية. رجل خضع لاختبار السياسة في مناسبات عديدة لكنه أبى أن يستسلم لروح الوهن والضعف وظل مرابطا، ماسكا بخيوط اللعبة إلى آخر الطريق.
عديدة هي الاختبارات التي مرّ بها الزبيدي لكن أهمها ما سجل في عهد حكم الرئيس السابق المنصف المرزوقي، فكان مثالا لرصانة رجل الدولة رغم ما مرّ به من محاولات استفزاز حاولت جرّه إلى مستنقع ردّ الفعل الذي لم يكن يخدم ظروف تلك الفترة الحالكة. مرحلة قادها بحكمة واقتدار ولم يستسلم لإرهاصات السلطة مخيّرا الخروج من الباب الكبير بعد أن رفض الأسلوب “الهابط” الذي طبع العديد من الوزراء في عهد “الترويكا” حينها.
إرث الجنرال عمار
أشد موقف يحسب للزبيدي، كما عليه أيضا، ما نطق به خلال جلسة بمجلس نواب الشعب للمصادقة على ميزانية وزارة الدفاع بأنه لا يمكنه أن يصبح سياسيا لأنه لا يجيد الكذب. وقال مازحا “لا نعرف نكذب. لا نعرف نخبّئ كي نكذب. هكذا ربما لأنني لن أكون سياسيا في يوم ما”. ليأتي الرد سريعا ولاذعا من أشد منتقديه، فيما أثنى الكثيرون على ما يعتمل بداخل الرجل من مواقف صريحة وما يتمتع به من حظوة في الداخل كما الخارج.
علّق عماد الدايمي القيادي في “حراك تونس الإرادة” الذي يقوده المرزوقي حينها على تصريحات الزبيدي في تدوينة كتبها على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك قائلا إن “الوزير الزبيدي قال في مزحة بمجلس النواب إنه لا يمكن أن يكون سياسيا لأنه لا يعرف الكذب. وقد صفق البعض من الذين لم يفهموه أو من الذين يعتبرون أن السياسة ميدان للكذب، لكن لكل نظرته إلى طبيعة السياسة التي يمارسها. ولأنني أعرف السيد الزبيدي جيّدا وقد تعاملت معه عندما فرضه الجنرال رشيد عمار على رأس حكومة الجبالي. لقد صدق من ناحية ولكن وجب التحري من ناحية أخرى في رؤيته لمسألة الكذب”.
فيما يقول عنه العميد مختار بن نصر لـ”العرب”، وهو من بين المقربين من الرجل واشتغل معه في أكثر من مناسبة بوزارة الدفاع الوطني، إنه “إضافة إلى تجربته السياسية الكبيرة، فإن الزبيدي يمتلك رؤية ثاقبة في المواضيع الجيوسياسية التي تتميز ببعدها الموضوعي والحاسم للقرارات مهما كانت الظرفية ومهما كانت دقة الوضع”.
العميد مختار بن نصر، وهو من بين المقربين من الزبيدي واشتغل معه في أكثر من مناسبة بوزارة الدفاع الوطني، يقول عنه لـ"العرب" إنه "إضافة إلى تجربته السياسية الكبيرة، فإن الزبيدي يمتلك رؤية ثاقبة في المواضيع الجيوسياسية التي تتميز ببعدها الموضوعي والحاسم للقرارات مهما كانت الظرفية ومهما كانت دقة الوضع"
مهما بدا من ردود مساندة للرجل أو متحاملة عليه، فإن ما هو مؤكد وفق مقربين من الزبيدي وعارفين بأسراره أنه يظل الاستثناء في زمن تعاظمت فيه لغة “الفتوّة” السياسية وانحدر فيه الأداء إلى مراتب متدنية، حيث يحافظ الرجل على مسلكية لا تروم السير وراء ثقافة الاستعراض والمزايدة وظل مرابطا لنهج عرف به منذ سنين طويلة، ما يعكس وضوحا في الرؤية ودقة في الهدف الذي يحركه ويصبو الوصول إليه. فيما يجادل الكثير من خصومه بنظرية الانتماء للمنظومة السابقة التي تطبّع بها الرجل وأثرت في أدبياته في التعامل مع المقربين قبل الخصوم.
المتابع للزبيدي يرى أن الهدوء و”الترفع” أحيانا لا يتأتيان فقط من طبيعة تحكم واجبه الذي يؤديه برصانة المسؤول المحنك والزاهد في الإغراءات الجانبية للسلطة وأهوائها، وإنما من وضوح الرؤية والهدف اللذين يدفعانه في كل مرة يقبل فيها بمنصب وزير الدفاع، رغم إدراكه لحجم التحديات التي تواجهها حقيبة الدفاع في أكثر من مرحلة مرت بها تونس.
يطلّ الزبيدي مبشرا، داعما لأجهزة الدفاع، مربتا على الأكتاف، رافعا العزائم والمعنويات لعل آخرها ما طفح به الأسبوع الماضي أمام اللجنة العسكرية المشتركة التونسية الأميركية بأن “الوضع الأمني في تونس تحت السيطرة والمؤسسة العسكرية في حالة يقظة مستمرة وفي جاهزية تامة لمواجهة أي تهديد”. يؤكد بن نصر ذلك بقوله لـ”العرب” إن الزبيدي يملك شهادة القائد المتميز على الميدان، وذلك مرده الحضور الذهني القوي، لكن هذا لا يخلو من بعد إنساني يحرك سواكن الرجل إلى أبعد الحدود.
لا شك أن ذلك يعود أيضا إلى خبرة طويلة يمتلكها الرجل في العمل الحكومي والمهمات التي اضطلع بها في أكثر من بلد عربي وأفريقي، إضافة إلى مهمات دولية أخرى قادها ومثّل فيها تونس أحسن تمثيل في دول أجنبية. حيث كلف الزبيدي بالعديد من المهمات في الخارج ومنها مهمة في بعثات خبراء لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة في مجال “التطبيقات الطبية للطاقة الذرية” في كل من الكاميرون والمغرب والسنغال وليبيا وتايلاند والنيجر ومالي وكينيا والسودان وجنوب أفريقيا.
مسيرة الزبيدي انطلقت من الساحل أين زاول دراسته بمدينة سوسة وتحصل على شهادة الباكالوريا ليلتحق بكلية الطب بتونس ثم تحول إلى فرنسا ليدرس
بجامعة كلود برنار بمدينة ليون وحصل على دبلوم الدراسات والبحوث في البيولوجيا البشرية ودبلوم الدراسات المعمقة في الفزيولوجيا البشرية والأستاذية في العلوم الصيدلانية والأستاذية في الفيزيولوجيا البشرية والاستكشاف الوظيفي وشهادة الدكتوراه في الطب.
شغل بعد ذلك منصب أستاذ مساعد بكلية الطب غرانش بلانش بليون، فأستاذا مساعدا استشفائيا جامعيا بكلية الطب بسوسة، فمنسقا لتكوين الفنيين السامين للصحة بنفس الكلية قبل أن يصبح أستاذا استشفائيا جامعيا محاضرا، فرئيسا لقسم العلوم الأساسية بالمؤسسة الجامعية ذاتها.
بعدها أصبح رئيسا لقسم الفيزيولوجيا والاستكشافات الفيزيولوجية بوزارة الصحة التونسية ثم رئيسا لجامعة الوسط. ثم شغل منصب كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلفا بالبحث العلمي والتكنولوجيا، فوزيرا للصحة في حكومة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي ثم وزيرا للبحث العلمي والتكنولوجيا قبل أن يصبح عميدا لكلية الطب بسوسة. إضافة إلى العديد من المناصب اللاحقة الهامة.
رئيس حكومة مرشح
ورغم ما أثير من جدل حول عودة العديد من الوزراء المحسوبين على النظام السابق بعد الثورة، إلا أن الآراء كانت تتفق في تونس على مكانة الزبيدي ومستوى النضج الذي يحركه. ذلك أنه يصنف ضمن المحسوبين على “كوتة” المشتغلين في صمت. لا إثارة علقت به ولا تهم من أي نوع التصقت بالرجل. صحيح أن لا أحد يمكنه التعرف على أجهزة تلك المنظومة وطرق اشتغالها، لكن ما يشهد به طيف واسع من الذين عاصروا الزبيدي أنه عرف بنظافة اليد والانضباط الخططي، وهذا ما جعله موضع ثقة بين كل الحكومات التي تداولت على تونس بعد العام 2011. وهو ما يؤكده العميد بن نصر بقوله “إنه زمن الانفلات الذي عاشته تونس في العام 2013 عندما كنت ناطقا باسم وزارة الدفاع استدعاني الزبيدي إلى مكتبه وطلب مني مكاشفة الناس ومصارحتهم دون تسويف أو ارتباك أو خوف”.
اسم الزبيدي ظل يطرح في أكثر من مناسبة في الكواليس الضيقة لأجهزة السلطة ومحاوراتها المطولة وبحثها الدائم عن الكفاءة في كل مرحلة تتوقف فيها الماكينة السياسية عن الاشتغال وتدخل فيها تونس منعرجا حاسما يتطلب التغيير، أين يكثر الهمس وتتعالى لغة التشويق والإثارة عن الاسم المحتمل لرئيس الحكومة الجديد. هنا يسحب السيف مناديا باسم الزبيدي ولكنه سرعان ما يرجع إلى غمده دون بحث أو تقصّ في الأسباب التي دفعت إلى العدول عن ذلك، حتى أن هناك من ذهب إلى أن الرجل تظهره السياسة أكثر مما يظهرها هو بتكثّف نشاطه وصموده المعهود.
آخر المنابر الصادحة بما تظهره الكواليس حول الزبيدي ما جاء في مقال نشره مؤخرا موقع “موند أفريك” الفرنسي المتخصص في الشأن الأفريقي والمغاربي لرئيس تحريره نيكولا بو وجاء فيه على لسان كاتبه أن “رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد لم يعد لديه ما يقدمه من أوراق خاصة بعد رفع اتحاد الشغل فيتو في وجهه مؤخرا في اتفاق وثيقة قرطاج 2 التي لم يحضرها أو وقع تغييبه عنها”.
ليست المرة الأولى التي يطفو فيها اسم الزبيدي إلى السطح ويتداول بالمنطوق الخافت وتكثر لغة التلميح دون التصريح العلني، ليستقر الأمر في النهاية على شخصية أخرى غير الرجل الذي لم يشأ الحظ أن يشفع له في كل مرة رام فيها الاقتراب من قصر القصبة ودخول جدرانه من الباب الكبير بصفته حاكما لا وزيرا.
سجل ذلك في العام 2013 بعد دخول البلاد منعطف الإقالات الحكومية، حيث طرح اسم الزبيدي على طاولة المفاوضات بين حزبي النهضة والنداء ليتم التوافق أخيرا على المهدي جمعة الذي قاد حكومة التكنوقراط وكانت مهمتها الأساسية مواصلة كتابة الدستور وقيادة البلاد إلى انتخابات 2014.
حظي الرجل حينها بتوافق كبير من قبل منظمات المجتمع المدني والرباعي الراعي للحوار بل إنه كان محل إجماع غالبية الطيف السياسي بما فيه التحالف اليساري المعروف باسم الجبهة الشعبية التي ساندت الزبيدي ليكون رئيسا لحكومة التكنوقراط، فيما لم يعترض عليه سوى المرزوقي على خلفية توتر العلاقة معه في إدارة عدد من الملفات التي لها علاقة بوزارة الدفاع وتحديدا بالمؤسسة العسكرية.
عاد الزبيدي مرة أخرى ليتصدر الكواليس كالعادة بعد التوازنات الجديدة التي حكمت الساحة السياسية في تونس إثر الانتخابات الرئاسية 2014 وتولي الباجي قايد السبسي الرئاسة. ولحسم الخلافات الداخلية بين حزب نداء تونس باعتباره صاحب الأكثرية النيابية وفي اتجاه شخصية من خارج الحزب لرئاسة الحكومة المقبلة والجديدة طرح الزبيدي كأكثر المرشحين لذلك باعتبار أن الحكومة ستكون في إطار حكومة وحدة وطنية وفي ظل التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي تمر بها تونس.
تحدث سعيد العايدي وزير الصحة السابق حينها عن اسم الشخصية التي يتوقع أن يتوافق عليها حزبه وحركة النهضة لرئاسة الحكومة وقال في تصريح إذاعي إن اسم وزير الدفاع الزبيدي يحظى بفرص وافرة لمنصب رئاسة الحكومة، وأكد أن الرجل له علاقة مع العديد من الأشخاص في نداء تونس وخارجه وتوقع أن تقبل حركة النهضة بهذه الشخصية بعد أن أثبت وطنيته في فترة إشرافه على وزارة الدفاع الوطني. وأكد النائب عن حركة النهضة الصحبي عتيق أيضا أن اسم الزبيدي مطروح لرئاسة الحكومة وأنه من الأفضل أن يكون رئيس الحكومة من خارج نداء تونس.
هكذا كان الزبيدي في كل مرة يطرح فيها اسمه ويثني فيها الكثيرون على العلاقات الجيدة التي تربط الرجل بأكثر من قوة دولية وإقليمية وخاصة الأميركيين بالدرجة الأولى ثم الأوروبيين، إضافة إلى العلاقات المتميزة مع الدول العربية المجاورة لتونس والبعيدة عنها.
حلم رجل الدولة
بالتوازي مع نشاطه السياسي انصب اهتمام الزبيدي على حلم لطالما راوده وسكن هواجسه. ينظر الرجل بأسلوب هادئ قوامه بعدُ النظر والبحث بعمق عن تحقيق الأولويات وترتيبها بصورة دقيقة وواضحة في ذهنيته.
تركز اهتمام مهندس الدفاع أولا على مواصلة دعم جاهزية المؤسسة العسكرية على المستويين اللوجيستي والتنظيمي أملا في تنمية قدراتها في مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة، فضلا عن توسيع الاهتمام بتحسين الوضع المادي والمهني للعسكريين. يشهد له تركيزه على هذا الجانب منذ توليه حقيبة الدفاع بعد الثورة. يثني الكثير من العسكريين على ذلك ويشهدون للزبيدي بنجاحه في تحسين أوضاعهم المادية، فيما الأهم هو تحييد المؤسسة عن كل التجاذبات السياسية حين أراد الكثيرون جرها إلى هذا المستنقع خصوصا قبل مغادرة الجنرال عمار لها في 2013.
أولويات الزبيدي تشمل أيضا ما يعتبره حلما خاصا ظل يراوده طويلا ويعمل جاهدا على تحقيقه. هذا الحلم يتمثل في تنمية وإعادة إحياء الصحراء العميقة رمادة – برج الخضراء بالجنوب التونسي. وهو مشروع بدأ العمل به منذ عهد النظام السابق ويتضمن خطة لتهيئة مطار رمادة وتركيز بنية طرقية قادرة على بث روح الحياة في تلك البقعة من الجنوب التونسي. إنه حلم رجل الدولة الفعال الصارم الذي لا يزهد في ما يتصارع عليه الآخرون.