عبدالسلام بن عبدالعالي مغربي غرد خارج السرب بحثا عن الأجوبة غير النمطية

أصيلة تكرّم مفكر "الفلسفة اليومية" تقديرا لمكانته بوصفه مفكّرا طليعيا.
السبت 2022/11/05
صاحب تجربة خاصة في الكتابة الفلسفية

يعتبر الفيلسوف المغربي عبدالسلام بن عبدالعالي من الذين أرسوا دعائم ثقافة مغايرة تبتعد عن التقليد ومعياريته، من خلال موضوعات جديدة لها علاقة بما يعيشه المجتمع المغربي اليوم، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وهو الذي توصل عبر خلاصات مسيرة فكرية ثرية بطرق أبواب المغايرة والاختلاف، إلى أن الفلسفة لا يمكنها اليوم إلا أن تكون تفاعلا مع نبضات الحياة المعاصرة لمقاومة ما يسودها من أشكال البلاهة، بكتابة أقرب إلى الاستجابة اللحظية، وكانت تجربته في الكتابة الفلسفية بالمغرب والعالم العربي محط تكريم في موسم أصيلة لهذه السنة.

أسئلة الكتابة وقضية المعنى مجال اهتمامه مقارنة مع الباقي، عندما نذهب إلى أبعد مدى مع فكرة الفيلسوف باعتباره خالقا للمفاهيم، فيلزم الإقرار بقلة عدد الفلاسفة، وفي هذه الحالة، وبكل بساطة لا يصنف نفسه فيلسوفا مادام لا يتبع مفاهيم ولا يؤمن قط بالمفاهيم، المفهوم بالنسبة إلى بن عبدالعالي آلية للفكر، فالممارسة الفلسفية المندرجة ضمن أفقه، هي الوصف، فعند الانطلاق من فكرة أن الواقع مؤول دائما، فالعلاقة لن تكون ممكنة إلا عن طريق تأويل للواقع.

تكريم الكتابة

بوكس

تكريم بن عبدالعالي بموسم أصيلة الثقافي الدولي في دورته الـ43، يأتي باعتبار الرجل صاحب تجربة خاصة في الكتابة الفلسفية بالمغرب والعالم العربي، ليكون فرصة للاهتمام بمسار عطائه المعرفي، فقد اختارت المؤسسة تكريمه هذه السنة لِما يجسّده من تجربة طويلة ومنتِجة في حقل البحث والتأليف الفلسفي والترجمة، وتقديرا لمكانته بوصفه مفكّرا طليعيا ساهم بكثافة في التنوير العقلاني والتجديد الفكري وفي تمكين قرّاء اللغة العربية من الاطّلاع المستمرّ، عبر ترجماته، على أمّهات النصوص في الفكر الفلسفي الغربي المعاصر، هذه الحيثيات التي بنى عليها أمين مؤسسة “منتدى أصيلة” محمد بن عيسى هذا التكريم، ولاستعادة صفحات من مساره الفكري.

بن عبدالعالي أستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، اشتغل بالترجمة وأسس مع محمد عابد الجابري وإبراهيم بوعلو مجلة “فكر ونقد” التي شغل منصب سكرتير تحريرها 13 سنة، ما خلّف اليوم نتاجا غزيرا، “الفلسفة أداة للحوار”، “العقلانية الساخرة”، “الكتابة رافعة رأسها”، “البوب فلسفة”، ومن أحدث منشوراته “الكتابة بالقفز والوثب”.

عزيمة بن عبدالعالي الذي ولد بسلا سنة 1945، لم تتوقف لحظة واحدة، فعزز مكانته، إلى جانب عمله الأكاديمي، أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، بنتاجه الغزير، وبالكثير من المقالات والدراسات العلمية، وكتب من بينها ”منطق الخلل”، ”الميتافيزيقا، العلم والأيديولوجيا“، ”أسس الفكر الفلسفي المعاصر“، ”ثقافة العين وثقافة الأذن“، وقبل عامين، أصدر بنعبدالعالي كتابا عنونه بـ”لا أملك إلا المسافات التي تبعدني” وفيه يُعالج مقولة الاتّكاء والنّهل من مقولات لكُتّاب باتوا حُجّة ومستنَدا، ووجد سعادة في كشف الأفكار المبتذلة.

ومن منطلق تكوين صارم في الرياضيات وتأريخ للفلسفة عكف على التنويع في أعمال تتعلق بكتابات مقدسة، فكان انتصار بن عبدالعالي للتكامل في اشتغاله الفكري، مع توجيهه ضد كل ما له علاقة بالابتذال في الحياة اليومية، دون أن ينفصل عن الأفكار الكبرى والحياة المعاصرة.

اعتبر تكريم بن عبدالعالي أيضا تكريما لصديقه الناقد والأديب المغربي عبدالفتاح كيليطو، والعكس كل تكريم لكيليطو هو تكريم لبن عبدالعالي، واحتفاء به، أصدرت مؤسسة منتدى أصيلة كتابا جماعيا بعنوان “عبدالسلام بنعبدالعالي: الكتابة أفقا للفكر”، نسقه عبدالإله التهاني وأحمد زنيبر، وشارك فيه عدد من المثقفين المغاربة، منهم كمال عبداللطيف، محمد الأشعري، سعيد بنسعيد العلوي، عبدالفتاح كيليطو، محمد المصباحي، عزالدين العلام، محمد آيت حنا، أحمد بوزفور، وغيرهم.

الفيلسوف المغربي ضجر من المؤسسات (الكلية، البرامج، الإطار الأكاديمي، ثم جدية الزملاء)، إنه السأم من كل شيء وقور، كل ما هو نموذج ومراعاة، باختصار هي بيداغوجية مضجرة توطد سلطات للمعرفة، إنه الملل من ثقافة الأب، والنزوع نحو السخرية، حسبما يعتقد بن عبدالعالي، يتأتى أساسا من هنا.

من ألتوسير إلى ابن رشد

● العمل الذهني كما يراه بن عبدالعالي، هو بمثابة عمل يدوي، أو على الأقل شغل يجمع بين اليد والدماغ
● العمل الذهني كما يراه بن عبدالعالي، هو بمثابة عمل يدوي، أو على الأقل شغل يجمع بين اليد والدماغ

قفز من ألتوسير إلى هيدغر إلى جاك ديريدا، مرورا بالفارابي، وابن رشد. وهو ما اعتبره مسارا صعبا إلى حد ما بالنسبة إلى القارئ، لهذا بدت كتابات بن عبدالعالي مكثفة، يمكن قراءتها باعتبارها منجز شذرات، إلى حد ما على منوال رولان بارت، ولأن الحكمة صعبة كما يقول فهو لم يدع قط أنه يكتب شذرات، بالمعنى الكلاسيكي، مثل سيوران أو نيتشه، فالشذرة ليست طريقة في الكتابة، بل هي مفهوم للوجود. من الصعب جدا، يقول ”يمكن القول إني آثرت التكثيف والنزوع نحو التشظية، لكن الشذرة بمثابة الجنون تقريبا“.

لكن من داخل قاعة التكريم بأصيلة، فضل بن عبدالعالي وصف تلك الكتابات بالـ”بريكولاج”، الذي رأى فيه أحسن تعبير عما أنتجته، دون أي حمولة انتقاصية، لأنه تكيف مع ما يتوفّر من أدوات محدودة، قد تكون متنوعة لتناول قضايا قد تبدو عادية ولا تخص مهنة الفيلسوف، كمباراة في كرة القدم، أو خبر قضائي أو مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا النموذج، كما يقترح بن عبدالعالي، يعمل بما يقع تحت يده من وسائل لم تكن مهيأة قطعا للعملية التي يقوم بها، كما أن لديه استعدادا للتخلي عنها إذا توفرت أدوات أكثر ملاءمة، في عملية عكسية لإستراتيجية المهندس، يلوذ المفكر بما أسماه ”تكتيك البريكولور”، متأقلما مع ما يتوفر، دون تطلع إلى ما فوق اليد وما فوق الواقع، لخوض غمار الفعل، ودون أن يركن لا إلى معيار، ولا سند، ولا تخطيطات، ولا مفاضلات، ولا تعلق بمستقبل واعد؛ فالأحلام والمشاريع لا معنى لها هنا إذا لم تتحقق؛ أي إذا لم تبق أحلاما ومشاريع.

العمل الذهني كما يراه بن عبدالعالي، بمثابة عمل يدوي، أو على الأقل يجمع بين اليد والدماغ، والجيل الذي اختبر فيه الدراسة الأكاديمية، تلقى الفلسفة بالبريكولاج، فحياته الدراسية كانت تتحدد بما يتوفر قراءة ودراسة وإشرافا، وكل مشتغل بالكتابة يتبع رغما عنه مسارات رسمت له، ولحظات تاريخية، وتظل الكتابة مرتهنة لـمنطق الكتابة، أو منطق المعنى عند آخرين.

يؤكد أن كل شيء ممكن، فالعلم منفتح، ويروي أنه عندما أراد تسجيل أطروحته حول أسس الفكر المعاصر، اقترح عليه الجابري الاشتغال على مفكر واحد، كما فعل مع الفارابي، ونتيجة اختلافه مع الجابري الذي توخى منه البقاء ضمن سياق الفكر الإسلامي، ألزمه هذا الوضع الانتظار لمدة إحدى عشرة سنة بعد عمله على الفيلسوف الإسلامي قبل إنجاز مشروعه. يقول ”كنت في البداية قد اقترحت تناول كتاب أحد المفكرين المعاصرين كُتب بالفرنسية كي أترجمه إلى العربية، مع العلم أن كل ما فعله الأوروبيون، نجحوا فيه بشكل أفضل منا، لأنهم نفذوا إلى النصوص التأسيسية“.

الفلسفة في مجتمع اليوم

● كتابات بن عبدالعالي المكثفة يمكن قراءتها باعتبارها منجز شذرات، إلى حد ما على منوال رولان بارت
● كتابات بن عبدالعالي المكثفة يمكن قراءتها باعتبارها منجز شذرات، إلى حد ما على منوال رولان بارت

الفلسفة لا يمكنها اليوم إلا أن تكون تفاعلا مع نبضات الحياة المعاصرة لمقاومة ما يسودها من أشكال البلاهة، بكتابة أقرب إلى الاستجابة اللحظية، هكذا يراها بن عبدالعالي. للعثور على عنوان تكتيكي يجمع النصوص رغم ما بينها من فروق، مثل الشعراء الذين يجمعون قصائدهم بعنوان يأتي غالبا بعد جمعها، متفقاً كليا مع بارت في أن اللامعنى هو مكان الدلالة الحق، كون توليد المعاني يمكن رصده من خلال الوقوف عند ما يدعوه ”الفلسفة العمومية“ التي تغذّي طقوسنا اليومية، وتحدّد لباسنا، وحلاقة شعرنا، وتنظيم مطبخنا وحفلاتنا، وتدبير شؤوننا اليومية من قراءة للصحف، وارتياد للمسارح، وحديث عن أحوال الطقس، وأخبار الجريمة، والرّياضة.

وإذا كان بن عبدالعالي قد اختار أن يختبر الفلسفة وقدرتها على الحصول على موطئ قدم بيننا، بمواجهتها مع قضايا المعيش في تجلّياته السياسية والثقافية وفي تمظهراته من خلال المتكرّر والمعتاد والطارئ والمستمرّ والمضمحل والدائم والعابر، فإن انتباهه لدور الفلسفة في حياتنا، كما رصدها كمال عبداللطيف تعكس خياراته في البحث والكتابة والترجمة جوانب من إيمان بالأدوار المنتظرة اليوم من الفلسفة، ومن فعالية النظرية الفلسفية، خاصة عندما توظَّف لمحاصرة أنماط الفكر المحافظ السائد في ثقافتنا، وهو فكر أصبح يمتلك اليوم سلطة كبيرة.

وفي نهاية المطاف لا يطالبنا بن عبدالعالي بالنجاح في اختبار الفلسفة، ولكن بالاستمتاع بمغامرة فلسفية، حيث أوّل ما ينبغي استبعاده هنا هو اعتبار التظاهر مجرد حالة مفتعلة.

مؤسسة منتدى أصيلة تقدم بمناسبة التكريم كتابا جماعيا بعنوان "عبدالسلام بن عبدالعالي: الكتابة أفقا للفكر" وشارك فيه أهم المثقفين المغاربة

بالنسبة إليه هذا الـ”كما لو” هو ما أصبحنا نلمسه في حياتنا الثقافية والاجتماعية بشكل أكثر جلاء، حيث يعمل الكاتب “كما لو”، والناقد “كما لو”، والناشر “كما لو”، والقارئ “كما لو”، وتختلط الأمور، وتُفتقد المعايير. والشيء الذي يلح عليه هو معالجة قضايا شائكة انطلاقا من ترهات يومية، مثلا قضية الهجرة، ليس بناء على خطاب أيديولوجي، لكن بالعودة إلى ملعب لكرة القدم، إنها طريقة لتناول أهمية أشياء مبتذلة مظهريا.

حاول بقوة تعريف ماهية ”مجتمع الفرجة“، إذ يشكل هذا موضوعه الأساسي، وتوصّل إلى أنه ليس من الممكن إعطاء تعريف له سوى عبر مقاربات متنوعة تحاول ضبط مختلف أشكال إنتاج اللامعنى في مجتمعنا. وهو يرى أننا لا ينبغي أن نفهم أن الفلسفة اكتشاف ثان للحكمة القديمة، فما يهمنا هو الحوار مع الذات، لأننا في المعتاد ننسى الذات، ثم نتجه نحو الحوار مع الآخر.

يظل بن عبدالعالي ذلك الفيلسوف الذي يصنّف قراءه بأنهم ليسوا من الفلاسفة، بل هم محامون وأطباء، والهدف هو الوصول إلى إدماج مفاهيم فلسفية معقدة ضمن النقد اليومي الذي بوسعه أن يساعد بشكل هائل.

12