عبدالسلام الكلاعي.. سينمائي يتحدى الحياة ويخلق بصمة مغربية خاصة لأفلامه

مخرج مغربي أبدع في تناول قضايا معاصرة تهم المجتمع المغربي بأسلوب درامي مشوق وواقعي تؤكد حرفيته الفنية الكبيرة.
الأحد 2024/11/10
بعين تحفر عميقا في طبقات المجتمع

الرباط- لم تكن السينما تمثل جزءا من حياته، إذ بدأ مسيرته في العمل الاجتماعي، كان يهتم بقضايا مجتمعية ويتفاعل مع محيطه بشكل مباشر، لكن وكما يحدث مع العديد من المبدعين، كان للقدر رأي آخر؛ فقد بدأ شغفه ينمو بشكل تدريجي تجاه المسرح، ليجد نفسه بعد ذلك في أحضان السينما، إذ تأكد له أن هذا المجال هو الأداة التي يمكن له من خلالها التعبير عن رؤيته للعالم.

وُلد عبدالسلام الكلاعي في مدينة العرائش، تلك المدينة المغربية التي تتميز بجمالها الطبيعي وأصالتها الثقافية، حيث نشأ في بيئة غنية بالحكايات والتجارب الإنسانية التي ألهمته لاحقا في مسيرته الفنية.

تجربة فنية

◄ ◄ الكلاعي استطاع أن يبرز مهارته الفائقة في صياغة القصص الواقعية، ونجح في نقل القضايا الاجتماعية إلى الشاشة
الكلاعي استطاع أن يبرز مهارته الفائقة في صياغة القصص الواقعية، ونجح في نقل القضايا الاجتماعية إلى الشاشة

بدأ عبدالسلام الكلاعي يمضي بخطوات ثابتة نحو عالم الإخراج السينمائي، حيث كانت بداية مشواره مع الأفلام القصيرة، التي كانت بمثابة منصة لتطوير مهاراته وصقل قدراته، فقدم العديد من الأعمال التي لاقت اهتماما نقديا وجماهيريا، نذكر منها فيلمه “يوم سعيد” الذي أظهر من خلاله قدرته على التعبير عن لحظات الفرح والتعقيد النفسي، و”رحلة رائعة” الذي جمع بين عمق الدلالات الاجتماعية وروعة السرد السينمائي، أما في “عند سريرك”، فقد استطاع أن يعكس مشاعر الضعف والتفاصيل الصغيرة التي تملأ حياة الأفراد، وفي شريطه القصير “التوظيف”، عكس التحديات المهنية والاجتماعية التي يواجهها الإنسان في عالم متغير، حيث جميع هذه الأفلام القصيرة كانت بمثابة شواهد على تمكنه من سبر أغوار النفس البشرية وتقديم مشاعرها المعقدة للمشاهد بشكل سلس كبداية مشرقة.

ومع تطور تجربته الفنية كانت الانطلاقة الحقيقية للكلاعي في عالم السينما مع فيلمه الطويل الأول “ملك”، الذي لاقى صدى واسعا في الساحة السينمائية المغربية، حيث عرض هذا الفيلم في المغرب وشارك في مهرجان الفيلم الوطني بطنجة، وتناول موضوعات اجتماعية هامة وجعل من شخصية “ملك” محورا لاستكشاف التحديات الإنسانية التي تواجه الأفراد في المجتمع، واستطاع في هذا العمل أن يبرز مهارته الفائقة في صياغة القصص الواقعية، ونجح في نقل القضايا الاجتماعية إلى الشاشة بطريقة بين الكلاسكية الواقعية والمجتمع الحديث، محققا بذلك نجاحا نقديا وجماهيريا.

ومع تصاعد نجاحاته وتراكم تجاربه، أصبح عبدالسلام الكلاعي أحد الأسماء اللامعة في السينما المغربية، وترأس الدورة السابعة عشرة لمهرجان طنجة الوطني للفيلم، حيث قام بتكريس نفسه كأحد أبرز الأصوات السينمائية في المغرب، وكان دوره في المهرجان فرصة لتعزيز مكانته كقيادي فني، يسعى من خلاله إلى توجيه السينما المغربية نحو آفاق جديدة، متجاوزا الحدود الجغرافية والسينمائية المحلية، ومؤكدا رسالته الإنسانية والاجتماعية التي يسعى دائما لنقلها عبر عدسته.

قضايا اجتماعية

تجاوز عبدالسلام الكلاعي في فيلم “ستة أشهر ويوم” الواقع المعتاد للحياة والموت من خلال تفاصيله الإنسانية الدقيقة، حيث سرد في هذا العمل قصة مؤلمة لفنان تشكيلي مصاب بالتوحد يعيش مع زوجته، التي اكتشفت أنها مصابة بالسرطان، ولم يعد أمامها سوى بضعة أشهر من الحياة.

من خلال هذا الفيلم أخذنا الكلاعي في رحلة إنسانية عميقة، مستعرضا ألم الحب والتضحيات الصامتة التي تصنعها الحياة، ولقد كانت مشاركة الوجوه المغربية البارزة في الفيلم، مثل جليلة التلمسي وأمين الناجي ونسرين الراضي، بمثابة إضافة قوية تعكس عمق المشاعر والأداء الرفيع الذي يليق بمثل هذه القضايا الاجتماعية العميقة.

◄ رحلة إنسانية عبر شخصيات جريئة
رحلة إنسانية عبر شخصيات جريئة

وبرز مسلسل “عين الحق” كإحدى محطات الكلاعي الدرامية الهامة، حيث تناولت القصة صراعا بين الإخوة حول استغلال الينابيع المائية، ليتحول مشروعهم الحلم إلى صراع مرير عندما تبين أن المياه ملوثة، وهنا تجلى إبداع الكلاعي في تناول قضايا معاصرة تهم المجتمع المغربي بأسلوب درامي مشوق وواقعي، حيث تشابك الألم والبحث عن الحقيقة في سرد درامي محكم، وشارك في هذا العمل كوكبة من النجوم المغاربة مثل محمد خيي وأمين الناجي، الذين أضافوا لمساتهم الخاصة التي أعطت المسلسل طابعا مميزا وقويا.

بدأ الكلاعي في تجسيد تفاصيل الحياة المغربية بعمق وصدق مع فيلم “ملاك”، حيث تناول قضية فتاة مراهقة تواجه أزمة حمل غير مرغوب فيه، ليطرح موضوعات شديدة الحساسية تتعلق بالشرف والتحديات العائلية التي يواجهها الشباب في المجتمع المغربي، إذ نجح المخرج في نقل هذا الواقع الصعب بتفاصيله الدقيقة، مُظهرا من خلال أداء ممثلين مثل محمد الشوبي وشيماء بن عشا كيف يمكن للشخصيات أن تعكس حقيقة الصراع الداخلي في المجتمع.

بوكس

وتناول فيلم “صمت الذاكرة” مرض الزهايمر وتبعاته الاجتماعية والعائلية من خلال قصة موظف متقاعد يتوه في ضباب مرضه، تاركا أسرته في دوامة من البحث عنه، ومن خلال هذا الفيلم قدم الكلاعي نظرة حساسة ومؤثرة حول العلاقة المعقدة بين الأب وأبنائه، حيث مثل اللقاء المفاجئ للابن بحبيبته القديمة لحظة محورية أعادت فتح جروح الماضي وأثارت تساؤلات حول الروابط الإنسانية والتأثيرات التي تتركها الذاكرة، وقدّم في هذا الفيلم ممثلون متميزون مثل كليلة بونعيلات ومحمد الشوبي أداء مليئا بالإحساس والتعبير.

وفي فيلم “سيدة الفجر”، أخذنا عبدالسلام الكلاعي إلى قرية نائية في شمال المغرب، حيث نسج حكاية مليكة، الشابة التي تركت عائلتها وراءها للبحث عن الحب، حيث تخلت عن دفء الأسرة وحميميتها، وأبرز الكلاعي من خلالها الصراعات الداخلية التي تعيشها الشخصيات المتمردة على المجهول، محاطة بخرافات وموروث شعبي يخلد الذاكرة الجمعية للقرية، وأبدع كل من محمد مجد والشعيبية العدراوي في نقل الأجواء الساحرة للقرية وعلاقاتها المعقدة.

بصمة فنية

واصل الكلاعي تقديم أعماله  بقوة، حيث قدم فيلم “مياه سوداء”، الذي تناول قصة صحافية جريئة سعت للكشف عن خبايا إضراب عمال أحد المصانع الملوثة للبيئة، والذي كان يهدد بإغلاقه نتيجة ضغوط السكان، حيث صور الكلاعي الصراع بين العاملين، المسؤولين، والإعلام، وجسد الصعوبات التي تواجه الصحافة في نقل الحقائق، وشارك في هذا العمل نخبة من الممثلين المغاربة، مثل محمد مروازي وسعيد باي وثريا العلوي، مما أضفى على الفيلم طابعا واقعيا قويا.

وروى الكلاعي في “عن الرجال والبحر” قصة حول الشباب المغربي وأحلام الهجرة السرية إلى أوروبا، متناولا التحديات التي دفعت الكثيرين منهم إلى المجازفة بأرواحهم بحثا عن حياة أفضل، حيث قدم الفيلم نظرة مؤلمة على معاناة الشباب الذين وجدوا أنفسهم أسرى واقع صعب وآمال بعيدة المنال، وتألق محمد مجد وسعيد باي وغيرهما من النجوم في تجسيد معاناة واندفاع الشباب المغربي نحو الغربة.

وعرض الكلاعي في “ماجدة” قصة تدور حول عازفة القانون ماجدة وأستاذتها، التي تعيش حياة هادئة مع زوجها حتى تدخل عشيقة قديمة، تثير الفتنة وتبعث الشقاق بين الزوجين، حيث أظهر المخرج في هذا الفيلم قدرته على استكشاف تعقيدات العلاقات الإنسانية بين الحب والخيانة، مقدما قصة تمتزج فيها المشاعر بتقلبات الحياة، وشارك في هذا الفيلم ممثلون بارزون مثل مليكة العمري، منى فتو وسعيد باي.

وسلط المخرج والسيناريست المغربي الضوء في “أسماك حمراء” على قوة النساء وقدرتهن على الصمود أمام التحديات الاجتماعية، حيث روى قصة حياة، التي خرجت من السجن بعد سنوات من المعاناة لتواجه عالما يرفضها، حتى شقيقها الذي يخشى العار، فدفعتها رغبتها في لقاء ابنها وشرح الحقيقة له إلى العودة إلى مدينتها في شمال المغرب، حيث واجهت صعوبات جديدة، إذ التقت حياة بأمل العاملة في مصنع للفاكهة وهدى الأخت التي تعاني من إعاقة، وشكلت هؤلاء النساء الثلاث تحالفا قويا.

ونال هذا الفيلم تقديرا واسعا وحصد عدة جوائز، منها جائزة أفضل سيناريو وجائزة أفضل ممثلة لجليلة التلمسي، وأشاد النقاد بالفيلم في الدورة الـ22 لمهرجان طنجة الوطني للسينما، كما حصل على جائزة “أنهار” لأفضل فيلم يتناول قضايا حقوق الإنسان في الدورة الـ13 للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان.

ويواصل عبدالسلام الكلاعي مسيرته المبدعة مساهما في خلق بصمة خاصة في السينما المغربية، بعد نجاح فيلم “ملاك” كأول أعماله الروائية الطويلة، قدم “أسماك حمراء” في عام 2022، ثم بدأ تصوير فيلمه “سوناتا ليلية”، الذي وصفه بأنه يمثل تحولا كبيرا في مساره الفني ويعيد تشكيل قناعاته السابقة.

مبدع نشأ في بيئة غنية بالحكايات والتجارب الإنسانية

 

8