عبدالرحيم شريف.. ابن هويته الثقافية وأفكاره المتمردة

"المهم كيف ترسم" ذلك ما يعفي الرسام من البحث عن موضوع بعينه واختبار هويته من خلاله. لن يكون الموضوع مهمّا إذا نجح الرسام في إقامة علاقة تحدّ مع الأشكال متسلحا بأسلوبه في الرؤية.
يفاجئ البحريني عبدالرحيم شريف متلقي أعماله بموضوعاته الصادمة بالرغم من أنه لا يتعب نفسه في اختيار تلك الموضوعات التي يتغير النظر إليها على يديه.
يرسم شريف وجوها وزهورا وفاكهة بعد أن انهمك لسنوات طويلة في تحليل الأشكال ليصل بها إلى مستوى التجريد. ولكن كل الوجوه التي يرسمها لا تشير إلى هوية محلية. مخيلته تستمد مفرداتها من ذاكرة متشظية. يستغرب الكثيرون أن هذا الرسام يصر على البقاء وحيدا خارج المكان. ذلك اللامكان يمكن أن يكون فراغا غير أنه الفراغ التعبيري الذي يريحه.
بطريقة أو بأخرى يمكن اعتباره رائدا للرسم الحديث في البحرين بالرغم من أنه لا ينتمي إلى الجيل المؤسس. تكمن ريادته في تحرره من الموضوعات التقليدية، وفي إخلاصه لفكرة الرسم الذي يبحث عن معادلته خارج حدود العلاقة المرتبكة بين الموضوع والشكل.
خصومة بين بيئتين
لا يستعير شريف مفرداته من الواقع. كل شيء يرسمه هو من صناعة المخيلة. وهي مخيلة مركبة من مؤثرات مختلفة، ليس من بينها ما يشير إلى الانسجام مع الواقع وما يُسمى تجاوزا بالتراث.
كان الرسم بالنسبة إليه مناسبة للعب على الشكل من خلاله. إنه رسام يعرف أين يضع حرفته ومتى يتخلص منها وكيف يستعيدها. حريته تكمن في تمكنه. مكنته موهبته من أن يكون سيدا على موضوعاته التي هي مجرد أحداث عرضية.
ولد عام 1956 في البحرين. وحصل على الدبلوم الوطني العالي من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة “البوزار” بباريس عام 1978. عام 1981 حصل على شهادة الماجستير من مدرسة باوسون للتصميم بنيويورك. أقام معارض شخصية في البحرين وباريس ونيويورك.
نال عددا من الجوائز داخل بلاده وخارجها، منها جائزة الدانة البحرينية في عامي 1995 و1996 والميدالية الفضية لصالون الفنانين الفرنسيين عام 1987 وجائزة العرض في مسابقة بير دافيد فايل.
مارس تدريس الرسم لسنوات طويلة. وهو على ذلك المستوى يُعتبر من خيرة المدرسين وذلك بسبب اهتمامه بالحرفة واعتبارها شرطا أساسيا لتكوين الرسام.
في رسومه يبدو ذلك الشرط واضحا بالرغم من أنه كان قد سعى دائما -سواء في التشخيص أو التجريد- إلى الهرب من الحرفة في اتجاه التجريب، غير أن الإتقان كان يضفي على محاولاته التجريبية جانبا مهما من الأصالة الشخصية. كانت رسومه تشير إلى شخصيته دائما. خطوط شرسة ومساحات تتمرد على حدودها. قوة التعبير ماثلة حتى وإن كانت غير مقصودة لذاتها. وهو ما يمكن أن أسميه بالتعبير العرضي.
وبالرغم من عدم اكتراثه بالموضوع فإن رسومه تحفل بالأفكار. أفكار لا تبحث عن متلق مستعد لفهمها فهي ليست أفكارا جاهزة ولا يمكن أن تمر بشكل عابر، ذلك لأنها ما إن تقع حتى تستفز متلقيها الذي لا يمكن أن يبقى صامتا.
◙ شريف يرسم وجوها وزهورا وفاكهة بعد أن انهمك لسنوات طويلة في تحليل الأشكال ليصل بها إلى مستوى التجريد. ولكن كل الوجوه التي يرسمها لا تشير إلى هوية محلية
عبدالرحيم شريف هو ابن بيئة فكرية شائكة يمتزج فيها العبث بالتمرد. وما من شيء يدعو إلى التوافق وما من شيء يشير إلى الصلح الداخلي. هذا رسام تكمن نبوءته في اختلافه لا باعتبار ذلك الاختلاف ضالة بل هو علامة عدم رضا عن النفس بالرغم من كل الثقة التي يُظهرها شريف بنفسه، وهي ثقة مستلهمة من إتقان الرسم حرفةً وخيالًا.
رسوم شريف لا تحتفي إلا ببيئتها الثقافية ولا تحفل بالبيئة الاجتماعية. فهو حين يرسم رجلا بقبعة غربية فإنه يتماهى مع شخصيته، غير أنه في الوقت نفسه يوسع المسافة التي تفصله عن المجتمع. هل كان يفكر بحاجة الرسام إلى العزلة لكي يكون ذلك الآخر، النافر والمتمرد الذي لا يرغب في الكشف عن أسرار عصيانه؟
في حاضنته الثقافية هناك ما يُحرض على البقاء بعيدا عن الآخرين. ذلك ما صنع أسلوبه الذي لا يكتمل إلا من خلال التعدد والتنوع.
غريب وغرائبي
بتعدُّد أساليبه وانشغاله بالأفكار الحديثة اقترب في الكثير من الأحيان من فن الـ”بوب” بصيغته الأميركية. تلك واحدة من صفات تمرده واعتراضه على محاولات البحث عن هوية محلية للرسم، من خلال استعمال مفردات جاهزة، هي من وجهة نظره أدوات مستهلكة لا يمكن أن تصنع رسما جيدا. وهي من وجهة نظري قد أفسدت الكثير من المواهب التي كانت تَعد بالكثير.
على النقيض كان شريف قد أعتبر فنه عالميا وهو لا يبحث عن أصول ذاكرته الفنية في المفردات “الجمالية” المتاحة لكي يكسب من خلالها تعاطف المتلقين العاديين القادمين من بيئة أنتجت تلك المفردات. مغامرته في الرسم ستجد لها صدى في شخصيته التي سيكون من الصعب التفاهم معها على أساس الصيغ الاجتماعية الجاهزة.
يمكن أن تُرى رسوم شريف باعتبارها رسوما غريبة وغرائبية في الوقت نفسه. فلا بأس من القول إنها رسوم صادمة بسبب تعارضها مع البيئة الاجتماعية؛ فهي غريبة عن المكان ولكنها في الوقت نفسه تخلق جوا غرائبيا يحتاج إليه الآخرون ليتم التوازن.
نبوءة تشبه المستقبل
حضور شريف في المشهد الفني البحريني ضروري. فالقيم الجمالية التي تطرحها رسومه مهمة على مستويات عديدة؛ فهي من جهة تقيم اعتبارا للبيئة الثقافية من خلال ما تطرحه من أفكار مشاغبة ومتمردة وهي من جهة أخرى تعمل على تحرير الذائقة الجمالية من النظريات الجاهزة في ما يتعلق بعلاقة الرسم بالهوية المحلية.
ربما سيكون من الصعب الحديث عن ريادة مبكرة لنمط لم يتحقق من الرسم. ذلك لأن أحدا لا يفكر في التأثر برسوم شريف في مجتمع صغير كالمجتمع البحريني. غير أنه من الصعب التكهن بمزاج الأجيال القادمة. لقد غامر ذلك الرسام من أجل أن يكون موجودا في المستقبل. تلك فكرته عن الرسم. وهي فكرة ثورية وإن كانت تعبر عن علاقة خاصة بالذات.
عبدالرحيم شريف هو نموذج الرسام الذي يرى صورته في مرآة المستقبل. وهو يعرف جيدا أن كل خصوماته لن تقف أمام رسومه التي هي الأخرى تعبر عن خصامه مع الفن السائد وهي التي تحسم النزاع لصالحه.
“شريف وشريف” ذلك هو عنوان آخر معارضه عام 2022. عبدالرحيم وابنه هشام يعرضان معا. لقد سبق للابن أن عرض أعماله غير أن محاولة شريف الأب في العرض إلى جانب ابنه قد تنطوي على رسالة؛ ليست من جهة الوراثة الجينية بل من جهة الغربة، فهشام هو الآخر يضع خطوته في مكان آخر، وهو مكان غريب.
معالجة فكرة الزمن هي واحدة من أهم أفكاره التي يطرحها من خلال رسومه. نوعا ما سيكون علينا أن ننظر إلى هشام باعتباره جزءا فالتا من زمن شريف. ذلك فنان مختلف وإن كان ينظر إلى وجوده في سياق ما بعد الحداثة. لقد اختلف زمنه.
يبدو عبدالرحيم شريف من خلال ذلك المعرض كما لو أنه يسلم رسالته وهو ليس كذلك، وفكرته عن أنه كان غريبا وسيظل غريبًا تدعم مشروعه في كل عرض.