عبدالحميد الجلاصي لـ"العرب": فرصة التجديد والإصلاح داخل النهضة تم إهدارها

عند تفكيك السياقات المرحلية، التي عاشتها حركة النهضة الإسلامية خلال السنوات العشر الماضية من عمر الثورة في خضم الانفتاح الكامل للأحزاب بمختلف ألوانها للانخراط في العمل السياسي تحت يافطة الديمقراطية، فإنها تعطي لمحة عن أن الحزب لم يتمكن من تجاوز عقده إذا ما تعلق الأمر بطريقة الحكم. وهو ما أشار إليه عبدالحميد الجلاصي أحد أبرز القياديين التاريخيين للحركة في حواره مع “العرب” حين أكد أن معركة الإصلاح الداخلية كانت مرهقة كما تمّ إهدار فرص التجديد في ظل التلاعب بالديمقراطية، ما أدّى به إلى الاستقالة في نهاية المطاف.
تونس - في الرابع من مارس عام 2020 قدم القيادي البارز بحركة النهضة الإسلامية عبدالحميد الجلاصي استقالته بعد 40 عاما أمضاها صلب الحركة مكتفيا برسالة قال فيها “الخلاصة التي أصل إليها اليوم أنه تم استنزاف الرصيد الأخلاقي والقيمي والأركان التأسيسية مثل الصدق والإخلاص والتجرد والإيفاء بالتعاقدات والديمقراطية والانحياز الاجتماعي والتحرر الحضاري والنبض التغييري”.
وبعد مرور سنة على استقالة هزت الحركة لخسارتها ما يعرف بالجيل المؤسس لنفوذها، لفائدة أجيال جديدة ظهرت أعقاب ثورة يناير وتفتقد لخبرة قياداتها التاريخية، يقدم الجلاصي وهو مهندس التنظيم السري أثناء مرحلة المواجهة مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في فترة التسعينات من القرن الماضي الدوافع الحقيقية التي قادته إلى مغادرة الحركة في كتاب بعنوان من “الجماعة إلى الحزب السياسي” مشخصا من خلاله واقع المشهد الحزبي في تونس.
وفي حواره مع “العرب” كشف الجلاصي رسائل كتابه في ما يخص علاقته مع النهضة وأهم استنتاجاته بعد مرور عشر سنوات من مرحلة الانتقال الديمقراطي، مقرا بأن جهود الإصلاح والتجديد تم إهدارها، في ظل الانقلاب على الديمقراطية داخل الحزب الإسلامي وعدم التوافق في ما يخص مسألة التداول على قيادة الحركة، لافتا إلى أن المشهد الحزبي فقد صلاحياته في خضم تواصل الصراع على النفوذ ومعارك القصور التي لا تعني التونسيين.
ويعد الجلاصي من أبرز القيادات التاريخية للنهضة، وقد انتقل من عضو في المكتب التنفيذي مشرفا على جهازها الداخلي الذي يضم شؤون العضوية والتكوين والإدارة في يناير 1990 إلى نائب لراشد الغنوشي سنة 2014. وبرأي المتابعين فقد خلفت استقالته أثرا معنويا كبيرا صلب النهضة وفتحت الباب أمام استقالات أخرى تعكس ارتفاع عدد “الغاضبين” من توجهات أب التنظيم (الغنوشي).
إدارة التغيير في سياق انتقالي

كتاب "من الجماعة إلى الحزب السياسي" يفكك المشهد الحزبي التونسي ويكشف علله، وفيما ينحاز إلى ضرورة الأحزاب في الحياة الديمقراطية لمواجهة الأطروحات الفوضوية، فإنه لم يغفل عن نهاية صلاحيتها حاليا
يطرح كتاب “من الجماعة إلى الحزب السياسي.. إدارة التغيير في سياق انتقالي” طريقة الجلاصي الخاصة في الاحتفاء بالثورة التونسية، إذ أن الالتزام الثوري هو في العمق عملية تقييم وتأمّل ومراجعة تسمح بتعديل المسارات، خاصة أن الفترة الزمنية، التي تفصلنا عن لحظة “الانفجار الثوري” تسمح بذلك.
وهو أيضا دعوة للساسة أن يكتبوا ويسائلوا تجاربهم. فالكتابة توفر مسافة ضرورية للاستفادة من دروس الخبرة خاصة وأن مناهج الإدارة الجديدة تعتمد منهج المراجعة المحايثة للممارسة. ويقول “لقد تأكدت لديّ أهمية هذه الكتابة بعد أن عاينت فقر الكتابة المتعلقة بالتنظيمات السياسية سواء في ذلك الكتابات الأكاديمية أو كتابات الفاعلين المباشرين”.
وبرأيه فإن ما يستدعي الكتابة هو الحاجة إلى التقييم. وتابع “لئن حققت الثورة التونسية في عقدها الأول كثيرا من المكاسب وهي أهم تجربة انتقال في منطقتنا العربية، رغم أن المقارنة تبدو مخاتلة أحيانا، فالتقييم السليم يتم حسبما كان بالإمكان فعله وليس القياس بتجارب أخرى قد تكون لها سياقاتها المختلفة جوهريا”.
أما من منظور التونسيين فإن التعثرات لا تخفى وضعف المنجز التنموي أبرز وجوهها، والمنظومة القيادية والأحزاب السياسية التي أفرزتها هي أبرز المسؤولين عن “نصف الفشل”.
وأمام كل هذه الاعتبارات اختار البحث في درجة التناسق بين العرض الحزبي المتوفر خلال العشرية الماضية والمهام الوطنية المطروحة، متوصلا إلى جملة من الأسئلة “هل حظيت الثورة التونسية بقيادة في مستواها؟ وهل استطاعت التنظيمات التي قاومت الاستبداد التأقلم مع الأوضاع الجديدة وإعادة تجديد رسالتها وتجديد هويتها الحركية والخروج من ثقافة السرية والاحتجاج إلى فضاء العلنية وقيادة الدولة؟ وهل نجحت هذه التنظيمات في بناء ثقافة سياسية جديدة بداخلها، وفي ما بينها؟ وهل نجحت في تجديد طبيعة علاقتها بالمجتمع وفي بناء علاقة مع جمهور الناخبين مغايرة لما كانت عليه الأوضاع قبل الثورة؟”.
وعند التأمل يمكن أن نجد في النص بدل الكتاب كتابين اثنين: يفكك الكتاب الأول المشهد الحزبي التونسي ويكشف أمراضه، وهو هنا ينحاز بوضوح إلى ضرورة الأحزاب والتنافس الحزبي للحياة الديمقراطية على مواجهة الأطروحات الفوضوية، ولكنه في المقابل لا يستطيع أن يغفل نهاية صلاحية المشهد الحزبي الحالي.
ويعتقد الجلاصي بـ”أننا نعايش نهاية سياق كامل بثقافته ونوعية تنظيماته ووجوهه أيضا”. ولذلك خصص فصلا كاملا للمساهمة بالتفكير في مشهد حزبي مغاير متناسب مع التطور السياسي في البلاد ومع الخبرات التي راكمتها التجربة الحزبية في العالم.
أما الكتاب الثاني فهو ما يشبه أن يكون “دراسة حالة” لتقييم مدى نجاح حركة النهضة في امتحانات تجديد رسالتها وإعادة صياغة هويتها الحركية وإدارة الحكم منجزا وسمة.
إلى كل ذلك يلامس الكتاب ملامسة أولية ما يروج حول نهاية السرديات الكبرى مثل الإسلام السياسي والماركسية واليسار وغيرها. وبرأي الجلاصي “فهي قضايا مهمة، لكنها تحتاج إلى معالجة أكثر هدوءا أكثر عمقا. وأيسر الأجوبة في مثل هذه المسائل هي الأجوبة القاطعة بالتأكيد أو بالنفي.. وغالبا ما تكون الإجابة أكثر تعقيدا وتتمثل في إعادة صياغة عميقة لأطر التفكير السابقة”.
تجربة النهضة

بعد تجربة طويلة ضمن صفوف القيادات الأولى في حركة النهضة، قدم الجلاصي قراءته وتقييمه للحركة التي باتت وفق رأي المتابعين عنصرا مغذيا للأزمة في البلاد بسبب سياساتها الطامحة إلى التموقع في الحكم وإصرارها على خوض معركة الصلاحيات مع الرئيس قيس سعيّد دون تفكير في تداعيات ذلك على واقع واستقرار التونسيين.
وفي اعتقاد الجلاصي فإن السعي إلى التموقع في الحكم ليس تهمة بل هو الغاية من العمل السياسي ولذلك تبنى الأحزاب. وبرأيه فإن السؤال الدقيق هو: ما هي الغاية من الحكم؟ ولماذا نحكم؟ وما هو البرنامج؟ أما ما حاول تقديم مساهمته فيه فهو تقييمه العميق للمسارات الفكرية والسياسية والتنظيمية لحركة النهضة من خلال إصداره الجديد.
وخلص إلى أن التجربة في صيغتها الراهنة قد تعثرت ووصلت إلى أقصى ما يمكن أن تعطيه، وأن فرصة التجديد قد تمّ إهدارها، ولكن ذلك لا يعني نهاية التنظيم أو نهاية التعبيرة الاجتماعية بل ستستمر الحركة لسنوات ولكن باعتبارها تعبيرة لقوى تبحث عن الاستقرار في أحسن الحالات في حين أن البلاد تبحث عن قوى التقدم والتغيير.
وتابع “هذه خلاصتي الشخصية مع تفهمي واحترامي لوجهات نظر أصدقائي الإصلاحيين في الحركة الذين يستمرون في المراهنة والنضال من أجل الإصلاح الجوهري”.
أما المسؤولية عن حالة الانسداد الحالية في المشهد السياسي، فيعتقد أن أطرافا متعددة تتحملها ومن ضمنها حركة النهضة حسب حجم التفويض الذي حصلت عليه وحسب الفرص التي أتيحت لها وخاصة في بداية العهدة لمّا كانت المبادرة بين يديها لتشكيل حكومة مرجعيتها الأحزاب والبرلمان حسبما تقتضيه الصورة المثلى في الدستور.
التأثير لاستبعاد شخصيات في النهضة جراء مواقفها دليل إضافي على التلاعب بقواعد اللعبة الديمقراطية داخل الحركة
ورغم أنه أول من طالب بالإصلاح صلب الحركة، إلا أنه تعرّض لانتقادات بسبب عدم معالجته نقاط ضعف الحركة حين كان في صفوفها الأولى. ويرد بالقول “لقد تحملت مسؤوليات قيادية تنفيذية لمدة خمس سنوات منذ الثورة وحتى المؤتمر العاشر ثم اخترت الاقتصار على عضوية مجلس الشورى منذ سنة 2016 وحتى استقالتي.. وبالطبع أتحمل نصيبا من المسؤولية في أداء الحركة السياسي والمجتمعي وفي طريقة إدارتها طيلة هذه المدة. هذا من حيث المبدأ”.
واستدرك بالقول “لكني لست هنا بصدد الدفاع عن حصيلتي، ولا أيضا التفصّي منها فقد كتبت في نص استقالتي أنني على ذمة أي آلية تضعها حركتي السابقة لتقييم أداء مؤسساتها وهياكلها وقيادييها منذ التحاقي بها في الثلث الأخير من سنة 1979 إلى تاريخ مغادرتي في بداية مارس من سنة 2020، ولا أزال عند تعهدي، فهناك حقوق لا تسقط بالتقادم”.
وبحسب الجلاصي فقد كانت إحدى القضايا الأساسية، التي شغلت عددا من القيادات، هي تحقيق تداول قيادي متوافق عليه بمساعدة الرئيس التاريخي لترسيخ تقاليد جيدة في العمل الحزبي بالبلاد ولدى الحركات الشبيهة في المنطقة وأيضا لتغيير صورة الحركة وفتح آفاق جديدة أمامها.
ويوضح بأن هذا الموضوع استفرغ “كل مجهوداتنا – وأظنه لا يزال يستنزف جهود الإصلاحيين في النهضة -بحيث لم نصل إلى مرحلة التفكير في الأسماء”. وشرح قائلا “ربما كانت تلك أحد أخطاء دعاة الإصلاح فرادى آو جماعة، إذ لو قدموا مرشحا حقيقيا لفرضوا قواعد تنافس جدي تفضي إلى تحقيق التداول أو على الأقل تكسر فزاعة غياب البديل وتفرض تفاوضا مثمرا في ما يتعلق بنمط الحوكمة الداخلية وبنوعية النظام السياسي داخل الحركة”.
أما في ما يتعلق بمساره الشخصي فقد كان الجلاصي بين خيارين إمّا الاشتغال المنهجي والمنظم على رئاسة الحركة وإمّا التفرغ للمساعدة في إدارة انتقال كان قد أدرك تعقيداته. وأردف “الأمران سيان عندي”.
تلاعب بالديمقراطية

أقر الجلاصي في كتابه بأن معركة إصلاح الحركة من الداخل كانت مرهقة ودون جدوى، وهو ما قاده في النهاية إلى قرار الانسحاب. ويعزو ذلك إلى ما حصل من تلاعب بالديمقراطية الداخلية خاصة أثناء السباق الانتخابي عام 2019.
ويقول إن العمل الحزبي يحتمل التنوع والاختلاف بل يتسع لإمكانية تنظيم قواعد التعايش والتنافس والاشتغال على تغيير موازين القوى الداخلية من خلال توفير الفضاءات التي تسمح ببلورة الأفكار والتبشير بها. وكل هذا مرتبط بتوفر شروط منافسة نزيهة والنزول عند مقتضاها. فكلما توفرت هذه الشروط كانت المراهنة على الإصلاح الداخلي هي الخيار الأنسب.
وحسب رأيه فإن “ما حصل من تلاعب بإرادة كبار الناخبين في المنافسة الداخلية لإفراز القائمات الداخلية باستبعاد شخصيات وازنة على خلفية مواقفها من قضايا داخلية، كان في نظري دليلا إضافيا على التلاعب بقواعد اللعبة الديمقراطية ومن ثم عبثية التمسك بإمكانية الإصلاح الداخلي”.
وأمام هذا الوضع لم يبق أمامه سوى خيار الصمت أو خيار التصعيد. وعلق قائلا “لم أتعوّد الصمت ولا معنى عندي لتصعيد يكسر كل شيء ويكون فيه الكاسب خاسرا والخاسر خاسرا. ولا معنى عندي لوراثة حطام. خاصة وقد ترسخت لديّ القناعة بأن الإدارة السيئة للحركة منذ سنة 2014 كيّفت هويتها وأفقدتها الكثير من علامات تميزها القيمي ومحمولها الاجتماعي والثقافي”.
وأضاف “لذلك رجحت أن الخيار الأفضل بالنسبة إليّ هو إنهاء التجربة مع الأمل في أن ييسر انسحابي توفر مناخات نفسية اقل تشنجا تعين على بناء توافقات قيادية”.
ويرى المتابعون أن النهضة التي ارتدت ثوب المظلومية لتحقيق مكاسب انتخابية في أعقاب ثورة يناير، لم تنجح في التحول من حزب إسلامي إلى مدني، حيث لم تكن مساعيها ارتداء ثوب المدنية إلا للحفاظ على نفوذها في المشهد وتوسيع خزانها الانتخابي.
من الصعوبة أن يجمع الغنوشي بين زعامة النهضة ورئاسة البرلمان معا، خاصة في ظل طريقة الإدارة التي يعتمدها
ويلفت الجلاصي إلى أن الحركة بذلت جهودا صادقة منذ أواسط التسعينات لتطوير الحركة، ووفرت أوضاع ما بعد الثورة وموقع الحركة في الحكم فرصا أكثر لبلورة تصورات جديدة واختبارها في الواقع. ولقد كانت لوائح المؤتمر العاشر أرقى صيغها. ولكن هذه الجهود تعثرت.
واستخلص الجلاصي شخصيا نتيجةً وهي انتهاء خيار الرهان على الإصلاح الداخلي في حين اعتبر آخرون من الحركة أن ما حصل كبوة يمكن تداركها.
وفي معرض رده عما كانت الازدواجية في المهام بالنسبة إلى الغنوشي وهو زعيم الحركة ورئيس البرلمان في ذات الوقت قد أضعفت النهضة سياسيا وشعبيا. يجيب الجلاصي بأنها مسألة داخلية تهم حركة النهضة ولكنه كمراقب من الخارج يرى صعوبة في الجمع بين الصفتين خاصة بطريقة الإدارة التي يعتمدها.
وفي ما يخص مستقبل النهضة في حال وقع تجديد القيادة، يقول الجلاصي إنه ليست لديه القدرة على التوقع لافتا إلى أنه لم يحدد موعد المؤتمر بعدُ، كما لا يرى معنى للحديث عن نهضة ما بعد الغنوشي.
وتشهد النهضة منذ سنوات حراكا داخليا مستمرا كان في بداياته خفيا بين أسوار المطبخ الداخلي للحركة، ويتعلق أساسا بتحالفاتها منذ 2014، ومع اقتراب موعد المؤتمر الحادي عشر للحركة، طفا الخلاف على السطح وبات معلنا، وبرز صراع أجنحة تبحث عن تموقعات في الحكومات المتعاقبة وفي الصفوف القيادية الأولى للحركة في فترة ما بعد المؤتمر.
مانيفستو جديد
في معرض تقييمه للمشهد السياسي الحالي مع استمرار الصراع على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث وفي ظل معارك الأحزاب الأيديولوجية، أمام مخاوف حقيقية من الانزلاق في مربع العنف. يقول الجلاصي “أحاول أن أساهم من جانبي في النصح لبلادي واقتراح حلول وحماية ثورة بذل في سبيلها الآلاف الغالي والنفيس وأتشاور في ذلك مع عدد من الأصدقاء”.
وأكد أن “وضع الانسداد الحالي غير قابل للاستمرار، فالبلاد مشلولة ومعارك القصور لا تعني كثيرا الجمهور”. وعلى رغم الصدام والتجاذبات، يعتقد أن الحلول ممكنة ولكنها أصبحت الآن تحت عنوان وسقف الإنقاذ.
وحسب رأيه فـ”لتجنب أسوأ السيناريوهات الممكنة وهو سيناريو الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والانفلات السياسي نجد أنفسنا بين مشهدي إنقاذ ما تبقى من العهدة بالوصول إلى توافقات تضمن التعايش أو الاتفاق على قواعد فك الارتباط والإقرار بعجز منظومة انتخابات 2019 على الاشتغال الناجع”.
ويرى أن الأوضاع الصعبة تتطلب كثيرا من الصبر والشجاعة والتجرد والإخلاص للوطن، لافتا إلى أن الكثير من الشخصيات الوطنية مستعدة لتذليل الصعوبات والقيام بدور الوساطة.
ويعتقد أن تونس بحاجة إلى “مانيفستو جديد” يعود بها إلى مناخات وزخم السنوات الأولى للاستقلال، وزخم السنوات الأولى للثورة. كما يشير أنها بحاجة إلى كسر بعض الأصنام وكشف الغطاء عن عدد من الأوهام الرائجة اليوم التي توهم بأن السياسة عملية تقنية وما يشابه دروس التنمية البشرية.

ويتابع بالقول “يجب العودة إلى البديهيات فالتجارة يمكن أن تكون أرقاما، أما السياسة فليست كذلك… ولمواجهة التسطيح لا بد من حلم ولا بد من رؤية للمستقبل. ولكن تجارب الأمم تؤكد أن لا مستقبل ولا نهضة دون الاستناد إلى ركن شديد من الماضي”.
وبرأيه لا بد من إبداع سردية وطنية تخدم إحياء النخوة الوطنية، وهذه السردية في تقديره، “ليست اشتغالا على التاريخ بالمعنى الأكاديمي وإن كانت تستند إلى التاريخ، بل هي عمل سياسي وبيداغوجي”.
وشرح “السردية لا تعنيها النقاشات الأكاديمية حول وجود أو عدم وجود عليسة أو الجازية الهلالية مثلا.. إنها تشتغل على المخزون النفسي للجماهير وتعبئة طاقتها الروحية وتوظيف رموزها التاريخية والارتكاز على المحطات والملاحم المشتركة لاكتشاف الفرادة وإبراز البصمة الخاصة والمساهمة في بناء المسيرة البشرية. كل انتماء يتضمن قدرا من الإحساس بالتفوق، ولا احد يعتز بالانتماء إلى “غبار من الأفراد”.
وأضاف “كل شعب له موارده التي تحدد طريقه الخاصة إلى العظمة، ولا معنى لمستقبل شعب دون السعي إلى بلوغ العظمة. وتلك هي المعركة الحقيقية بين الأمم والشعوب”.
وكان من جنايات الأيديولوجيات المتجاوزة للقطرية سواء كانت أممية أو قومية أو إسلامية احتقارها للحقيقة القطرية، وليس بالضرورة المضي المتطرف في الاتجاه المعاكس آي التعامل مع تونس كجزيرة معزولة بل يمكن البحث عن توازن جديد بين الوطني ودوائر الانتماء المتعددة التي تحتويه على أن يظل الوطن هو المركز وهو الأصل، كما يجد الألماني أو الإيطالي أو الفرنسي اليوم توازنا بين انتمائه الوطني وانتمائه الأوروبي.
ويعتقد الجلاصي أن هذه السردية التي تتغذى من كل محطات تاريخنا الطويل وتتوجها بريادتنا لملحمة الثورات العربية التي تعد أحد أهم منعرجات التاريخ العالمي في العصر الحديث أي الثورات هي أرضية المعادلة التونسية للعظمة بما هي خارطة سير من أجل الديمقراطية والنهضة والتحرر الثقافي واستكمال الاستقلال الو طني وأحد مقوماته الأساسية الاشتغال العقلاني لبناء المغرب العربي، هو الإطار الذي يلهب الخيال ويحفز الإرادات ويعبئ الطاقات ويوجه البرامج العملية في التربية والثقافة والتنمية والعدالة والعلاقات الخارجية.
وفي ما يخص تطلعاته مستقبلا لتبوّء منصب حكومي أو الترشح للسباق الرئاسي، كشف الجلاصي أنه طيلة السنوات الماضية لم يفكر بتاتا في أي موقع حكومي، كما لم يفكر في الترشح للمجلس التأسيسي ولا لبرلمان 2014.
وفي سنة 2019 توقع مشهدا برلمانيا شبيها بالحالي وقدر أنه قد يكون مفيدا لتهدئة الأجواء والمساعدة، لذلك ترشح في التصفيات الداخلية في الحزب الذي كان ينتمي إليه وحصل على تزكية الناخبين. واستدرك “لكن طريقة إدارة الملف والانقلاب على الديمقراطية الداخلية دفعتني إلى التخلي عن الفكرة رغم تقديم عرض”.
وختم الجلاصي حواره مع “العرب” قائلا “بالنسبة إلى المستقبل فإني أفضل أن اترك خياراتي مفتوحة على كل شيء”.