عالم عربي متنوع الثقافات تحكمه ثقافة لا تقبل التنوع

المجتمع العربي من أغنى التجمعات السكانية تاريخا وثقافة وتراثا، فعلى امتداد التاريخ الإنساني الطويل كان له الدور المتميز والرائد في إغناء الحضارة الإنسانية، ولعل حضارة وادي الرافدين ووادي النيل مثال حي لجوهر الفرد العربي ورقيه حين يفكر بعقلانية، ويمنح مساحة واسعة لحرية التفكير والإبداع. ثم الانتقالة النموذجية للثقافة من خلال الدولتين الأموية والعباسية اللتين رعتا الفكر والمفكرين، وأبرز ملامح هذا التطور هو بيت الحكمة الذي أسسه الخليفة العباسي المأمون.
واستمر الإبداع الثقافي العربي رغم المعضلات التي واجهته من خلال الغزو الممنهج خلال الحقب التاريخية، وتسلط بعض الأنظمة الدكتاتورية على مقاليد السلطة، وتفننها في ابتكار أساليب القمع وكتم الأصوات التي كان لها الأثر السلبي والإيجابي على جوهر التطور الثقافي العربي، وعادة ما تعتمد الأنظمة السياسية الاستبدادية الدكتاتورية في أسس حكمها على محاربة الحس الثقافي الواعي باعتبار حامليه معارضين لمشروع ممارسة حكم الدولة القائمة على الظلم والجشع، فمنذ أن كان المتسلط والمثقفون يحاكمون ويسجنون ويعدمون وينفون.
المؤسسات الحاكمة الأوتوقراطية تتعامل مع مسألة الثقافة والوعي بالتهميش والحصار والذي يتخذ شكلا ناعما لكنه مكشوف عبر إستراتيجية استقطاب أهل الثقافة والعلم، وإبعادهم عن الخط والاتجاه الأصلي للعمل الثقافي الجوهري، وأيضا للدور القيادي الذي يضطلع به المثقف، بأن يرسخ الوعي الديمقراطي والإنساني لمجتمعه، مساهما بذلك في التأثير وصياغة الحدث السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومجمل التحولات الفكرية.
الثقافة والمعرفة الحقيقية تعدان ركيزة بلوغ الوعي الفكري والإطار الموجه للوعي الذاتي والاقتصادي والاجتماعي، والثقافة في شقها الفلسفي العلمي تعتبر الأساس والمنهج والعماد المؤسس للوعي السياسي الناهض بثقافة حقوق الإنسان كفكر عقلاني تنويري وإنساني وثوري.
◄ لقد انتهى زمن التبرير السلبي بأن الانفتاح، والاعتراف بالتعدد العرقي والثقافي، يقود إلى فصم عرى الوحدة الوطنية... وبدأ عهد الوعي الجمعي وأحقية الإنسان في أن يقول ويعبر بكل شفافية.
وعلى الرغم من التنوع الكثيف الذي يكتنف العالم العربي عرقيا ولغويا ودينيا ما يتطلب تعددية سياسية وثقافية تمكن الجماعات المختلفة من التعبير عن خصوصياتها وفعالياتها، ورغم الواقع الثقافي المستمد من الثقافة الإسلامية التي تعترف بالتنوع وتشجع على الحرية والتعبير عن الاختلاف، إلا أن التعددية السياسية النموذجية المطلوبة في العالم العربي بامتياز تعتبر هي الغائب الأكبر في الواقع العربي.
والسؤال الأهم الآن كيف يمكن المواءمة بين الواقع الثقافي والممارسات السياسية في العالم العربي؟ وما هي العقبات المحتملة أمام جهود المواءمة؟
تكمن الإجابة في بعض المعطيات المتاحة الآن في الواقع المحلي والإقليمي والدولي ومنها: أولا التطور التقني والتكنولوجي في الاتصالات المرئية والمسموعة، والذي أصبح من خلاله العالم قرية صغيرة تصل فيه الأحداث والأفكار بسرعة مذهلة رغم بعض القيود التي عادة ما تفرضها بعض الأنظمة المتسلطة.
ثانيا المناخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي أحدثته ثورة المعلومات وثورات الربيع العربي في أغلب الدول العربية، حيث أصبحت الحرية مطلبا شعبيا ملحا، لا يمكن التغاضي عنه أو تجاهله ولعل السقوط الدراماتيكي السريع للذين رفضوا الانصياع للمطالب الشعبية بالتحرر والانطلاق لبناء أسس جديدة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم عامل مساعد للقبول بالمطالب المشروعة للمجتمع.
ثالثا الضغوط الدولية التي تمارسها المؤسسات الدولية تجاه الأنظمة الاستبدادية والتي شكلت طفرة تعبوية لمطالبة الشعوب بحقوقها بحرية لم تتوفر سابقا.
رابعا الانسجام والقبول بين المعتقدات الدينية والطموح الشعبي في الحرية وقبول الرأي والرأي الآخر، وما تأكيد القرآن الكريم من خلال آياته السمحاء إلا دليل على هذا التلاحم والمقبولية. وعلى سبيل المثال لا الحصر إذ يقول الله تعالى “وَلَوْ شَاء رَبُكَ لَجَعَلَ النَاسَ أُمَةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” (سورة هود الآية 118). “يَا أَيُهَا النَاسُ إِنَا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (الحجرات: الآية 13).
إن الثقافة الحقة التي تحرر الأمم والشعوب وتجعل منهم مواطنين لا أشباحا هي التي تنبع من دواخلنا العارفة بالهم الذاتي والموضوعي، ويصبح معنى الثقافة نحن جميعا. الثقافة الإيجابية ـ ثقافة حقوق الإنسان وتطلعاته ـ لا يمكن أن تحفظ بقاءها في ظل غياب ممارسة الديمقراطية، فعندما تغيب الديمقراطية ينعدم الفكر والإنسان والحق ويصبح كل شيء مباحا وفق أهواء الحاكم.
وحتى نضمن سلوكا ثقافيا منفتحا ومقبولا لا بد من تحقيق الآتي: أولا استقلالية المؤسسات الثقافية عن الأنظمة وليس الدولة. ثانيا الإيمان بأن الثقافة تصنع الحياة وتطورها من خلال فعاليتها الأدبية والفنية والفكرية. ثالثا الحوار والقبول بالرأي والرأي الآخر ونبذ التهميش والاجتثاث الفكري. رابعا الاهتمام الجدي بالمفاصل الحيوية التي تشمل: التعليم الجيد، الحرية، تمكين المرأة. خامسا بناء منظمات مجتمع مدني هدفها الأول هو خدمة الإنسان بعيدا عن مبدأ الربحية والمنفعة لمؤسسيها.
لقد انتهى زمن التبرير السلبي بأن الانفتاح، والاعتراف بالتعدد العرقي والثقافي، يقود إلى فصم عرى الوحدة الوطنية ويجعل الدولة عرضة لـ”المؤامرات الصهيونية” والإمبريالية، وبدأ عهد الوعي الجمعي وأحقية الإنسان في أن يقول ويعبر بكل شفافية عن رغباته وغاياته النبيلة المشروعة.
• ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية