عاشق المدن

في ذكرى رحيله التي تصادف الثلاثين من أبريل توقفت عند جملة من الأقوال الخالدة للشاعر نزار قباني ومنها: “نصف مجدي محفور على منبر ‘لويس هول’ و’الشابل’ في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والنصف الآخر معلق على أشجار النخيل في بغداد، ومنقوش على مياه النيلَين الأزرق والأبيض في الخرطوم، طبعًا هناك مدن عربيّة أخرى تحتفي بالشعر وتلوح له بالمناديل، لكن بيروت وبغداد والخرطوم تتنفس الشعر وتلبسه وتتكحّل به، إن قراءتي الشعريّة في السودان كانت حفلة ألعاب ناريّة على أرض من الرماد الساخن”.
وإذا كان نزار دوّن عددا من أجمل قصائده في بيروت وبغداد ودمشق فإن مدنا عربية أخرى كثيرة استظلت بظل مشاعره واستضاءت بضوء مفرداته النثرية المعبأة في قوارير العطر والمزركشة بألوان الشعر، فعندما زار أبوظبي في عام 1979 قال من على خشبة المسرح الوطني “أعترف لكم، أن أبوظبي لم تحاول تفتيش ملابسي، أو تقرأ أوراقي، أو تغسل دماغي، وإنما تصرفت معي بمنتهى الحضارة، وتركتني أصرخ بحرية، كما لو كنت أصرخ في هايد بارك كورنر في لندن، الله.. كم أنا سعيد بأبوظبي كورنر، وما أروع أن تصبح أبوظبي والمدن العربية الأخرى، مثل هايد بارك، إذا، لانحلت كل مشكلات الشعر العربي، وذابت كل أحزان الإنسان العربي”.
وفي عام 1995 أعلن عشقه من تونس: “شكرا… لمدينة القيروان، فهي أوّل مدينة عربية ترتكب فضيحة حبّ الشعر… وحب الشعراء، أوّل مدينة تكحّل عينيها بقصائدنا، وتعلّقها كأساور الفيروز في معصميها، وتكتبها بماء الذّهب على قميصها، أوّل مدينة ليبرالية تتزوّج الشّعر بلا مهر… ولا وثيقة زواج ولا شهود… ولا خواتم سوليتير”.
وفي عام 1957 خاطب أهل طرابلس اللبنانية: “حين سُئلت أن أعطي أمسية شعرية في مدينتكم الحلوة لم أستطع أن أقاوم الدعوة المغرية، فطرابلس في هذه الأيام هي قارورة طيب، ومن ذا الذي يرفض السكنى في قارورة طيب. المشوار من بيروت إلى طرابلس إسراء على شريط من صحو وفيروز ولؤلؤ مكسر. إسراء على سجادة من عبير، سجادة مصنوعة من زهرات النارنج والليمون. عند مشارف مدينتكم استقبلتني رائحة زهرات النارنج والليمون. ملأت صدري، وملأت ثيابي، حتى خُيّل لي أن حدود مدينتكم مصنوعة من رائحة الجنة. هل تريدون لمدينتكم حدودا أحلى من هذه الحدود التي لا تُرى ولا تُلمس؟”.
ومن أجل ما قاله في الخرطوم عام 1968 أن “الإنسان السوداني هو الوارث الشرعي الباقي لتراثنا الشعري، هو الولد الشاطر الذي لا يزال يحتفظ -دون سائر الإخوة- بمصباح الشعر في غرفة نومه، وبخزانة الشعر المقصبة التي كان يعلِّقها المتنبي في خزانة ملابسه، كل سوداني عرفته كان شاعرا… أو راويا للشعر، فالشعر في السودان هو جواز السفر الذي يسمح لك بدخول المجتمع ويمنحك الجنسية السودانية، الإنسان السوداني هو الولد الأصفى والأنقى والأطهر الذي لم يبع
ثياب أبيه ومكتبته ليشتري بثمنها زجاجة خمر، أو سيارة أميركية، أنا في السودان لأتلو عليكم شعري وأتمم ديني، فلقد أصبحت مقتنعا بأن من لا يزور السودان لا يكتمل دينه، ولا تتأكد شاعريته”.
ولا يزال الشاعر الكبير الراحل يعيش في ذاكرة أمته، ومازالت المدن كالنساء تتعطر بعبق قصائده وأريج كلماته التي تحولت إلى قاموس للعشق والحب والجمال.