عادل صياد من كرسي بوتفليقة إلى انتفاضة "الابتسامة"

لم يكن في يوم ما بخير فعمد ذات عام ودفن شعره في مقابر مفتوحة على الريح والأرواح هناك حيث وقف الشهود من دائرة ضيقة من الأصدقاء والأحباب والفضوليين يودعون بصمت أسود شعر الشاعر والناشط عادل صياد إلى الأبد. دفن أشعاره الكثيرة في التراب الذي منه جاءت وإليه عادت. ”حسنا فعل“ قال الغاضبون من أمثاله. فما هو الشعر بعد شعراء انتحر بعضهم وكانوا أصدقاء مقربين مثل الشاعر الراحل فاروق أسميرة، وبعضهم يعرفه ويعرف ما فعلوه في جسد الشعر النمطي الذي ساد وهيمن في مشهد الشعرية الجزائرية، هؤلاء يعرفهم من بعيد. الشاعر الراحل عبدالله بوخالفة الذي استقبل الموت في أكتوبر 1988 بجسده النحيل حيث ضاقت به الحياة والرؤى والأحلام والطموحات فوضع حدا لحياة قصيرة ملأها صخبا وتمردا على كل شيء في محيط معاد وصاخب لكل فكرة جديدة متجددة.
جيل القلق
لا يحتاج صياد ابن تبسة، إلى أكثر من تعريف واحد يعرف به. شاعر قلق وموحش ومتوحش وعصابي وصعب ومتذمر وساخط وعارم وفوضوي وغاضب ومنتهك وحفـــّار. لا فكر له ولا لغة ولا لون ولا أرض أو سماء تقيه. لا نص مقدسا يغويه ولا علم يقنعه ولا أخلاق تردعه ولا قيم تغطيه.
هو شاعر مفتوح على المفاجأة واللا متوقع واللا يقين. شكاك ونمام وحالم. بطل هنا ومنسحب هناك. من خيرة الشعراء وألطفهم، ومن أشرسهم عودا وقامة وانتقادا. لا يبالي بما تأتي به الشرائع ولا التنظيرات ولا المفاهيم ولا الفلسفات ولا السياسات سواء جاءت من أنبياء أو متصوفة أو نخب أو شخوص.. وحده كون شعري ونخبوي وفلسفي. يلعب ويتلاعب ويكره اللعب. خارج السيطرة والتحكم والتوجه والصيغ.. يـــُـقرأ أسلوبه ولغته ورؤاه من هامش مرقط باليأس والقنوط والغضب.
مر على وظائف تكرهه ويحبها، صحافيا وكاتبا لامعا، منخطفا بالتجديد والابتكار يلمع بمقالاته ونصوصه وتحقيقاته، زائرا في العديد من التنظيمات الثقافية أبرزها الجاحظية لصاحبه الروائي الراحل الطاهر وطار. كان من القلائل الذين أحاطهم هذا الأخير بعنايته، وكشف نبرتهم العالية المختلفة الآتية والذاهبة إلى المستقبل. نشط برفقة شعراء آخرين مثل نجيب أنزار ونصيرة محمدي وحسان خروبي. كانوا بمثابة روح أخرى في مجرى نهر الجاحظية الكبير. كانوا يتدفقون بالأحلام الصغيرة والرؤى المكثفة والرغبات الساطعة في التغير وإثبات الوجود الفعلي لجيل صاعد من متون الحياة الباهرة التي ستتظلل خلال عشرية كاملة بالدم والإرهاب والموت الشنيع الذي لف الرقاب والعباد.
بؤس المدن
كان صغيرا بشكل كاف ومتعاليا بشكل مستمر كي يدرك مدى الرهان المشتبك للعيش في مدينة مخيفة كالعاصمة الجزائرية، وهو القادم من العمق من فضاء التقليد والإصغاء لما ما يقوله الأجداد والآباء الذين خبروا حياتهم في العيش القاسي وضمن قيم أخرى مسبوكة بالأغلال والتربية الصارمة على تعاليم الدين والطاعة والخنوع والاحترام المطأطأ رأسه. لا مجال للعصيان أو قول المنكر أو الزيغان أو الاختلاف. أطع وطبق.
ولكن صياد سرعان ما أضمر الرفض والتجهم من هذا ومن نصوص مقدسة ممسطرة تبلد وتكلس وتبسط وتتركك مطمئنا. فأشهر أول سيوفه في وجه الامتثال وأصدر أول عمل شعري نافذ ومقلق للذوق العام سماه “أشهيان” محلقا فيه نحو أفق سريالي عبثي عدمي وفجائعي لامس الموت الذي تغلغل في واقع الحياة الجزائرية وأصبح كالصديق الخائن الذي يجلس معك ثم ما يلبث أن يمزق ظهرك بسكاكين حادة كأنك لم تكن معه.
وهكذا فعل الموت بأقرب الشعراء لروحه حيث لاطف الشاعر أسميرة ودفعه إلى الانتحار الذي سيغدو رمزا سريا يدور في فلك شعراء آخرين أسسوا حلقة لشاعر آخر منتحر عبدالله بوخالفة، وكان من بينهم صياد ذاته، وكأنهم بذلك يتنبؤون بما سيؤول إليه راهنهم ومستقبلهم الغامض الذي تراوحت اختياراته بين مصير اليتم أو حتمية الانتحار أو في أحسن الأحوال القتل الذي عصف بالنخب والشعراء والمثقفين وعامة الناس خلال السنوات الحمراء.
انفضت الحلقة وصمت صياد وغيره من أقرانه. أمام الموت تفنى الأحلام وتتبعثر في الصمت القاتل. كانت له حضورات صاخبة أحيانا وباهتة مرة أخرى. كان يكدس أقواله ويراكمها ريثما يتضح ما يجب أن يتضح.
شغل مناصب في الإذاعة الوطنية والمحلية. معها جرب الانتباه لواقع البؤس الذي تعيشه المدن الداخلية والقرى النائية. حاول أن يكرس نمطا من التعامل والتوجيه مختلفا في الشكل والمضمون أعطى تعليمات على اعتبار أنه مدير للصحافيين كي يتركوا الميكرفون مفتوحا للحقيقة، مهما كانت قسوتها ومرارتها في زمن سيطر الخوف والخنوع والتفاهة والحسابات الضيقة على العقول والأرواح.
وكي لا يستمر في الأمر عمد مسؤولوه إلى إبعاده من ولاية إلى أخرى للتشتيت والعقوبة. ولكنه كان أحرص الناس على البقاء كما هو غير مستقر ومجنون وصاخب وصاحب حدود لا متناهية من الثورة على الأوضاع. فما الذي يمكنك أن تعدل في شاعر ملسوع ومنفلت من التصنيف وقيود الاستكانة والاطمئنان؟
غير أن صياد يعاكس التوقعات دوما وهو يكتب ويحاجج ويقول ما لا أذن تحب سماعه أو تحب رؤيته طازجا، وأتاح له فضاء فيسبوك مجالا واسعا متسعا من الحرية التي غابت أو فقدها بأحسن الأحوال في خضم الحياة اليتيمة التي عاشها كما عاشها جيله.
أنقذه من الانتحار الوشيك ليس بالمعنى الفعلي بل بالمعنى الرمزي السحيق الضارب في نصوصه التي نشرها في ديوانه الثاني “أنا لست بخير“، نصوص قالت بعفوية نادرة مآلات الأحلام التي أهدرها جيل الثورة والحكم وحكم عليها بالنفي والهجرة من العيون الصغيرة للإنسان البسيط الذي ينام وفي رأسه الكثير من الأماني والآمال. نفيت وهجرت إلى السكون والحرائق التي أتت عليها في وضح النهار وفي حلكة الليل.
ضاع الإنسان الجزائري وضيعه حكامه الفاسدون الذين يقبعون اليوم في السجون، فأظهر صياد، ليس فقط، ثورته الهادئة على ذلك كله، بل كتبها بلغة قاتلة محرمة ناقمة فائضة بمعان مباشرة مثلما يفهمه الكل دون مواربة أو إخفاء أو حتى ترميز أو إشارات خارجة على النسق والذوق والعرف. ألب عليه الإسلاميين وأصحاب النوايا الحسنة وحراس المعابد وحتى أصدقاءه. وعلى غير المتوقع تدخل في العديد من القنوات العربية مفصحا عن رغبات غامضة ومريبة مثلما يقول خصومه، أو كتلك التي دافع فيها عن رجل أعمال فاسد يقبع اليوم في السجون من أزلام العصابة.
تجهم السلطة
عندما أعلن بوتفيلقة ترشحه للعهدة الرابعة سنة 2014 سكت العديد من المحسوبين على المنفعة والمصلحة والفلوس والمناصب والحظوة والنعيم. طبعا كانت هناك هوامش رافضة ومقتعنة بأن الأمر عبث ومسخرة، فالرئيس مريض ولا يقوى على الحركة ومشلول ومشمول برعاية صحية عالية تنتظر في أي لحظة أن يودع الدنيا.
ومع ذلك قرر الرئيس ومحيطه الضيق أن يترشح لعهدة أخرى رغم أنف القلائل الذين اجتاحهم السخط والذهول من الأمر. وكان من بين هؤلاء صياد وبوزيد وحرز الله
اللذان أصدرا بيانا حادا، مستنكرين الأمر والفعل والرغبة، واعتبرا أن هذا “خطأ جسيم”، سيؤدي إلى وضع “بغاية الخطورة”، وفي ثنايا البيان أكدا دعمهما للمترشح علي بن فليس، وأنهما سعداء بالجهر بهذا الموقف أمام الملأ “بكلّ وعي واعتزاز”، ونظرا إلى المرشح المهزوم دوما باعتباره “من بين المرشحين لهذه الانتخابات الأوفر حظّا والأكثر مصداقية، لاعتبارات عديدة”، ولم يفصحا عن أسباب ذلك، وقالا إن سردها يطول.
طبعا هذا الموقف “الجريء” آنذاك من الشاعرين لم يترجم أصلا كما يقول المتتبعون بأي حضور لهما لافت، في أي من التجمعات أو التظاهرات أو الندوات الإعلامية التي كان يعقدها بن فليس. حتى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت أواخر ديسمبر 2019 لم ير لهما أي أثر أو قول باتجاه “مرشحهما” النوعي الذي كان سيغير أحوال البلاد والعباد.
المدن الداخلية والقرى النائية تشكل فضاء خاصا صب عليه صياد اهتمامه، وقد حاول أن يكرس نمطا من التعامل مختلفا مهنياً، فأعطى تعليماته كمدير للصحافيين ليتركوا الميكرفون مفتوحا للحقيقة، لكن المسؤولين أبعدوه
ومثلما كان صياد جريئا في ذلك الموقف، تفتقت أيضا جرأته في الحراك. حيث أسهب في الدعاية والتكبير والتهليل له، حتى أنه كان من الأوائل الذين نادوا بضرورة الحفاظ على العنوان الرئيسي للحراك “الابتسامة”. وضع كل طاقاته الفكرية والإبداعية خلال كل مراحل هذه الهبة. وأصبح نجما من نجوم وسائل التواصل الاجتماعي، وفي العديد من القنوات الإعلامية المحلية والعربية، متابعا ومحللا ومناقشا. فاز هنا وتعثر هناك. تم توجيهه لقول ما تريده القنوات وأفلت من أخرى حاولت رصده. وأبدع في طرح الرؤية لمستقبل الحراك وحرص دوما على أن يكون الجيل الجديد الذي هو في الشارع اليوم هو حامل المشعل لا غير، لا صياد ولا الراحل قايد صالح.
يقول صياد عن انتفاضة الجزائريين الجديدة ”أطلقتُ عليها توصيف (الابتسامة)، لما أبانت عنه من سلمية وتفجير لسلوكيات راقية وغير مسبوقة لدى الجزائريين. فلطالما كانت السلطة تروّج للهمجية وتخويف الناس من الانزلاق إلى العنف، وتذكّرهم بالعشرية السوداء وسيناريوات الفلتان الأمني في بعض دول الجوار والحروب الأهلية في بعض البلدان العربية جراء سقوط أنظمة الحكم فيها“.
ويذهب كمامال يوم إلى فسحة الفضاء الأزرق مهموما ومتعبا، يكتب بنهم جملا أخرى تعجب من تعجب وتفاجئ من تفاجئ، قد يصاحب اليوم الحراك في هبته كما يقول وقد يعاديه بمزاج لا يليق به. أصحابه كثر ومتعددو المشارب والتوجهات والنحل والأعمار. ينساهم في فورة غضبه ولكنه يبقى يطل عليهم شاعرا بهم ومستشعرا لأحوالهم، يغرد معهم بعفوية كي لا تصاب الأحلام الكبرى لهؤلاء الذين خرجوا منذ عام وهم يهتفون بالخلاص وقد يكون صياد من بينهم تحركه هواجس نص سيكتبه هذه المرة دون أسئلة اليتم أو الموت.