عادل بودراع رحالة العصر الذي يسافر إلى المجهول عبر القارات

وسيلته في التنقل دراجة هوائية، وأدواته خيمة وبعض المؤن، متسلحا بجواز سفره المغربي وإرادته التي تقهر الطرقات وعدسة هاتفه الجوال الذي يوثق به رحلته ويتواصل من خلاله مع أهله وأصدقائه، انطلق عادل بودراع المعروف بـ“الرحالة القنيطري”، من المغرب قبل سنتين في رحلته التي قادته إلى أعماق أفريقيا، وهاهو اليوم يصل إلى بورما بجنوب شرق آسيا، قادما من أدغال في رحلة محفوفة بالمخاطر والمفاجآت.
بودراع الذي يبلغ من العمر الآن 28 عاما هو ابن مدينة القنيطرة قرب العاصمة الرباط، وفيها درس وحصل على دبلوم تقني في الكهرباء، يقول لـ“العرب” عن نفسه إنه عاشق للسفر، وأنه عندما يمكث مدة طويلة دون قطع المسافات يدخل في حالة من الاكتئاب، يعالجها بالتنقل من مدينة إلى أخرى، وكانت هذه بدايته مع فكرة السفر.
مغامرة حول العالم
مغامرة جديرة بالمتابعة يوثقها أولا بأول على صفحته الفيسبوكية التي جعل منها نافذة يتواصل من خلالها مع الأصدقاء والمعجبين. ويقول عنها لـ“العرب” إنه دشنها أولا “من جنوب المغرب نحو السنغال عبر موريتانيا ثم عدت، وكانت رحلة تجريبية ممتعة استفدت منها الكثير”.
ويضيف بودراع “في البداية كنت أتنقل من مدينة إلى أخرى عبر (الأتوستوب) ولكن عندما لاحظت أن هناك أشياء لا أستفيد منها وتضيع مني في سفري، قررت أن أعتمد على الدراجة الهوائية، ولازلت اعتمد عليها إلى الآن في جميع تنقلاتي، إذ يمكنك باستخدامها أن تقطع ما بين 100 و120 كلم في اليوم، وهذا يجعلك تعتمد على نفسك”.
بدأ هاجس السفر يسيطر عليه منذ أن كان في التاسعة عشرة من عمره، أي سنة بعد حصوله على الباكالوريا داخل المغرب.
ويروي ذلك قائلا “كنت أذهب على الأقدام، لا يعجبني التنقل بالحافلة، فأنا أحب الاحتكاك مع الطبيعة، لكن السفر على القدمين يأخذ وقتا كبيرا، وفكرة أن تتنقل بالسيارة لم ترقني أيضا، فأن تركب سيارة مسافة طويلة، أمر يمنعك من الاستمتاع بمناظر وأماكن رائعة. وهكذا سافرت أول مرة إلى السنغال ثم عدت إلى المغرب ثم ذهبت مرة ثانية إلى غامبيا، وهناك تعلمت ما تحتاجه الرحلة، وهذه المرة الثالثة التي أقوم بها برحلة أفريقية آسيوية، وقبل الرحيل إلى بلد آخذ فكرة وافية عن طبيعة الطرق والمسافات بين المدن وأماكن تواجد السكان والمؤن من ماء وغيره".
يصف بودراع كيف رحّب به أبناء وطنه في رحلاته، حيث يقول “وصلتني عدة رسائل من الجالية المغربية داخل أفريقيا يرحبون بي في أماكن سكناهم. وقد قطعت أفريقيا في سنتين وشهرين، وعندما خرجت من المغرب لم تكن المصاريف تكفيني للوصول إلى السنغال عبر موريتانيا، وبعد ذلك بدأت تصلني دعوات من مغاربة للمكوث معهم بعض الوقت، يصلحون لي الدراجة الهوائية ويمكنونني من بعض المال لاستكمال الرحلة إلى الوجهة الأخرى. وفي إحدى الرحلات اضطررت إلى العمل لمدة شهرين مع تاجر ملابس موريتاني في غينيا كوناكري كي أحصل على المال الكافي لمواصلة الرحلة”.
ثقافات الآخرين
حين تسأله عن أي بلد ترحّل إليه، يبدأ بتعداد مناقب أهاليه وجغرافيته وطبيعته والمصاعب التي واجهته فيه، فعندما وصل إلى غينيا كوناكري قال إنه أكثر بلد عانى فيه كثيرا ولم تكن لديه نقود لدرجة أنه اعتمد في التغذية على المانغا التي تجود بها أشجار الطريق، ويصبح على حد قوله “ضيف الله في المساء، حيث أتوقف للأكل في المطاعم التي على الطريق، وعندما أنتهي أقول لهم لقد سقطت محفظة نقودي. لكن بعد أكثر من مرة لم أعد أكذب بل أصدقهم القول وأعرض عليهم بأن يأخذوا أي شيء من الدراجة مقابل الطعام، وفعلا فقدت ممتلكاتي من حذاء رياضي وقبعة وهاتف محمول، حتى وصلت إلى إقليم نزيريكوري الذي عملت فيه مع ذلك التاجر الموريتاني، كما ذكرت، وبعدما جمعت بعض النقود استكملت الطريق نحو ساحل العاج”.
أصيب الرحالة المغربي بالملاريا في مالي والكاميرون، وكان يقضي عليها بالسيروم في المستشفى لعدم فعالية الدواء. أما بوركينا فاسو ذات الطبيعة والناس المسالمين فالغريب أنه أصيب بـ”لعنة النوم” حتى وهو يقود الدراجة. وعن نيجيريا يقول إنها من البلدان السيئة للسفر، فهناك حواجز أمنية كثيرة يفتشون الدراجة رأسا على عقب والناس في الطريق وفي القرى يرون ذلك فيعتقدون أنه عدو إرهابي جاء ليفجرهم، ويضيف بودراع “كان ذلك يجعلهم يستوقفونني ويتصلون بالشرطة”.
كان في طريقه إلى تشاد ذات مرة، وعندما تبقت مسافة 140 كيلومترا فقط قبل الوصول إلى العاصمة قالت له شرطة الحدود إنه لا يمكنه الذهاب بالدراجة، ولا بد له من ركوب شاحنة. ويقول بودراع عن ذلك “حين رفضت، تصاعد النقاش مع شرطي الحدود، فاعتقلوني لمدة خمسة أيام وبدأت عملية الاستنطاق حول وجهتي وأهدافي، وإن كنت حاصلا على تأشيرة للدخول إلى نيامي، فأصبحت محل شبهة، وعندما تركوني عدت أدراجي وعبرت إلى بنين”.
فيلة ونمور وشغف
يقول بودراع إنه تم توقيفه أيضا في زائير من طرف عصابات الكساي، وفتشوا الدراجة بحثا عن أحجار كريمة، فالمنطقة التي كان يعبرها تعتبر أغنى منطقة خام للألماس في العالم. لكنهم عندما لم يجدوا شيئا تركوه يذهب بعدما عرفوا أنه رحالة مغربي.
أما أخطر خط سير بري مرّ عبره فكان في الغابون. وهو مسار مليء بالفيلة، والموت كان وشيكا نظرا لتواجد النمور في المنطقة. يقول بودراع عن تجربة مريرة ثانية تعرض لها مع شرطة إحدى الدول “سجنت ثلاثة أيام بزامبيا ثاني بلد أدخل إليه دون تأشيرة، قبل أن تقرر الشرطة منحي التأشيرة وإطلاق سراحي باتجاه شلالات فيكتوريا الرائعة، أما في موزمبيق فكان الأمر مقلوبا. حتى أن التداوي دائما كان بالمجان”.
أوغندا مكان فريد يمر منه خط الاستواء، والغريب في الأمر كما يقول بودراع، أنه “بعد كيلومتر واحد من خط الاستواء صدمتني سيارة وسقطت في غيبوبة ليوم واحد، وعندما أفقت في اليوم الثاني وجدت نفسي في المستشفى وقد تكسرت دراجتي، لكن جسمي كان سليما إلا من بعض الرضوض، وبعد ثلاثة أيام خرجت لأكمل بعدها طريقي إلى المجهول الجميل”.
يزهو بودراع برحلاته التي يعتبرها إنجازات كبيرة، ويكفي كما يقول أنها متع لم تتحقق لأحد غيره. ويضيف “لقد زرت عددا كبيرا من دول أفريقيا وواجهت عدة مصاعب ليس أقلها الطرق الصعبة، ومع ذلك ليس لي هدف أن أحمل لقب رحالة العصر، الأهم هو تلبية الشغف الداخلي، فكل اهتماماتي كانت منصبّة على الطبيعة والسفر والناس”.
شعار مرضى سرطان الأطفال
لا يمكن تلخيص درس واحد فقط من السفر، وإنما كان يتملّك بودراع شغف الرحلة، كان دوما يختار من بين الطرق تلك التي تحفها الغابات أو تكون في غموض الصحراء كي يتعمق أكثر في معرفة الجغرافيا والناس، متواصلا مع عدد من الثقافات والحضارات والعادات.
اقترحت عليه عدة جمعيات أن يحمل شعار إحداها ويبلّغ رسالتها، لكنه غير مؤمن بذلك لأنه لا يغير شيئا على أرض الواقع، كما يقول بودراع. لكنه يحمل شعار الأطفال المرضى بالسرطان، فهذه الفئة في الغالب لا تستفيد من أي شيء.
عندما وصَل إلى مصر، منع من الدخول إلى الأردن والسعودية برّاً، لأن معبر سيناء ممنوع المرور عبره بالدراجة الهوائية. فاقترحوا عليه أن يركب الطائرة، وشارك ذلك مع الأصدقاء في فيسبوك أنه عوض الذهاب إلى دول الشرق الأوسط فليتوجه إلى إحدى دول جنوب شرق آسيا، وفعلا تفاعل معه أحد الأصدقاء وقال له “اختر أي بلد هناك لرحلتك الثانية وأبعث لك تذكرة السفر”. فاختار إندونيسيا، وتلك المرة الأولى صعد فيها الطائرة للتنقل من قارة إلى أخرى.
أما تمويل الرحلة فهو ذاتي، كما يروي بودراع “مرة التقيت في جنوب أفريقيا بجالية هندية مسلمة، وطلبوا أن يجروا معي حوارا حول رحلتي، قبلت رغم أنني كنت غير مقتنع بالفكرة، لولا إلحاحهم ووعدهم بدعمي بالمال الذي ساعدني للوصول إلى مصر، وعندما وصلت إلى آسيا من مصر لم يتبق لدي الكثير، فمكثت في أحد المعابد أقوم ببعض الأعمال اليدوية مقابل الطعام”.
وهكذا وبعدما طاف البلاد الأفريقية قاطعا مسافة تزيد عن 50 ألف كيلومتر، وكتب عنها وعن سكانها وعاداتهم ووثّق الرحلة بالصور، غادر القارة السوداء في مغامرة جديدة.
عندما تحدثت إليه “العرب” وجدته في بورما جنوب شرق آسيا يتناول وجبة غداء، وهو ينتظر بفارغ الصبر تأشيرة الدخول إلى الهند. وقال إنه سيحصل عليها بعد أيام، ليقطع بعد ذلك ما يقارب الألف كيلومتر نحو الهند ثم نيبال ومنغوليا وكازاخستان.
بورما التي وصلها قبل أسابيع، يصفها ببلد البساطة والطرق الوعرة وأجواؤها تشي بمغامرة شبيهة بمغامراته في بعض الدول الأفريقية؛ أكواخ على الطريق وقرى جد بسيطة وإجراءات أمنية في المعابر الحدودية.
وكان انطباعه حول بورما أن أناسها مسالمون وطيّبون والكرم زايد بعض الشيء لأن الناس لا تزال تعيش ببساطة أكثر، “فكل كوخ أتوقف بقربه يقدم لي الشاي والقهوة بالمجان مع ابتسامة بورمية تدفع بي للسير قدما”.
أما التخييم في بورما فصعب إذ أن الشرطة لا تحبّذ رؤية شخص ينصب خيمة قرب الطريق، لكن كثرة المعابد تسهل القضية، فحين يحل الظلام يلوذ بأحدها للنوم.
مفاجأة العراقي في لاوس
قبل بورما وبعدما وصل إلى عاصمة لاوس فينتيان، وبدأ بالبحث عن أندية رياضية، وأول ناد توجه إليه اسمه “صفاء جيم”، ووجد أن مالك النادي يتحدث العربية واسمه صفاء. وهو عراقي عاش في النرويج وتايلاند وحاليا مستقر بلاوس. ويقول بودراع “فرح بي كثيرا وفتح لي أبواب النادي دون أجر، مما أزال عن كاهلي ثقلا كبيرا”.
وقد شارك حينها بودراع في ثلاث مباريات للملاكمة التايلاندية، حيث أنه تدرب على مثل هذه الرياضة بالمغرب، وكان الغرض تلبية شغف الرياضة والبحث عن مورد مالي، فالمباريات تقام على الرهان، وقد ربح منها بالفعل بعض الأموال، ولكن عندما أصيب في وجهه قرر عدم الذهاب بعيدا في هذا المجال رغم أنه كان بأمسّ الحاجة إلى المال.
أما فيتنام فهو بلد جميل والناس فيه جد رائعين، حسب وصف بودراع، رغم أنهم من أصعب الشعوب في التواصل، فالكل تقريبا يتكلم الفيتنامية فقط، من البوليس والإدارات في العاصمة. انطباعه عن فيتنام أنها من البلدان الصاعدة بقوة في الساحة الاقتصادية والتنمية البشرية، فالناس في القرى يعيشون ميسورين بسبب وفرة المياه التي تسهّل عليهم الزراعة، أما الناس في المدن فهناك اكتفاء مع الحياة والسعادة.
في فيتنام لاحظ بودراع أن الطفل يملك حسّا بواجب مساعدة أهله في العمل خارج أو داخل المنزل، لأنه يحس بذاته مستقلا، ويتقبل فطريا أنه يضيف شيئا لأسرته، وهناك عائلات كثيرة جلس معها وراقب كيف أن الأبناء يقومون بأعمال من المفروض القيام بها من طرف الكبار، في حين أن الآباء يعاملونهم كأشخاص ناضجين.
بودراع وفلسفة الترحال
اضطر بودراع إلى العمل في عدد من المعابد البوذية، فاحتك بالبوذيين وأكل من أكلهم وتواصل مع الرهبان دون أن يشكل ذلك بالنسبة إليه عائقا عقائديا. أما بالنسبة للمسلمين في هذه المناطق التي مر بها فهم أقلية، بلباسهم التقليدي ولحاهم البيضاء، ولكنهم يعيشون وسط البوذيين ويمارسون التجارة معهم دون أي مشاكل.
وهو يظن أن معظم ما يتداوله الإعلام يتعلق بالمشاكل التي كانت قرب بنغلاديش في مخيمات اللاجئين، وهي مشاكل سببها سياسي، تم استغلال الدين فيها من طرف الدولة لطرد معظم المسلمين الذين هم من أصول بنغالية، الغالبية الساحقة منهم في منطقة أركان.
في أحد المعابد البوذية دخل إلى الصخرة الذهبية وشاهد الطقوس حين كان البعض يلمس ويقبل الصخرة، والبعض الآخر يخر سجودا متمتماً بدعوات وصلوات. هنا يعلق عادل قائلا “هذه طقوسهم وتلك الأفكار والمعتقدات إن دلت على شيء، فإنها تدل على عظمة وحكمة الإنسان القديم، وأنه لم يكن ساذجا وبمستوى ذكاء منخفض بدليل أن أفكارهم القديمة، وحِكمتهم التي تركوها لازالت تسيطر على عقول هذه الكائنات في الحاضر”.
يتابع بودراع “لقد وجدت نفسي وسط الدير مع الرهبان البوذيين، وهي فرصة لطالما انتظرتها وكنت أخطط لأن أعيشها وأتشارك مع هؤلاء أعمالهم اليومية، بالخصوص بعد ما تعرفت قليلا على فلسفة المعبد من بعض البرامج والأشخاص، وكان لزاما عليّ أن أبدأ بالاستيقاظ باكرا وأتبع الرهبان في أزقة المدينة أمام المنازل والمحلات، وكل راهب يحمل سلة للحصول على الأكل، وبعد ذلك العودة إلى الدير حيث أبدأ بتنظيف المعبد الكبير”.
ينظر بودراع إلى رحلته من المغرب إلى أفريقيا ثم آسيا ببعد فلسفي عميق. إذ بالنسبة إليه، يبدو ضربا من الجنون أو اللامبالاة أن يترك الإنسان كل شيء خلفه ويذهب في طريق مجهول لمدة طويلة، لكن ما هي إلا ضرورة حتمية في هذه الحياة المعاصرة لموازنة القوى، موضحا أنه في ظل التكنولوجيا والحداثة والتمدن وافتقاد الأشياء البسيطة بدأ الإنسان هو الآخر يفقد طبيعته في الاتصال المباشر مع البيئة في ظل الانغماس الزائد مع العالم المادي.
أخيراً نستحضر ابن بطوطة الذي بدأ عند عودته إلى المغرب بإملاء أخبار رحلاته التي جمعها في كتاب أسماه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، سألنا بودراع هل سيمضي على نهج ابن موطنه ويدوّن كتابا يروي رحلته، فقال إن هذا الأمر يراوده وسيعمل عليه، لكن تركيزه الآن منصب على رحلته التي يطارده فيها المجهول الجميل.