ظاهرة أدب القضاة تغزو معرض الكتاب في القاهرة

أدب القُضاة ليس جديدًا على الثقافة العربية، فتاريخ الأدب العربي حافل بنماذج ثرّة من القضاة الذين أغنوا المكتبة الثقافيّة بعلمهم وأدبهم وفقههم.
الأحد 2019/02/03
ظاهرة كتابة القُضاة لافتة تدعو إلى التأمّل والدِّراسة

لفتت انتباهي في معرض القاهرة الدولي للكتاب، المنعقد حاليًّا، حفلات التوقيع التي تقيمها دور النشر للمؤلفين، دون التفرقة بين الكُتّاب الكبار والكُتّاب الجدّد. وهي ظاهرة صحيّة في الأساس، وإن غلب عليها عنصر الترويج في المقام الأوّل، حيث تهدف دور النشر إلى استقطاب جمهور القرَّاء، بما توفره له من فُرص اللّقاء الحيّ والمباشر، مع مؤلفه الذي جاء خصيصًا لشراء كتبه.

ضمن حفلات التوقيع، كان المُستشارون حاضرين، يُوقّعون رواياتهم الصادرة حديثا، وسط فرحة غامرة بين جمهورهم الذي احتشد في طوابير للحصول على توقيعاتهم، والتقاط الصور التذكارية التي تخلّد المناسبة.

ظاهرة كتابة القُضاة لافتة، وتدعو إلى التأمّل والدِّراسة في آنٍ واحدٍ، خاصّة أنّ كتابات بعضهم تدخل ضمن قوائم البيست سيلر، على نحو كتابات المُستشار أشرف العشماوي، الذي أنتج عددًا وفيرًا من الأعمال الروائيّة، آخرها رواية “سيدة الزمالك”، وهناك أيضًا حسام العادلي، الذي أفسحت له الدار المصرية اللبنانية منصة يطل منها على قرائه، بعمله الروائي الأوّل “أيّام الخريف”، وهناك أيضًا المستشارة نهى الزيني، التي عادت مؤخّرًا بعمل أثار ضجة كبيرة بعنوان “بلا وطن”، وقد سبق أن ألّفت أكثر من كتاب.

 أدب القُضاة ليس جديدًا على الثقافة العربية، فتاريخ الأدب العربي حافل بنماذج ثرّة من القضاة الذين أغنوا المكتبة الثقافيّة بعلمهم وأدبهم وفقههم. وفي العصر الحديث أيضًا ما زالت الذاكرة تستدعي وكيل النائب العام لمصر محمد بك نور، الذي قدّم مذكّرة للمحكمة في أزمة قضية كتاب “في الشعر الجاهلي” عام 1926، وكانت نموذجًا أدبيًّا رفيع الطراز على حدّ تعبير خيري شلبي الذي قرّظها بمقدمة ضافية عند نشرها.

وهناك أيضًا توفيق الحكيم الذي ترك منصة القضاء ليتفرغ لنداهة الأدب، التي طاردته منذ أن سافر لدراسة القانون، فانصرف عنه إلى الفنون والمسرح، وما إن عاد حتى انصرف تمامًا عن عمله في النيابة، إلى الكتابة الأدبيّة. وبالمثل عمل يحيى حقي صاحب “قنديل أم هاشم”، فترة في القضاء، ثمّ انصرف عنه إلى المحاماة، ومنها إلى السّلك الدّبلوماسيّ، إلى أن تفرّغ للأدب والكتابة، وغيرهم كثيرون.

الآن يعود القُضاة إلى الإبداع -وإن شئنا الدقة يتربعون على عرش الإبداع، باطّراد الكتابات التي يصدرها مَن يعملون في السّلك القضائي- من باب الأدب القصصي بنوعيه؛ القصة القصيرة والرواية. الغريب أن هذه الكتابات لا تستلهم وقائع القضايا التي يقومون بالتحقيق فيها، أي تأتي كأدب جريمة، وإنما تتماس مع قضايا وإشكاليات الواقع، وبعضها يضرب في التاريخ ليتناول قضايا حساسة خاصّة بقضايا الهُوية، ومسألة التهجير كما فعل المستشار أشرف العشماوي في  رواية “تذكرة وحيدة للقاهرة”.

الغريب في الأمر أن كتابات القُضاة في عُرف المؤسسة النقدية الرسمية، لا تندرج تحت الأدب الرسمي، على الرغم من أن رواية “تويا” لأشرف العشماوي التي صدرت عام 2012، دخلت القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية في نسخة 2013، وهذا الأمر يدعو إلى التساؤل: لماذا هذه النظرة الدونيّة بما تحمله من ازدراء وإقصاء من قبل النقد الرّسميّ لهذه الكتابات، على الرغم من أنها تطرح موضوعات هامّة، وأيضًا تعتمد على تقنيات روائيّة حديثة وإن كانت بتفاوت بَيّن؟

قد يبدو لي السبب ماثلاً في ظاهرة الرَّواج التي حظيت بها كتابات البعض. المثير حقًّا أن فكرة الرَّواج في حدّ ذاتها، تكاد تكون تُهمة في ثقافتنا العربيّة، فقليل من هذه الكتابات تستحق الحفاوة والاهتمام النقدييْن الغائبيْن عن تقييم مثل هذه الكتابات.

ومن ثمّ تحتاج كتابات القضاة إلى دراسة جادة، لدراسة أسباب انتشار هذه الظاهرة التي لا تأتي “كتزجية لوقت الفراغ” على حد إجابة المستشار حسام العادلي في إجابة مازحة عندما توجهت إليه بالاستفسار عن أسباب انتشار هذه الظاهرة؟

ونتائج هذه الدراسة هي المعيار الوحيد للحكم على هذه الكتابة، والأهم دراسة التحولات الفكرية التي جعلت من هذه الفئة تستقطع وقتًا للاهتمام بالأدب ومشاركة الجمهور حفلات التوقيع، والأهم هو تنازلهم عن الجديّة والصّرامة، اللتين أضفتهما عليهم حساسية المنصب، بمشاركة الجمهور دعابتهم، وصورهم وأيضًا ملابسهم الكجوال، في إشارة إلى إذابة الفوارق التي خلقتها طبيعة المنصب، والمهام الموكلة إليهم!

فهل تتصدى المؤسسة النقدية لتحليل هذه الظاهرة، وقراءتها في سياقها الثقافي والسياسي والاجتماعي المنتجة فيه، أم سنظل دومًا في ثنائية أدب الظل والأدب الرسمي دون اختبار حقيقي لنوعية هذه الكتابات؟

10