طلبة الفنون الجميلة بالدار البيضاء يبدعون عبر "تيار الفن"

التيار، في طبيعته، هو حركة مستمرة ومتدفقة، لا يعرف الجمود أو التوقف. والفن، بالطريقة نفسها، هو تعبير دائم عن التجدد والتطور، لا يمكن حبسه في إطار أو حصره في قالب. يجتمع الفن والتيار ليشكلا رمزا للتغيير المستمر، حيث يتفاعل الفنان/ الطالب مع محيطه ويتأثر به، ويعيد صياغته بطرق جديدة ومبتكرة.
الدار البيضاء- لأنه “لا يمكنك أن تخطو في نفس النهر مرتين”، فكذلك الفن، لا يمكن تكراره بنفس الطريقة، لأنه يتجدد ويبتكر في كل لحظة، لهذا هو تيار مستمر ومتقطع في آن.
وتُعد مسابقة “تيار الفن” التي أقيمت فعالياتها في المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء بشراكة فعالة مع شركة إنجليك Ingelec أحد الأحداث الثقافية التي تعنى بالفنون الجميلة في المغرب. وتهدف إلى توفير منصة للطلاب لعرض مواهبهم الفنية واكتساب الخبرات والتقدير. تتجاوز هذه المسابقة كونها مجرد حدث فني، فهي تعكس تفاعلا عميقا بين الطموح الفني والتعليم الأكاديمي والتفاعل المجتمعي.
تشجيع على الابتكار
في “تيار الفن”، نجد تجسيدا حيا لهذا التفاعل الديناميكي بين الفنان ومجتمعه. الطلاب الذين يشاركون في هذه المسابقة هم كموجات صغيرة في بحر الإبداع، كل واحدة تحمل لونها الخاص ونمطها الفريد. يتدفقون مع التيار (المتناوب)، يتعلمون من بعضهم البعض، ويتبادلون الأفكار والتجارب، مما يجعل من كل عمل فني حكاية فريدة تحمل بصمة مبدعها وروحه.
تأتي مسابقة “تيار الفن” لتعزيز الفنون البصرية واكتشاف المواهب الشابة. تُتيح المسابقة للطلاب فرصة عرض أعمالهم أمام جمهور واسع، مما يعزز من فرصهم في الحصول على اعتراف فني وتقدير من قبل المجتمع الفني. كما تُعد المسابقة محفلا لتحفيز مهارات الطلاب وتطويرها من خلال التفاعل مع فنانين محترفين والاستفادة من توجيهاتهم وخبراتهم، مما يشجع على الابتكار في مجالات الفنون المختلفة ويسهم في تطوير حركة فنية مبدعة ومبتكرة في المغرب.
تلعب شركة إنجلك دورا محوريا في دعم هذا الحدث من خلال توفير الموارد المالية واللوجستية اللازمة. تعتبر رعاية إنجلك لهذا الحدث جزءا من التزامها بالمسؤولية الاجتماعية ودورها في دعم المشاريع الثقافية، أو مثلما جاء على لسان مدير المؤسسة العام صديق حساني “تعمل هذه الشراكة على توفير تجربة للطلبة وفرصة للتعبير عن إبداعاتهم وكفاءاتهم الفنية، مستغلين التكنولوجيا الحديثة”، مؤكدا أن الفن هو وسيلة للتعبير عن الهوية والثقافة.
كما تسهم هذه الشراكة في بناء علاقات مستدامة بين القطاعين الخاص والعام لدعم الفنون، مما يعزز من التعاون والتكامل بين مختلف القطاعات لتحقيق أهداف مشتركة.
أما المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، بوصفها ركيزة أساسية في تنظيم هذا الحدث، فتوفر الدعم الأكاديمي والفني للطلاب المشاركين. وتُعرف المدرسة بتقديم برامج تعليمية متقدمة ومتنوعة في مختلف مجالات الفنون الجميلة، مما يوفر بيئة تعليمية ملهمة للطلاب. بالإضافة إلى تنظيم ورشات عمل فنية ومعارض تساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم، تسعى المدرسة إلى تعزيز الروابط بين الطلاب والفنانين المحترفين والمجتمع الفني، مما يخلق بيئة تفاعلية مثرية تساهم في النمو الفني للطلاب.
وفي عالم يعج بالصخب والتقلبات، يقف الفن كواحة هادئة تفيض بالجمال والتأمل. “تيار الفن” ليس مجرد حدث أو مسابقة، بل هو تيار يلامس بقوة إبداعية الفنانين – الطلاب، يحملهم إلى ضفاف جديدة من الفهم والتعبير. كما أن التيار يحمل معه عناصر الطبيعة المختلفة ليشكل لوحة متكاملة، كذلك يجمع “تيار الفن” بين مختلف الفنون والأفكار ليخلق تفاعلا متناغما يعبر عن روح الإنسان وأحلامه.
وتنوعت أعمال الطلاب المشاركين بين من ركّب خيوطا كهربائية على شاكلة شبكات معقدة، تجسد حالات التعقيد والتركيب التي يعرفها عالمنا المعاصر، وبين من أضاء غرفا صباغية اعترتها قسوة الظلمة، ومن دمج الأضواء الناصعة بخيوط النسيج المتشابكة، أو حول نخلة إلى عمود إضافة إلى الأسلاك التي تنقل التيار، ليتحول هذا الأخير إلى تيار فني مضيء.
تعتبر مسابقة “تيار الفن” فرصة هامة للطلاب لتحقيق فوائد متعددة. فهي تعزز من ثقتهم بالنفس من خلال عرض أعمالهم الفنية أمام جمهور واسع، وتوفر لهم فرصة لتوسيع شبكة علاقاتهم من خلال التواصل مع فنانين ومحترفين في المجال الفني. كما يستفيد الطلاب من ملاحظات المحكمين والجمهور، مما يساعدهم على تحسين وتطوير أعمالهم الفنية، واكتساب خبرات جديدة تسهم في تطوير مسيرتهم الفنية. وهو ما يؤكده مدير المدرسة العليا للفنون الجميلة سعيد كيحيا بقوله “انخرط المشاركون في هذا التحدي في طرح الأسئلة والرسم والصباغة وتحوير الوسائل والمواد المتاحة، ليبدعوا أعمالا فنية من رسم وصباغة وإنشاء فني ونحت وبرفورمانس. ومن هذا الملتقى، بإمكاني أن أؤكد أن التقنية في خدمة الفن والفن يكتمل بالتكنولوجيا”.
وهو ما يتفق مع ما آمن به الطلبة، الذين أكدوا على “أهمية مثل هذه المبادرات باعتبارها تفتح المجال أمام توظيف التكنولوجيا في الأعمال الفنية، والانفتاح على تجارب جديدة فضلا عن أنها تضيف للطلبة رصيدا فنيا آخر غير الرصيد والتكوين الفني الذي يتلقونه في المدرسة”.
سبق أن صرح الفائز بالجائزة الأولى إلياس أولقايد بأن “الطلبة بفعل هذه المبادرة وهذا التعاون عاشوا تجربة جديدة ومتفردة، أتاحت لهم الاشتغال بتقنيات وأفكار جديدة ومتجددة تطور أعمالهم الفنية وتجعلهم ينفتحون على مواضيع مغايرة”، وقد تمحور عمله المتوج حول الدمج بين التقنية والبيئة جاعلا من النخلة تضيء، وجاعلا من الأسلاك “روحا” لها.
دور الفن الدائم
بينما أكدت لـ”العرب” الطالبة حفصة الصبايطي، المتحصلة على المركز الثاني، أن “هذه الجائزة هي فرصة للمواصلة والإبداع”، أما اختيارها لموضوع المندلة فنابع من “كونها تشبه شبكة لاقطة للأحلام”، وهي في عملها “تلتقط أنوارا مضيئة معلقة على جدار”. وبالنسبة إليها، فالمرتبة الثالثة هي اعتراف مبكر، إذ أعربت هالة كيحيا، الطالبة في السنة الأولى، عن فرحها وفخرها بهذا التتويج.. إذ “تقدم مثل هذه المسابقات دفعة وحماسا للطلبة من أجل المواصلة والمدوامة على الإبداع والثقة في النفس”. وهي التي عملت على دمج غرفة فان غوغ الشهيرة بمصباح مضيء يزيل عنها جانبها الكئيب.
وهو ما تؤكده تلك المقترحات الفنية التي اقترحها المتسابقون، والتي حاولت ملامسة أبعاد إنسانية وجمالية، فـ”الفن لا يكشف الحقيقة بقدر ما يكشف عن الإنسانية”. وها هنا، يكشف لنا الفن عن الجوانب العميقة للإنسانية، يعرض لنا مشاعر الفرح والحزن، الأمل واليأس، الحب والكراهية. كل عمل فني هو نافذة نطل منها على عالم الفنان الداخلي، نرى من خلالها تجربته الشخصية وتأملاته الفلسفية.
وقد أكدت لـ”العرب” المشرفة على هذا الحدث فاطمة الزهراء الهردوز، أنه يكشف عن رؤى مهمة تعزز من أهمية المسابقة وتأثيرها على الطلبة – الفنانين في المدى البعيد والقريب. مؤكدة أن الفن هو وسيلة لتعزيز الإبداع والتفكير النقدي. إذ شارك فنانون تجاربهم الشخصية ونصائحهم للطلاب ضمن هذا “الامتحان الفني”.
كما تحدثت ممثلة شركة إنجلك عن دور الشركة في دعم الفنون والثقافة، عبر هذا الحدث الذي خصص للطلبة مجموعة من الوسائل التقنية والزيارات العينية والميدانية، التي عززت طموحهم واقتراحاتهم الإبداعية، عبر ما أحدثه لديهم من استفزاز واستشكال إبداعي، جاعلين من الفن تيارا لبناء الثقة والحس الجمالي في آن، مضيفة أن هذا الحدث ليس متفردا، بل إنه استمرار لمبادرات أخرى عملت عليها المؤسسة، ولعله بادرة من أجل جعل المسابقة حدثا سنويا بتعاون مع المدرسة العليا للفنون الجميلة، التي احتضنت الفكرة بأريحية.
ولأن “الفن هو المهمة العظيمة للحياة، فإنه الفعل العظيم للحياة”. إذ يعد الفن وسيلة للتعبير عن الذات والوجود الإنساني. يشكل حدث “تيار الفن” تجسيدا عمليا لهذه الرؤية، حيث يتيح للطلاب فرصة للتعبير عن أنفسهم وتطوير مهاراتهم الفنية في بيئة تشجع على الابتكار والإبداع. ومن خلال التعاون بين المدرسة العليا للفنون الجميلة وشركة إنجلك، يتم توفير دعم متكامل يعزز من دور الفن الدائم، مما يساهم في بناء مجتمع فني مبدع ومزدهر. إن “تيار الفن” ليس مجرد مسابقة فنية، بل هو رحلة لاستكشاف الذات وتعزيز القيم الجمالية والإبداعية التي تمثل جوهر الحياة الإنسانية.
