طلال معلا الرسام والناقد وما بينهما الشاعر

في حياة التشكيلي السوري هناك متاهتان: الأولى شق دروبها بنفسه والثانية هي من صنع القدر، قدره الشخصي الذي قاده إلى مناطق لم يكن يأمل الوصول إليها.
الأحد 2018/09/30
معلا الذي رأى وجهه في وجوه الآخرين

يحدثك عن الآخرين، كما لو أنهم المرايا التي يرى من خلالها ذاته. يمكن أن يكون ذلك الأمر مفهوما لو عدنا إلى شغفه في قراءة تجارب الفنانين العرب نقديا. هو ناقد مثلما هو رسام.

غير أنه يحدثك عن المواقع الأثرية السورية فتشعر أنه يتنقل بك بين غرف بيته. إنه يصف بطريقة ساحرة. وهو ما لم نألفه في رسومه أو كتاباته الشعرية.

متاهتان وحياة واحدة

ينسى المرء في دروب المتاهة التي تشكل لغز حياة طلال معلا أن كل شيء فيه يصدر عن روح شاعر. الشعر بالنسبة له موقف من الذات، حين يرسم وهو موقف من العالم، حين يكتب.

أعانته اللغة المشدودة والمتوترة التي تمكن منها على سبر طبقات خفية من النفس البشرية. لذلك لم يشعر بالحاجة إلى أن يكون تجريديا لكي يبدو غامضا. كل ما فعله هو محاولة لتفكيك أسرار الغموض الذي يحيط بالإنسان.

غلبته المرايا كما لو أنه بورخيس الرسم.

لم تكن المرايا مقصودة لذاتها بل كانت الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو حقيقي. رسوم معلا تبدو كما لو أنها تنتمي إلى تيار التعبيرية الواقعية غير أنها في حقيقة ما تنطوي عليه إنما تذهب أبعد من التعبير عن الواقع إلى الحاجة إلى صنع واقع شعري بديل ينسجم مع الحقيقة.

ينسى الشاعر الكثير من التفاصيل التي يتذكرها الرسام فيما يسد الناقد الثغرات التي تقع في الذاكرة. وهنا لا بد من النظر إلى تجربة معلا باعتبارها كلا متكاملا لا يمكن تجزئته.

غير أن المدهش فيه أنه كان ولا يزال يجد الوقت لكي يؤسس لمشاريع، لا علاقة لها بنزعاته الوجودية في الشعر والرسم ولا ترتبط بالضرورة بمشروعه النقدي بشكل مباشر. لقد تعلم من خلال كدح الباحث أن يتوسع في رؤيته فكانت الطرق الرئيسة تقوده إلى طرق ثانوية أصغر منها.

هناك في حياة معلا متاهتان. الأولى شق دروبها بنفسه والثانية هي من صنع القدر. قدره الشخصي الذي قاده إلى مناطق لم يكن يأمل الوصول إليها.      

رسوم معلا تبدو كما لو أنها تنتمي إلى تيار التعبيرية الواقعية غير أنها في حقيقة ما تنطوي عليه إنما تذهب أبعد من التعبير عن الواقع إلى الحاجة إلى صنع واقع شعري بديل ينسجم مع الحقيقة
رسوم معلا تبدو كما لو أنها تنتمي إلى تيار التعبيرية الواقعية غير أنها في حقيقة ما تنطوي عليه إنما تذهب أبعد من التعبير عن الواقع إلى الحاجة إلى صنع واقع شعري بديل

     

ولد طلال جودت معلا في اللاذقية عام 1952. درس اللغة العربية في جامعة تشرين بدمشق. بعدها تابع دراسة تاريخ الفن في روما. ومن يومها امتزج الرسم لديه بالكتابة. فهو كاتب يرسم وهو أيضا رسام يكتب.

بدأ ذلك الامتزاج في مرحلة مبكرة من حياته. غير أن معلا تأخر في إصدار كتابه الشعري ‘عزف منفرد على الطبل‘ إلى عام 2000. وكما أرى فإن السبب في ذلك يعود إلى أنه سعى أن يؤخر خطوات الشاعر، بعد أن انهمك في مشاريعه التي تتعلق بالتشكيل ‘المركز العربي للفنون بالشارقة‘ وبينالي الشارقة للفنون التشكيلية ورئاسة تحرير مجلة الرافد ما بين سنتي 1993 و1997 ومن بعدها مجلة الصورة. كما كان مشرفا على ندوات عربية وعالمية، كانت تُقام بموازاة بينالي الشارقة.

كتبه النقدية تتوزع بين التأليف والجمع الذي يسبقه إعداد وتقديم. من كتبه المؤلفة “نجاة مكي” و“عبدالرحيم سالم” و“المؤتلف والمختلف الانفتاح على المرئي في تجربة الإمارات” و“العالم الضال. انحراف الرؤيا في الفنون” و“أوهام الصورة” و“المحترف الإماراتي. الذاكرة، الانتماء” ومن الكتب التي جمعها “الفنون الفطرية في التشكيل العربي” و“النقد والإبداع” و“الفن والعنف” وهي حصيلة ندوات أعد لها وأشرف عليها الفنان السوري في الشارقة. 

“بؤس المعرفة في نقد الفنون البصرية” هو آخر كتاب أصدره معلا. وبالرغم من اليأس الذي يوحي به العنوان، فإن محتوى الكتاب يؤكد على أن النقد ضروري حتى في ظل انتشار الفنون المعاصرة التي يسعى المشرفون عليها إلى إلغاء دور الناقد في الحياة الفنية.

“صمت” هو عنوان معرضه الشخصي الذي أقامه في مدينة غوتنغن الألمانية عام 2005. في ذلك المعرض روى معلا سيرته في الفن كما في الكتابة وقبلهما في الحياة. شيء من الغموض يحيط بالعنوان. فكل الصخب الذي مارسه معلا رسما وكتابة كان بالنسبة إليه نوعا من الصمت الذي يعد بحكمته من غير أن يمهد لصرخة احتجاج، كانت رسومه وكتاباته قد انطوت عليها منذ البدء.

معلا يباشر النقد من منطلق معرفي لا علاقة له بذائقة الرسام وهو فعل صعب، ويبدو أن ثقته بالفن تقف وراءه
معلا يباشر النقد من منطلق معرفي لا علاقة له بذائقة الرسام وهو فعل صعب، ويبدو أن ثقته بالفن تقف وراءه

“لوحة تكون مرآة، تجسد اختياري لتصوير الوجوه في شعرية صمتها، وشعائرية تحققها باعتبار كل هذه الوجوه وجهي. فلطالما تأملتها كيانا متوحدا بفرديتي وعوالمي السرية التي ترفض التفسير أو إضفاء المؤثرات التي تتكئ عليها الوجوه وهي تتفرس مخترقة نترات الفضة كمادة مرآتية تخلق الانعكاس وتجتذب العقل وتلغي فعل العين في مواجهة انعكاسها ووظيفتها في توليد لحياة” يقول معلا في محاولة منه لتفسير ما يفعل.

“هذا هو وجهي وإن بدا أنه لا يشبهني” لم يقلها غير أن تلك الجملة تلاحقه مثل شبهة. ذلك لأنه باعتباره رساما لا ينتبه إلى تقديرات الناقد الذي يسكنه. بالنسبة للرسام فإن الآخر هو أناه. وهي أنا تظل عصية على السيطرة ما دامت تظهر بصور مختلفة. أما الناقد فإنه يرصد سيرة الآخرين كما هم، بما يقترحونه من خلال صورهم.

كان معلا مسكونا برؤى الإيرلندي فرانسيس بيكون القلقة من غير أن يتبع أثره على مستوى الشكل. لقد خُيل إليه أن كل مَن يجلس أمامه ليرسمه سيكون نسخة منه. النسخة التي تحرره من واقعيته.

لا يزال يرسم محكوما بلعنة وحدته. الكائن الذي يرى وجهه وقد توزع مثل شظايا بين الوجوه التي لم تعد تذكر بماضيها.  

الناقد المتمرد على أناه

بالنسبة لمعلا فإن الفصل بين الرسام والناقد ممكن بطريقة ميسرة. ذلك لأنه نفسه عمد إلى أن يبقي الرسام سجين محترفه، أما الناقد فقد مضى بخصوصية أدواته ليزاول مهنته في المتعة البصرية والمعرفية من غير أن يكون الرسام رقيبا عليه.

 لقد رأى معلا تجارب الآخرين من الرسامين وكتب عنها وحللها من غير أن يعود إلى الرسام الذي يسكنه. وهي صفة نادرة بالنسبة لمَن بمارس النقد والرسم معا.

لولا الثقة بالمفهوم المطلق للفن لكان معلا قد أخضع كل ما يراه لحساسيته الجمالية
لولا الثقة بالمفهوم المطلق للفن لكان معلا قد أخضع كل ما يراه لحساسيته الجمالية

وكما أرى فإن ناقدا بحجم معلا يعرف جيدا أن الآخرين يقيمون في مناطق لا يرغب الرسام الذي يسكنه في الإقامة فيها. وهنا يكمن السر الذي يقف وراء قبوله بتجارب الآخرين من منطلق الأخوة في العمل لا من منطلق التنافس على شيء قد لا يكون موجودا.

 لقد تحرر معلا ناقدا من أناه التي هي مرشده في ليل الرسم وصار يرى في تجارب الآخرين الفنية نوعا من الدافع لاكتشاف ما لم يكن ذلك الرسام قد اكتشفه. 

يمارس معلا النقد الفني محترفا كما لو أنه لم يرسم من قبل.

إنه يباشر النقد من منطلق معرفي لا علاقة له بذائقة الرسام وهو فعل صعب، أعتقد أن ثقة معلا بالفن تقف وراءه. فلولا الثقة بالمفهوم المطلق للفن لكان معلا قد أخضع كل ما يراه لحساسيته الجمالية التي من شأنها أن تفسد كل شيء، بسبب انغلاقها على تجربة بعينها.

كان معلا دائما هو الآخر الذي يرى.

رسم وجوه الآخرين ليرى وجهه وربما رسم وجهه لكي يرى من خلاله وجوه الآخرين. غير أنه في النقد كان حريصا على المسافة التي من شأن وجودها أن تبقي الرسام الذي يسكنه نائما.

9