طرابلس قلب لبنان الأكثر فقرا

كان المشهد صادما، بل مرعبا حين بادرت عناصر من مكافحة الشغب إلى إطلاق زخات من الرصاص الحي مباشرة على جموع المتظاهرين الذين قاموا بهجمة مرتدة دفعت بهذه العناصر إلى التراجع.
جرى كل ذلك على مرأى آلاف المشاهدين عبر شاشات النقل المباشر من ساحة عبدالحميد كرامي، ساحة النور، بطرابلس في الليلة السادسة من ليالي وأيام الاحتجاجات الأخيرة المتواصلة ضد تمديد فترة الإغلاق العام بداعي مواجهة وباء كورونا.
وجاء بيان قوى الأمن الداخلي مباشرة بعد ذلك ليبرر المجزرة المرتكبة من قبل عناصرها ولِيُسهمَ بوضوح في حملة قوى السلطة الهادفة إلى شيطنة المدينة وانتفاضتها التي هي بمثابة القلب أو الرئة التي لا تزال انتفاضة السابع عشر من تشرين اللبنانية تتنفس من خلالها. فقد ادّعى البيان أن الرصاص استخدم بعد أن ألقى محتجون قنابل على عناصر قوى الأمن في سراي طرابلس الحكومية، في حين أن إطلاق الرصاص حدث في ساحة النور البعيدة نسبيا عن السراي وعلى مرأى الجميع دون أن يكون هناك أي اعتداء مباشر من قبل المحتجين يدعو إلى رد فعل ويسمح لرجال الأمن بالتصويب المباشر على المحتجين حتى في حالة الدفاع عن النفس.
وكانت الحكومة قررت فرض الإغلاق العام في لبنان يوم الحادي عشر من يناير الحالي بعد فشل الإغلاق الجزئي الذي أعلن في الثاني منه، والذي جاء كمحاولة من الحكومة لـ”ترقيع” الخرق الكبير الذي حصل نتيجة قرارها فتح البلاد بشكل كامل خلال فترة الأعياد أواخر ديسمبر الماضي، والذي أسفر عن تفشٍ واسع للوباء وارتفاع أرقام المصابين والوفيات بشكل مرعب. في حين أن أيّا من هذه القرارات الحكومية لم يراع الحاجات الطبيعية اليومية للغالبية الساحقة من السكان لا في طرابلس ولا في غيرها من المناطق وخصوصا أولئك الذين يعملون ليحصلوا على رزقهم اليومي يوما بيوم.
ثم جاء قرار تمديد الإغلاق ليفاقم الوضع المعيشي لدى هؤلاء الذين يمثلون أكثر من ستين في المئة من أبناء المدينة ونسبة أقل بقليل من سكان لبنان. فكيف تطلب من الناس البقاء داخل بيوتهم لأسابيع وبشكل متواصل دون أن تؤمن لهم حاجاتهم الأساسية التي لا غنى عنها، خصوصا أن موسم الأعياد ومن بعدِه فترة الإغلاق ثم تمديدها كانت فرصة للتجار وجشعهم في مضاعفة أسعار السلع الأساسية أو إخفائها ما جعلها بعيدة عن متناول الكثيرين. ولا من حسيب أو رقيب.
كيف يمكن إقناع من يتضوّرون جوعا بالخضوع لقرارات سلطة تُشَرّع حدود البلاد لتهريب المواد الأساسية التي هم بأمسّ الحاجة إليها والمدعومة من أموال الناس وهم يشاهدون بأعينهم قوافل الشاحنات والصهاريج تعبر الحدود؟
وكان النظام الاقتصادي الريعي الذي اتّبعه ائتلاف القوى المسيطرة منذ الوصاية السورية والذي اتسم بالمافيوية المفرطة، قد أدى إلى احتكار الثروة بيد أقلية ضئيلة تقبض على السلطة وعلى مفاصل مؤسسات الدولة في حين تضاءلت فرص العمل أمام الشباب وازدادت نسب البطالة فانحدر أغلب اللبنانيين باتجاه خط الفقر ونسبة كبيرة منهم إلى ما دون خط الفقر.
وكان لطرابلس، المدينة الثانية في لبنان من حيث الثقل السكاني والتاريخي، النصيب الأكبر من نتائج هذه السياسات حتى وصفت بأنها المدينة الأكثر فقرا على شاطئ المتوسط، في حين يتربع بضعة من أبنائها لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، على قمة أثرياء هذا الشاطئ. وهذا وحده كان كفيلا بتأجيج الغضب لدى أبناء المدينة ودفعهم دفعا إلى الثورة.
حملة شيطنة المدينة والتحريض عليها من قبل قوى السلطة وخصوصا حزب الله وحلفاءه وأبواقه الإعلامية عبر الصحف المأجورة والشاشات التابعة والملحقة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم تتوقف منذ فجر انتفاضة 17 تشرين 2019، التي مثلت فيها المدينة بحق أيقونة الثورة وعروسها بنقائها وسلميتها وبمشاركة كثيفة من أبنائها وبناتها.
هذه الحملة التي تهدف إلى عزل المدينة هي في الحقيقة ليست سوى رد من كافة قوى السلطة على تمرد المدينة في وجه كل هذه القوى بمن فيها أولئك الذين يحسبونها جزءا من قاعدتهم الانتخابية. عمليا، طرابلس عزلتهم فجاؤوا يحاولون عزلها لتجويعها وتركيع أبنائها وإعادتهم إلى المنظومة الزبائنية والانتخابية التي تمردوا عليها ورفضوها منذ ما قبل 17 تشرين.
إن اعتبار طرابلس صندوق بريد لهذه الجهة السياسية أو تلك للضغط من أجل تحسين شروطها حيال القوى السلطوية الأخرى أو الحديث عن تجنيب استغلال انتفاضتها لأهداف سياسية من هنا أو هناك، هو بحد ذاته محاولة لتشويه هذه الانتفاضة ولشيطنة المدينة وأهلها.
وإذا نظرنا إلى المدينة خلال اليومين السابقين نجدها كمدينة محتلة، تحولت شوارعها وساحاتها إلى ثكنات عسكرية مدججة بالآليات والأسلحة ما جعل الدكتور أحمد السويسي يقول عبر صفحته على فيسبوك “لو أرسلتم الجيش إلى الحدود لوقف التهريب، بدلا من إرساله إلى طرابلس لقمع الجائعين، لوفرتم 4 مليارات دولار في العام على الخزينة كانت كافية لمعالجة مشاكل الفقر في لبنان!”.
وحيث إن إطلاق النار المباشر على المتظاهرين في طرابلس أدّى إلى سقوط شهيد وعدد كبير من الجرحى، فإن توقع المزيد من المواجهات بات شبه مؤكد، ليس في طرابلس وحدها بل في جميع المناطق اللبنانية. اللبنانيون في المعاناة وفي الانتفاضة سواء. وهنا، على القيادات الأمنية وعلى قيادة الجيش أن تحسم موقفها لأنها هي الوحيدة على الأرض، ولأن عناصرها ليسوا بأفضل حال من المحتجين على كل حال. ألم يُقدم أحد عناصر الجيش على الانتحار في نفس اليوم لنفس الأسباب التي دفعت المحتجّين إلى الثورة؟