طبيبة تعشق جثة وضابطا مازوشيا ونساء خذلتهن الحياة

القاصة لطيفة لبصير تستخدم في مجموعتها لغة مؤدية، وسردا شيئيا وصفت من خلاله كل شيء حول بطلاتها مستخدمة المونولوج مرة، والدايلوغات، والحوارات مرة أخرى.
السبت 2018/09/29
نساء وقعن ضحايا أنوثتهن (لوحة للفنانة ريما سلمون)

حين تكتب المرأة عن نفسها، فهي ترفع السّتارة عن الكثير من الأسرار، التي لا يعرفها الرجل عنها: أحزانها وأفراحها، مخاوفها، وآمالها، ماذا تحب وماذا تكره؟ وقد تبدو شخصية المرأة المثقفة ملهمة للكتابة، حيث تملك من الأسرار والعوالم والتناقضات الكثير مما كشفته القاصة المغربية لطيفة لبصير في مجموعتها الأخيرة.

ما فعلته المغربية لطيفة لبصير في مجموعتها القصصية الجديدة “يحدث في تلك الغرفة” أنها كشفت الكثير من عوالم النساء السرية، غير المعروفة، كونها كتبت قصصها عن نساء وقعن ضحايا لأنوثتهن، وتفكيرهن المتواصل بكينونتهن المختلفة عن الرجل، فأصبن بمختلف الأمراض النفسية: كالكآبة، والوسواس القهري، والفوبيا، والرهاب، وغيرها. تميزت بطلات تلك القصص بكونهن مثقفات: موظفات، طالبات جامعة، ضابطات في الجيش، كاتبات، فنانات تشكيليات وعجائز متقاعدات.

المرأة بطلا قصصيا

النساء اللواتي نراهن في الأسواق والوظائف الحكومية والجامعات وفي البيوت، كيانات بالغة الصلابة، وقادرة على الفعل ورد الفعل. نراهن في قصص لبصير كيانات هشة، حزينة، منغلقة على نفسها، رهينة بما يدور حولها، وما يظنه الناس عنها، كيانات تحلم بالوحدة والانغلاق، والعيش مع ذكريات طفولتها، مستذكرة ملامح وأفعال وأقوال الأب الحنون والأم الحانية.

تستخدم الكاتبة في ذلك لغة مؤدية، وسردا شيئيا وصفت من خلاله كل شيء حول بطلاتها، إضافة إلى مشاعرهن وكوابيسهن وهذياناتهن، مستخدمة المونولوج مرة، ما يدور في الخيال، والدايلوغات، والحوارات مع النفس والآخرين، مرة أخرى.

القاصة لم تسرد العوالم المعتادة للقصّ النسائي المغربي، الذي تناول أجواء الفولكلور المغربي العجائبي، كتناول التحول والمسخ والسحر والطلاسم، أو ما بناه المخيال النسائي عن القوى الخارقة، التي تغيّر مصائر النساء. وهو ما أعادت سرده الكثير من القاصّات المغربيات من رائدات القصة المغربية كخناتة بنونة، زهرة زيراوي، فاطمة الراوي، زينب فهمي، ليلى أبوزيد والشابات من جيلها: كلطيفة باقا، زهرة رميج، وغيرهن.

خيبات المرأة المثقفة
خيبات المرأة المثقفة

المجموعة جاءت باثنتي عشرة قصة، بطلاتها من النساء إلا قصتين أو ثلاثا كان الرجل هو البطل، ولكن الساردة دائما هي التي تحرك ذلك الرجل، فهو جزء من تلك الأنثى، وليس له الاستقلاليّة عنها.

نجد ذلك في قصة “الشفتان” حيث تحكي عن طبيبة تشريح تعشق شابا ميتا، جيء بجثمانه لتؤدي عملها بتشريحه، فتقع في حبه، بسبب جمال شفتيه، وانقباضهما، كما لو كان في وضع تقبيل لشخص ما عند حدوث الوفاة، فبقيت شفتاه بهذا الوضع المميز.

وتزداد الطبيبة اكتشافا لوسامة الميت، كلما دققت فيه: زرقة عينيه، طوله، رشاقته، جمال بشرته. ويقودها هذا الحب إلى الاستحواذ على الجثة، ورفض أوامر المستشفى بتشريحها.

القصة وضعتنا أمام مشاعر أنثى، متعلمة، ومتفوقة في حياتها، لكنها تعاني من العنوسة، كالكثيرات من مثقفات هذه الأيام، اللاتي يغرقن أنفسهن بتفصيلات بناء المستقبل، وعندما يحققن شيئا من ذلك، يجدن أن قطار العمر قد فات، ولم يبقَ لهن في الحياة سوى العمل، وما اجتهدن من أجله في شبابهن، فتكون حياتهن روتينية لا تطاق، باعثة على الكآبة، وبعد ذلك على الجنون أو الانتحار.

ضرورة الزواج

هكذا تقتحم قصص المجموعة عالم المرأة الضاج بالظلم، والأمراض النفسية، كالإرهاق والضغط النفسي والاكتئاب والقلق الحادّ والذّهان والشيزوفرينيا والمازوشية، كما في قصص: هزال، أنا لا أريد أن أنام، التباس، وغيرها.

في قصة “حداد” تحكي الساردة عن بهية، المرأة الجميلة، التي بين فترة، وأخرى ترتدي ثوب الحِداد على زوج ودعته إلى المقبرة، وكلما شاهدتها الساردة، وهي بملابس الحِداد حسدتها على جمالها الفريد. جمال أنثوي يزيده الحزن جمالا وتوهجا، وجذبا للرجال. ويصل عدد الرجال الذين تزوجوها، وماتوا خلال سنوات قليلة إلى أربعة رجال.

وهي لا تزال بذلك البهاء والجمال الفريد، مرتدية ملابس الحِداد بانتظار أن يقع رجل خامس في شباكها القاتلة. ومن فرط حسد الساردة لهذه المرأة، أخذت تتقصّى حقيقة وضعها، فعرفت من جارة لها، أنها لم تتزوج قط، وهي في الحقيقة بائعة هوى، وكلما حملتْ بطفل ارتدت ثياب الحِداد، لتوهم أولادها الأربعة أنهم أيتام، وأن الجديد مات أبوه توا.

ففي قصة “ارتجاج” كما في قصص كثيرة من المجموعة، كـ”طعمه المالح”، “تبسم”، وغيرها، طرحت الكاتبة سؤالا مكررا في ثنيات كل قصة “هل الزواج ضروري للمرأة؟”، وكانت تترك الجواب للقارئ.

هناك قصص صادمة في المجموعة عن واقع مثقفات مريضات نفسيا خذلتهن الحياة، وثقافتهن لم تقدم لهن الجواب

في قصة “ارتجاج” تضعنا أمام نموذج للمرأة، التي تدخل في سلك الخدمة العسكرية، فتصير ضابطا في الجيش، وبإمرتها رجال من رتبة أدنى كـ”السرجنت” عمر. وفي كل ليلة تحلم بأنها تقتل أباها، وتحاول التخلص من ذلك الكابوس، والحياة الروتينية، التي تعيشها في أيامها، بالشرب، ومتابعة برامج التلفزيون، وسماع أغنيات إيديث الجميلة. وعلاقة هذا الضابط بأبيها علاقة مميزة، فهو يريد معرفة كل تفصيلات يومها، من خلال ما تسرده له في الهاتف، عما يصادفها، ولم يتوقف عن ذلك حتى بعد وفاة والدتها وزواجه من أخرى.

ويقترح عليها أن يزوجها بـ”كولونيل” كبير السن، لكنها ترفض هذه الزيجة، لأن لها حياة خاصة تمارسها مع “السرجنت” عمر بشكل يدلل على ما تعانيه من (سادية ــ مازوشية) لتعذيب الذات من خلال إجبار السرجنت على إيذائها، واستعمال العنف معها، فيضطر الأب إلى ضربها بقسوة، لكي يجبرها على الزواج من الكولونيل الأرمل، لكنها تصرُّ على الرفض، وتقاطع أباها، فتصدم بعد أيام بخبر انتحاره. وتتساءل بحزن مرير “هل من الضروري لكل امرأة، أن تكون تحت عصمة رجل؟”.

هناك قصص صادمة في المجموعة، التي صدرت مؤخرا عن دار الفاصلة، عن واقع مثقفات مريضات نفسيا خذلتهن الحياة، وثقافتهن لم تقدم لهن الجواب الشافي عن أسباب ما يعشنه من تناقضات. لقد خذلهن الأهل والمجتمع، ولم تتحقق طموحاتهن.

14