"طاقيّة الوهم" سيرة لاجئ عراقي منبوذ

مع التحولات الشكلية والفنية للقصة القصيرة العربية بإمكان هذا الجنس الأدبي أن يحمل قضايا إنسانية كثيرة في وعائه السردي، واختيار القصة لكتابة قضية بعينها لا يقلل من المساحة المتاحة أمام الكاتب، بل بمنحه مجالا أوسع لخلق نوع من الكثافة التخييلية بينه وبين قرائه، وهو ما نجده في المجموعة القصصية "طاقية الوهم" لعبد جعفر.
يبحث جاسم وصديقه ماجد في مدينة هاجرا إليها ولا يعرفان طُرُقها وأحياءها عن مكان ستقام فيه أُمسيّة موسيقيّة يحييها عازف مشلول اليد كان صديقا قديما لهما، عرفا ذلك من إعلان الجريدة. يصف جاسم تلك الأزقة التي يبحثان فيها عن المكان، بأنها كأنابيب المجاري، وهي تفضي إلى أزقة أضيق منها تصعَّب فيها الحركة من دون أن يحتك الجسد بالحيطان المتآكلة.
كانا كمن يبحثان عن إبرة في كومة قش، ودارا بعد ذلك تائهين في هذه الأنابيب، من دون أن يهتم أحد ممن قابلوهما في هذه الأزقة الملتوية بالإجابة عن سؤالهما عن المكان المحدد للأمسيّة الموسيقيّة. أليس هذا البحث المتواصل عن المتعة والسلوان، الذي عالجا به غربتهما وفقرهما وقلة حيلتهما، وهما يواجهان عالما مُحيرا يهدد وجودهما وهويتهما. عالم يواصل الكاتب العراقي عبدجعفر نسجه في قصص متتابعة في مجموعته الأخيرة “طاقيّة الوهم”.
الاغتراب هو الثيمة الرئيسية التي طرحتها معظم قصص المجموعة، حيث تصب القصص في ذات الرؤية التي اعتمدها الكاتب الأميركي هنري سيسلار في قصته “يوم الاختبار” التي ترجمها عبدجعفر، وضمنها كإحدى قصص “طاقيّة الوهم” ليؤكد من خلالها أن أي فتى يولد مختلفا في درجة الذكاء والألمعيّة تكون نهايته الفقدان والاختفاء السريع من عالمنا.
كشف الأسرار
عبرت قصص المجموعة عن رؤية مفعمة بالأمل، بالرغم من الرعب والخوف من المستقبل، الذي عاشه أبطال القصص المهاجرون من أوطانهم. رعبهم جاء من مواجهة الواقع الذي وجدوا أنفسهم فيه، وكل ما فيه يوحي بالضياع، لكنهم يحاولون التواصل مع الحياة والإمساك بأي خيط يقودهم للتواصل مع الآخر الذي يرفضهم. يبذلون الجهود لفهم الآخر والتناغم معه للحصول على اعترافه بهم وبوجودهم الإنساني. فهم خلال ذلك السعي المرير، يصابون بالكآبة والنكوص والتخلي عن أحلامهم، وبالتالي الانغلاق على النفس، وتقبل واقع العزلة على مضض.
تعيش الشخصيات محنا مختلفة كمهاجرين ولاجئين ومنبوذين من الآخرين، لكنهم يتمسكون بإنسانيتهم من خلال ولعهم بالفن والأدب، ويتعاملون مع هذا الولع الإيجابي كمخلص لأرواحهم الضاجّة بالخوف والقلق من المستقبل والآخر.
عبرت قصص المجموعة عن رؤية مفعمة بالأمل، بالرغم من الرعب والخوف من المستقبل، الذي عاشه أبطال القصص
يستخدم القاص عين الكاميرا في رصد شخصيات قصصه، كما أنه يختار اللحظة التي يكون فيها وعي أبطاله في أدنى درجات التركيز ليستنطقهم، فنجده يستغل مثلا فترات النعاس، قبل النوم مباشرة، أو عند المرض وارتفاع درجة حرارة الجسم أو عند وصول حالاتهم النفسية إلى مرحلة الكآبة والهذيان، فيتصرفون كالمصابين بالفصام الذهني، كما حدث لبطل قصة “مشاكسة في مدينة ماكرة”.
في هذه القصة نجد السيد حامد، العراقي المهاجر إلى بريطانيا، الذي بلغت به كآبة الاغتراب عن وطنه إلى ارتداء ملابس شتائية وفوقها معطف ثقيل في يوم حار من أيام صيف لندن. وأخذ يستفز الناس في الشارع بهيئته الشتائية الغريبة تلك، بينما كان الجميع يلهثون من حرارة الشمس، ولفح الهواء الساخن، فاعتقدوا أنه مجنون. كان حامد يعتبر نفسه عاقلا ولكنه متمرد ومشاكس لطريقة عيش الناس في بريطانيا، وهؤلاء لا يعترفون به ولا يشعرون بغربته ويعاملونه كمهاجر غريب الأطوار أو مجنون.
وفي قصة “محاكمة الريح” يقف المتهم أمام القاضي، ليدافع عن نفسه من تهمة غامضة عنوانها “كشف الأسرار”. وهو لا يعرف، ما معنى ذلك، فيدافع عن نفسه مبررا هجرته إلى بريطانيا “لما وجدت نفسي أنني لم أعد أستطيع التحمل، قررت أن أمضي بأرض الله الواسعة، فبحت بالأسرار للهواء والشجر، ولم يدر بخلدي أن لرمال الصحراء آذانا”.
سفينة غارقة
في قصة “رحلة البحث عن كنعان” يستعد الصديقان جبار وهادي للبحث عن صديقهما كنعان، وقد استقيا معلومات عن سكنه من الكومبيوتر. المعلومات أشارت إلى “أنه يستقر في سفينة غارقة في زاوية قصية من شرق لندن”. وهذه المعلومة المؤلمة عن وضعه استفزتهما. فقررا “إخراجه إلى الضوء وانتشاله من ظلمات النسيان، ليجعلاه حقيقة يراها الآخرون”. عبارات القصة هنا مخاتلة، موحية بأنهما يبحثان عن حياة حقيقية ضاعت في غربة الهجرة.
ويخاطب هادي صديقه المفقود “لم تسع أنت للبحث عني، ومع ذلك فاليوم سأكتشف قاعك الذي تغوص فيه والحوريات الحالمات اللاتي يحطن بك” ويحكي عن مهمة صديقه جبار “سيصور شوقنا العاصف لك”. ويعلن هدفهما “نحن نبحث عن طفولتنا وصبانا وشبابنا الضائع والمختفي والمعلن معك”. وهي رحلة بحث عن ماضيهما المشترك. بحث مرير في أحياء لندن التي تلفظ شغيلتها في رحلة إيابهم إلى بيوتهم وإلى الحانات، عن سكن صديق لا يجدانه بالرغم من بحثهما الدؤوب عنه، فهادي يؤكد لصديقه جبار “لم يبق من العمر إلا ساعات ونحن نبعثرها في التوحد والأحزان والعزلة”.
وفي منلوج طويل أثناء الرحلة في مترو لندن يصف حياته السابقة مع صديقه كنعان في بغداد “كنت أجدك مساء في زوايا المقاهي المسترخية على النهر والحانات المعتمة وفي المكتبة الوطنية وأنت تبحث عن كتب خاصة بأسباب انحراف النساء للبغاء، لمعرفة لماذا مديحة البيضاء صارت بغيا؟”. وفي نهاية البحث المضني عن سكن كنعان يصطدمان بعمارة مسكونة بالأشباح وشقة صديقهما مقفلة، وقد بنت العناكب بيوتها حول مقياس كهرباء شقته، مما دلل لهما أن الشقة مهجورة منذ زمن طويل.
وأكثر قصص المجموعة تعبيرا عن حالة الضياع والإقصاء التي يعيشها المهاجرون هي قصة “الغريق” التي تحكي عن عودة شوقي إلى البصرة من منفاه ليبحث عن جذوره، فلا يجد أحدا، ومن خلال حوار خارجي مع النفس يتذكر شوقي أباه الذي يسميه بالخلاسي، وقد طلق أمه منذ عقود، وأمه التي يصفها بالمرأة البيضاء وبدورها تزوجت رجلا آخر، وتركته هو وإخوته الأطفال يعانون البؤس والحرمان والفقر. شوقي الذي جاء من بريطانيا محملا بالأشواق، والذكريات الحزينة عن طفولته، وصباه لمدينته ولشط العرب وأهله، لا يجد في النهر إلا الماء المالح، وقد اختفت أسماكه وصار آسنا، وملأت صدره رائحة عفونته.
وعندما أصابه اليأس من البحث عن الأم والأب والإخوة جاء إلى شط العرب مصطحبا حقيبته المحملة بالهدايا لأحباب غائبين، ليبث إليه شكوى الوحدة التي يعانيها في مهجره ووطنه، ولأنه يخاف من الانتحار غرقا في النهر، فقد فعل ذلك من خلال إلقاء حقيبته المملوءة بأوراقه الشخصية وهداياه إلى النهر، وانتظر حتى اختفت لتستقر في القاع.
أغلب القصص التسع، إضافة إلى خمسين قصة قصيرة جدا ومسرحية قصيرة ضمتها المجموعة حكت عن الوهم، الذي صور لشخصيات القصص أنهم أحياء ويعيشون كبقية البشر. ولكن في حقيقة الأمر أن أغلبهم إما أموات وإما ممن فقدوا عقولهم وإما يعانون من حالات الكآبة الحادة والفصام.
اختار الكاتب “طاقية الوهم” عنوانا دالا للتعبيرعن الإشكالية النصيّة، التي ناقشتها المجموعة، والعنوان بحق جاء معبرا بشموليته عن كل النصوص، التي حكت عن سيرة لاجئ عراقي يبحث عن أهله وأصدقائه المفقودين.
ونذكر أن “طاقيّة الوهم” هي المجموعة الرابعة لعبد جعفر، وقد صدرت مؤخرا عن دار لارسا في بغداد، بعد إصداراته “سقوف المنازل” 2003، “أحزان المرايا ومسراتها” 2015، و“البيت الأخضر” 2018.