ضياء الدين داود شاب يقوم بدور حزب في مواجهة الحكومة المصرية

منح البرلماني الشاب ضياءالدين داود صوتا للمعارضة المصرية مؤخرا داخل مجلس النواب لم يكن مسموعا كثيرا في الدورة البرلمانية الحالية، فعندما شاهده قطاع عريض من الجمهور في مصر يطل عليهم من إحدى الفضائيات العربية التي تبث إرسالها من القاهرة وجدوا نموذجا مختلفا، خاصة وهو يكيل الانتقادات للحكومة والنظام برمته في ما يتعلق بسلم ترتيب الأولويات، في مشهد غير مألوف، فقد نسي المصريون تقريبا شكل المعارضة الوطنية بهذه الطريقة.
قادت الظروف، وربما الصدفة، ليطل البرلماني إعلاميا، مؤخرا، على المشاهدين، مستخدما لغة سياسية لينة على خلاف ما وقر في صدور المصريين حيال المعارضة التي باتت صورتها الذهنية قاتمة بفعل أخطائها المتراكمة، وبسبب تشويه متعمد لها لعبت بعض وسائل الإعلام دورا في تكريسه في الوجدان العام للمصريين منذ سقوط حكم جماعة الإخوان وما قاد إليه ذلك من عنف وإرهاب وتقتيل.
غاب خلال السنوات القليلة الماضية صوت المعارضة وبقيت غالبية أحزابها قريبة أو متحالفة مع الحكومة، الأمر الذي كاد يُنسي المواطنين مفرداتها وما يحويه قاموسها من عبارات ساخنة، ومع طلة داود صاحب الميول العاطفية نحو سياسات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بحرية كاملة على إحدى الشاشات، شعر البعض أن هناك كيانا أو حزبا ناصريا، وأن شخصا من المعارضة لا يتحدث بلهجة تجاوزها الزمن، بل ذهنه حاضر ويفهم في كثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
انخفاض صوت المعارضة
تركت شريحة كبيرة من الأحزاب المصرية صورة سيئة عن المعارضة أو رمادية لدى البعض، وارتبط دورها إما بتحالفات مع جماعة الإخوان الموضوعة على قائمة الإرهاب في مصر، أو تعاون وتنسيق وتوزيع أدوار مع الأنظمة الحاكمة وتحقيق مصالح سياسية متباينة، ضاعفت من عدم الارتياح لكثير من قياداتها.
في كل الأحوال لم ينظر إلى الضوضاء التي كانت تقوم بها بقدر كبير من الاهتمام، وتلاشى هذا القدر مع تغييبها عن الشارع والإعلام وتقويض دورها داخل البرلمان، ومع فقدان الأدوات الثلاث لأسباب معلومة انهارت المعارضة في مصر.
نجا داود بأعجوبة، فهو موجود في الشارع، حيث نجح في آخر دورتين لمجلس النواب عن دائرة دمياط، في شمال القاهرة، ودخل البرلمان بعد استبعاده في البداية من الترشح، لكن نجح في الحصول على حكم قضائي مكنه من دخول الانتخابات والفوز فيها بصعوبة.
تمثلت نجاته من مقصلة الإعلام في ظهوره دون غيره في برنامج جماهيري وشهير في الأيام الأخيرة، وكان الأداء متزنا بشكل أعاد جزءا من الاعتبار لصورة المعارض المشاكس بلا افتعال أزمات، لأنه كان واعيا لأهمية دوره، وبدلا من أن يصبح وردة في عروة الحكومة وتبييض وجهها في مسألة أنها منفتحة على المعارضة، تحول إلى وردة في عروة المعارضة التي كاد الناس ينسونها من كثرة غيابها عن الخطاب السياسي.
التحالف اليساري الناصري تمكنت الحكومة من قصقصة أجنحته، بسبب استقطاب عدد من رموزه إلى صفوفها، وعرقلة دخول الآخرين إلى البرلمان
أما مقصلة البرلمان فجاءت أهميتها من أنه أصبح أحد ثلاثة نواب يقودون المعارضة داخل مجلس النواب، هو ومعه أحمد الشرقاوي نائب المنصورة، وأحمد فرغلي نائب بورسعيد، وشكلوا ما يشبه حزبا معارضا للحكومة، ربما لم يؤثر إزعاجهم في تغيير تصوراتها ولم يفلحوا في حثها على التراجع عن توجهاتها، غير أنهم منحوا المعارضة صوتا فقد الكثير من تأثيره في الدورة البرلمانية الحالية.
كان داود مسنودا في الدورة البرلمانية السابقة وصوت المعارضة فيها أعلى، فقد كان معه نحو ثلاثين نائبا ضمن تحالف يساري، أو بالأحرى ناصريا، وأطلق عليه (25 – 30)، وهم المؤيدون لثورة 25 يناير 2011، وثورة 30 يونيو 2013، وتقلص العدد مع نهاية الدورة البرلمانية السابقة، لكن واصل العمود الفقري فيه دوره وسط حالة استهداف نادرة من مؤيدي الحكومة.
تمكنت الحكومة من قصقصة أجنحة هذا التحالف، بسبب استقطاب عدد من رموزه إلى صفوفها، وعرقلة الآخرين ومنعهم من دخول البرلمان بوضع عثرات في طريقهم حالت دون نجاحهم، وبقي داود “وردة” في عروة البرلمان في مواجهة نحو 600 عضو يؤيدون الحكومة.
تحول الرجل إلى دليل على أن هناك صوتا عاليا للمعارضة داخل البرلمان، ومن حسن حظه أن الحكومة خففت قيودها على المعارضة وبدأت خطوات للانفتاح على بعض الأصوات المندرجة ضمن هياكلها الحزبية أو المستقلة، ومن حظه أيضا أنه اكتسب حصانة برلمانية تمكنه من الحركة بسهولة وسط الناس في شوارع مدينته دمياط وما حولها.
استفاد داود المولود في السابع عشر من أكتوبر 1975 من دراسته للحقوق وإلمامه بالقوانين المصرية، حيث يعمل كمحام حر، بما قربه من نبض الشارع وأنينه وأوجاعه في أحيان كثيرة، نتيجة التبعات التي خلفتها إجراءات الحكومة على المستويين السياسي والاقتصادي.
بيئة سياسية خصبة
خبر داود العمل السياسي مبكرا، إذ نشأ في بيئة سياسية، فعمه ضياءالدين داود رئيس الحزب الناصري الديمقراطي، وأحد القيادات السياسية خلال فترة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، واكتسب شهرته من تطابق اسمه الأول مع عمه، بما أوجد لبسا أحيانا بين الشخصيتين وصلة القرابة بينهما.
أسهمت تلك البيئة في تكوينه السياسي، حيث تعرف مبكرا على كثير من الرموز المصرية التي كانت تقصد منزل العائلة، وتشعبت مداركه من خلال انخراطه في بقايا ما يسمى بأندية الفكر الناصري في الجامعات التي اشتهرت خلال عقدي السبعينات والثمانينات وخرجت من عباءتها العديد من الكوادر الناصرية، وتدهورت لاحقا ثم تلاشت نهائيا مع تحريم العمل السياسي في الجامعات، وزادت حلقات التضييق في نهايات عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
لحق الشاب بقايا أندية الفكر الناصري وتوابعها، ووجد في الجناح الذي كان يرأسه عمه باسم الحزب الديمقراطي الناصري ملاذا لمراقبة ثم ممارسة العمل السياسي في وقت مبكر، حيث كان هناك جناح ناصري آخر قاده الراحل فريد عبدالكريم باسم الحزب العربي الديمقراطي الناصري، ونشبت بينهما خلافات حادة كانت كفيلة بالمساهمة في تشكيل وعي من عاش في خضم بعضها.
داود ينحاز إلى ما يوصف بـ"المعارضة الوطنية"، وليس المقصود بها أن هناك معارضة خائنة في مصر، فهذا أصلا غير مسموح به بعد تجربة جماعة الإخوان، لكن المقصود المعارضة التي تختلف مع النظام على أرضية وطنية
أدرك أن الصمت السياسي ليس فضيلة كما يعتقد البعض، وفهم أن هناك مساحة يمكن التحرك فيها على الرغم من كل ما يبدو من تهميش للمعارضة، واستغل ثغرات عدة ليعبر عن نفسه دون أن تلمسه شظايا أو أضرار مادية كما يعتقد آخرون.
وتعتمد التوليفة على مجموعة من المحددات التي تجعله بمفرده ممثلا لنوع جدير بالاحترام من المعارضة، بلا صدامات قوية مع الحكومة تقلل من دوره وتطفئ بريقه، لأن يدها كما يقال في مصر يمكن أن تبطش سياسيا وبلا رحمة إذا وجدت في المعارضة، حزبا أو فردا، يضرب في عظامها أو ركائزها السياسية الرئيسية.
ينحاز داود إلى ما يوصف بـ”المعارضة الوطنية”، وليس المقصود بها أن هناك معارضة خائنة في مصر، فهذا أصلا غير مسموح به بعد تجربة جماعة الإخوان، لكن المقصود المعارضة التي تختلف مع النظام على أرضية وطنية من دون التكسير في كل سياساته وتصغيرها أو تخريب الهياكل والروافع الأساسية التي يعتمد عليها.
دواد من هذا النوع الذي يجرح ولا يدمي، يضرب ولا يميت، يعارض تصرفات وليس أشخاصا، يتحدث بصوت منخفض نسبيا ولا يلجأ إلى الصخب كثيرا، يملك حججا سياسية عند تصديه لقانون أو المطالبة بتعديل بنود في قانون، وهي مزايا لا تقلق منها الحكومة ولا الأغلبية داخل مجلس النواب، لذلك يقوم بما يشبه عمل حزب بكامله، لأنه شخص يجيد الانفتاح على الجميع ما يخفّض عدد خصومه السياسيين.
بين مرحلتين وثالثة

ينتمي إلى جيل تشكل وعيه بين مرحلتين، شهدت مصر خلالهما الكثير من الأمواج السياسية المتلاطمة، ففي عهد مبارك كان مسموحا بالعمل الحزبي وفقا لما يحدده النظام من أجندة لها ضوابط، تقصي هذا الحزب وتقدم ذاك، حتى انهارت هذه الصيغة في أواخر عهده، ولعب هذا الانهيار دورا في الإطاحة به عبر ثورة شعبية عارمة.
في هذه الفترة، أي بعد ثورة يناير 2011، بدا المصريون أمام حالة سياسية نادرة بها من الفوضى أكثر من التنظيم، وطغى الانفلات بصورة عارمة على العمل السياسي، واختلطت الأوراق للدرجة التي تمكنت جماعة الإخوان من الوصول إلى حكم مصر لأول مرة، وهي فترة يطلق عليها أحيانا الصدمة والرعب، أفضت إلى إفاقة من هم على درجة من الوعي السياسي، مثل داود.
انحاز ورفاقه من الناصريين إلى ثورة يونيو، وكانوا في القلب منها، وتصوروا أن التخلص من الإخوان يمكن أن يفتح المجال أمام الناصريين للقفز على السلطة، وتعززت قناعتهم عندما باغتهم الرئيس عبدالفتاح السيسي عقب وصوله للحكم عام 2014 بخطاب أشبه بما كان يتبناه عبدالناصر، لكن بلا ناصريين، ما أفقدهم الثقة في رئيس تصوروا أنهم يمكن احتواؤه والسيطرة على مفاتيح الحكم في عهده.
وسواء كان داود من هؤلاء الذين تمنوا نجاح هذه المقاربة أم لا، فذكاؤه السياسي أسهم في أن يحتفظ لنفسه بهامش من الاستقلال، ولا يساير الغالبية من الناصريين الذين تخيلوا أن السلطة في بداية عهد السيسي اقتربت كثيرا منهم.
يظل داود اسما سياسيا مستقلا حاليا، لأن عوامل التعرية بدأت تزحف بكثافة على التيار الناصري، ومزاج النظام الحاكم لا يميل إليهم أو لغيرهم ويريد تشكيل نخبته على مقاسه وتتناسب مع حساباته شرقا وغربا، وفي الداخل حيث تضج مصر بتيارات متنوعة ولو لم يكن المشهد السياسي غير قادر على ظهورها لتطفو على السطح.
يبدو نموذج داود مريحا للنظام المصري، فهو لن يقدم أو يؤخر في توجهات الحكومة، وتأثيره السياسي يكاد يصبح معدوما، ولا مانع من منحه مساحة ليتحرك من خلالها في الشارع والإعلام والبرلمان، وهي الثلاثية التي تمثل فائدة للطرفين.
قد تفوق أهمية هذه المعادلة دور الوردة في العروة إذا قررت الحكومة توسيع الهامش الديمقراطي أمام الأحزاب في مصر، بناء على تقديرات عديدة ترى أن الأوضاع الراهنة يصعب استمرارها على حالها من التكلس السياسي، ووقتها يكون داود بصفاته الناعمة واللينة جرى تأهيله ليصبح زعيما مؤتمنا على المعارضة في مصر.