ضوابط مصرية جديدة لمحاصرة صحافة التقصّي والتفتيش

مجلس الإعلام يريد تطبيق ما يشبه حظر النشر في القضايا المنظورة أمام المحاكم.
السبت 2022/12/17
البحث عن حوادث مثيرة

بدأ الإعلام المصري في الالتزام بضوابط جديدة تحاصر ما يوصف بـ”صحافة التقصي والتفتيش” في محاولة للحد من الفوضى التي باتت ظاهرة في التعامل مع القضايا المثيرة.

القاهرة - تدخل مجلس الإعلام المصري لمحاصرة ما يوصف بـ”صحافة التقصّي التفتيش” بعد ارتكاب بعض الصحف والمواقع الإخبارية مخالفات مهنية ترتبط بنشر الجرائم والقضايا الشاذة وتغطية جنازات وحوادث لها علاقة بمشاهير ونجوم المجتمع.

وعقد المجلس جلسة حوارية مع رؤساء ومجالس إدارات ومسؤولين بعدد من الصحف انتهت إلى وضع ضوابط جديدة، من بينها عدم نشر أسماء وصور المتهمين أو استباق جهات التحقيق في أي قضية جدلية والاتفاق على جملة من ضوابط النشر في قضايا التحقيقات والحوادث والحد من الأخبار المجهولة.

وبدأت وسائل الإعلام في الأيام التالية للجلسة تبدي التزاما بما جرى التوافق عليه، في محاولة للحد من الفوضى التي باتت ظاهرة في التعامل مع القضايا المثيرة، خاصة أن اللقاء من المرجح أن يصبح دوريا لمتابعة ما يحدث أولا بأول.

مشكلة وسائل الإعلام في أنها لا تتناول الحادثة مرة واحدة، بل تتابع تفاصيلها كأنها جهاز شرطة أو قاض يبحث عن أدلة إدانة

وكان يمكن أن يصبح التقصي والتفتيش إيجابيا لو طبق المعايير المهنية اللازمة، والتزم بقواعد وأسس الصحافة الاستقصائية العميقة، غير أنه مال كثيرا نحو الإثارة.

وقال كرم جبر رئيس المجلس الأعلى للإعلام السبت إن الضوابط الجديدة جاءت بعد سلسلة من القضايا التي وقعت خلال الفترة الماضية وتم تناولها بطريقة خاطئة، مثل لحظة دفن الكاتب الصحافي مفيد فوزي، وواقعة القبض على فنانة شهيرة بمطار القاهرة (منة شلبي) وقضية اختلاس رئيس مجلس أمناء جامعة خاصة (سيد تونسي) أربعة مليارات جنيه (تم الإفراج عنه لاحقا).

وتطرق جبر إلى تناول بعض المواقع لوفاة المشاهير والفنانين وتأثيرها على ذويهم، واستشهد بشائعة وفاة الفنان عادل إمام وإصابته بمرض الزهايمر، لافتا إلى أن هناك ملاحظات على تغطيات الصحف والمواقع للحوادث وحالات الوفاة وضبط المتهمين، بما يؤثر على صورة الإعلام المصري.

ويرمي هذا التحرك إلى حث الصحف والمواقع الإخبارية على الاعتماد على المصادر الرسمية، ومنع استباق سلطات التحقيق وتشويه شخصيات قد تثبت براءتها، وتفعيل الأكواد الخاصة بأخبار الجريمة من دون تزييف الحقائق.

وطالب عدد من رؤساء تحرير الصحف والمواقع الإخبارية ممن شاركوا في جلسة مجلس تنظيم الإعلام بفرض عقوبات على المخالفين، والإعلان عن أسمائهم ليكونوا عبرة لغيرهم، في حين أن بعضهم مسؤول عن مواقع ترتكب أخطاء مهنية، وتم الاتفاق على عقد جلسات شهرية لمناقشة أزمات الإعلام وتصويب المسار.

وتسعى الهيئات المسؤولة عن تنظيم وإدارة الإعلام إلى فرملة سباق الصحف والمواقع نحو التركيز على الجرائم والقضايا المثيرة لجذب انتباه الجمهور للتصفح والمتابعة كمدخل للرواج على شبكة الإنترنت، وتقديم موضوعات مثيرة لتلبية رغبة شريحة بعينها من الجمهور. وهي إشكالية تضرب مصداقية الكثير من المنابر.

ويرى إعلاميون أن دعوة المجلس للاعتماد على المصادر الرسمية والابتعاد عن نشر معلومات على لسان مسؤولين دون ذكر أسمائهم مسألة صعبة، وقد يكون مقبولا حال توافر البيانات، لأن الصحافي الذي يلجأ إلى مصادر مجهولة أو غير معلومة غرضه تعويض شح المعلومات الرسمية، وهي مشكلة لا توليها الهيئات اهتماما كبير.

ويحتاج ما يحدث في أثناء تشييع جثامين الشخصيات السياسية والفنانين والرياضيين والمشاهير عموما إلى مراجعة وضوابط تحفظ للموت حرمته وللمهنة كرامتها، لكن المعضلة في أن الصحافي الذي يُكلف بتغطية مثل هذه الموضوعات يُطالبه مسؤولو الصحيفة بالتفرد ولو في جنازة، ولذلك تكمن المشكلة في بعض القيادات أحيانا.

أثناء تشييع جثامين الشخصيات السياسية والفنانين والرياضيين والمشاهير يحتاج إلى مراجعة وضوابط تحفظ للموت حرمته وللمهنة كرامتها
تشييع جثامين الشخصيات السياسية والفنانين والرياضيين والمشاهير يحتاج إلى مراجعة وضوابط تحفظ للموت حرمته وللمهنة كرامتها

ويرغب مجلس تنظيم الإعلام في تطبيق حالة أقرب إلى حظر النشر في القضايا المنظورة أمام القضاء إلا عبر البيانات الرسمية، ما يتعارض مع شغف الكثير من الصحف في التعامل مع المحاكمات كمادة خصبة لجذب الجمهور في ظل جمود لا يزال يعتري الحياة السياسية، وعدم وجود بدائل أمام الصحف للنفاذ إلى المتابعين.

واعتادت بعض الصحف الورقية والإلكترونية تسليط الضوء على القضايا التي تحظى باهتمام وشغف الشارع المصري لاستقطاب شريحة تستهويها الموضوعات المثيرة، ويلجأ البعض منها إلى القيام بدور المفتش والمحقق قبل القضاء، حيث تلتقي أسر المتهمين وتنشر أدلة إدانة وتستعين بقانونيين لتوقع الأحكام المرتقبة.

ويرى خبراء إعلام أن محاصرة صحافة التفتيش تتطلب قواعد مهنية يتم فرضها على الجميع دون استثناء، لكن المشكلة في شغف بعض القائمين على إدارة الصحف والقنوات بالتركيز على القضايا الخارجة عن المألوف بحثا عن فئة من الناس يستهويها الإعلام الشعبي الذي يقدم لها خلطات ذات جاذبية.

ويعتقد هؤلاء أن التصدي للصحافة التي صارت تقدم نفسها بديلا عن جهات التحقيق لن يحدث طالما أن مسؤولي وسائل الإعلام لا يعترفون بأن ذلك يتعارض مع القواعد الرئيسية للمهنة، ويدركون أن موضوعات الجريمة وأسرار المشاهير والحياة الخاصة تمثل الحل السحري لعودة الجمهور إلى متابعة صحفهم ومواقعهم وبرامجهم.

وأكد محمد شومان عميد كلية الإعلام بالجامعة البريطانية في القاهرة أن الجمهور يبحث عن المنبر صاحب المصداقية والمهنية، وهذا يتناقض مع قناعات بعض المسؤولين عن الصحف فهم يدركون أن تسليط الضوء على الإثارة يوسع الجماهيرية، ولا يقتنعون بأن ذلك يحقق مشاهدات لحظية ويكرس مفهوم الصحافة الصفراء.

مجلس تنظيم الإعلام يرغب في تطبيق حالة أقرب إلى حظر النشر في القضايا المنظورة أمام القضاء إلا عبر البيانات الرسمية

وتتمثل مشكلة بعض وسائل الإعلام المصرية في أنها لا تتناول الحادثة المثيرة مرة واحدة، بل تتابع تفاصيلها كأنها جهاز شرطة أو قاضِ يبحث عن أدلة إدانة، ويبحث الصحافي عن الكواليس الخاصة بالقضية بزعم أن الناس يرغبون في معرفة المزيد، وبتعلّة وجود شريحة شغوفة بالألغاز والإثارة.

وترتبط استفاقة مجلس تنظيم الإعلام ضد صحافة التفتيش والإثارة بأبعاد سياسية واجتماعية بعدما وجد أن مثل هذه النوعية من الملفات تستحوذ على اهتمام الجمهور، في حين أن قرارات ومشروعات الحكومة التنموية الضخمة لا يتم الاهتمام بها لشغف الناس بالقضايا المثيرة أولا.

وقال محمد شومان لـ”العرب” إن الضوابط وحدها لن توقف صحافة الإثارة، فهناك من يبررها على أنها بديل عن تراجع حرية الرأي، لأن الجمهور شغوف بالبحث عن إعلام مهني توعوي، ولا مانع من تغطية أخبار الجرائم كنوع من المعرفة، لكن لا تصبح هذه المواد مسيطرة على السياسة التحريرية.

ويرى خبراء أن الصحافة الشعبية وأخبار الجرائم والمحاكمات موجودة في العديد من الدول، ويتم تناولها بطريقة عميقة تتضمن الواقعة وأبعادها ومخاطر تكرارها، حتى تصل إلى الجمهور في صورة مهنية وتقدم له النصيحة والتوعية من خلالها لا أن يتقمص الصحافي دور القاضي ويصدر الأحكام بالإدانة ولو كان المتهم بريئا.

ومن غير المتوقع أن تحقق الضوابط الجديدة لمجلس تنظيم الإعلام نتائج ملموسة إذا استمر تقييم الصحف والقنوات والمواقع من جانب الهيئات الإعلامية وفق معدلات المشاهدة، فهذا التقييم قد يدفع مسؤولي الصحف إلى التمادي في الإثارة كوسيلة لاستقطاب الناس بعيدا عن الحد الأدنى من القواعد المهنية.

16