"صياد الغروب" بطل يلاحق الشمس ليخلق وجودا جديدا

أم الزين بن شيخة تحاول إصلاح العالم والواقع بعيدا عن التأمل.
الاثنين 2024/01/22
الألم دلالة حميمية على الوجود (لوحة للفنان ثائر معروف)

تكتب الفيلسوفة والكاتبة التونسية أم الزين بن شيخة الرواية بطريقة مغايرة، تكون فيها الفكرة مركزية ومنها تتفرع الأحداث التي لا تلتزم بخطيّة أو سببية بسيطة وواضحة، بل تشكل عالمها الروائي انطلاقا من رؤى فلسفية تقرأ من خلالها الوجود الفردي والجماعي وتقاطعاتهما، وهو ما نقرأه في روايتها "صياد الغروب" التي ندخلها من قراءة لشخص بطلها.

يتعلّق الفنّ، وفنّ الكتابة خاصة، بالطريقة التي نختبر فيها مشاركتنا للآخر بما هو امتداد لشخصيتنا وانغماس في واقعنا. وقد سعت الروائية والفيلسوفة التونسية أم الزين بن شيخة في روايتها الأخيرة “صياد الغروب” أن تحوّل العلاقات الاجتماعية إلى منطلقات حميمية للكتابة والإبداع باللغة، فتتبُّع لحظات الكتابة

معها يخلد قصصيا واقعا يحيي الذكريات الماضية والحاضرة وينسحب من خلالها إلى حياة الآخرين، ليصبح المحتوى الذي نغرسه داخل الرواية وسيلة لابتكار واقع يتجاوز الحلم نحو بناء سرديات وجودية تحفر بعمق لتحرر الذات السجينة داخل الأجساد المبتورة، وتعيد إلى الواجهة هشاشة الإنسان.

 تجاوزت الكاتبة نمطية الكتابة لتسرد سلسلة من الأحداث التي تُقرأ خارج الكلمات، والتي تخرج عن المألوف بأبعادها الجمالية والفلسفية، لتجلب الإحساس بأسلوب جمالي وبلغة حية واقعية وتنصبه في قلوبنا كجزء من اليومي، لأنه في اليومي نكون أقرب إلى الكينونة، ليصبح الانفتاح الوجودي هو مسكن هذه الكينونة، فالطريقة التي يوجد بها الإنسان والتي يتقبل بها وجوده هي التي تحدد علاقته بالوجود ومدى فهمه له.

في أفق الغروب

◙ الرواية إعادة تشكيل لحياة الكاتبة من عدة مقاربات انتمائية ووجودية وحسية
◙ الرواية إعادة تشكيل لحياة الكاتبة من عدة مقاربات انتمائية ووجودية وحسية

هذه الرواية هي إعادة تشكيل لحياة الكاتبة من عدة مقاربات انتمائية ووجودية وحسية، وهي بناء عضوي يتفق وروح الحياة ذاتها. وقد استطاعت بأبعادها العمیقة أن توضح التناقضات الاغترابية التي ترسم منزلة الوجود داخل خفايا الصورة الفوتوغرافية كوسيط رمزي تجرد من ماديته نحو أبعاده التأويلية، لتعبر بين الكلمات وتحقق الاعتراف بإنسانية الآخر. العشق الأخوي لشقيقها كريم يبدأ بتنهيدة هادئة وينتهي بلمسة دافئة لمست الغروب الذي يسكن ذواتنا ويخيم على الروح المتأججة بالرغبة في الانطلاق نحو الأفق، نحو غروب يلتهم السماء ليقربنا من الخلود.

تحيلنا الرواية على قدرة الأنثى على إحداث الصخب عبر الكتابة، هذه الهي التي تحيط بالأقدار من كل جانب، لتحمل في عمقها معنى سكن الوجود، فالأمل الذي عايشه بطل الرواية أيوب محاطا بالأنثى جعله مركزا للعديد من التقاطعات، تقاطع أحداث كتقاطع للأقدار. ولعل الانتماء الى روح الجزيرة وفهم جزئياتها هو جزء من آليات القراءة في هذه الرواية، لتصبح بالنسبة إلي انعكاسا لذاتية الانتساب، فتتقاطع بداخلي الأزمنة والأمكنة والهويات والأحداث.

لم يكن الغروب في الرواية مجرد لحظة زمنية، سواء بالنسبة إلى الكاتبة أو بالنسبة إلى صياد الغروب ذاته، فنحن نصوّر الغروب لندرب أنفسنا على تتبع مسار الشمس والتمتع بجمالية هذا العنصر السماوي، لتعويد الروح على هذه الحركة الأبدية الخالدة، ولبلوغ التسامي والإحساس باللانهاية، من منطلق كانطي يعتبر أن السمو هو تجاوز نحو اللامحدود وأن الإنسان لديه جزء من اللانهاية فيه.

الصياد هنا هو قناص يسرق اللحظات الهاربة، لتتحول معه الرواية إلى جزيرة عبور تجمع حافتيها بين بدايات إطلالة الشروق التي نعايشها ونتجاوز آنيتها، وأفق الغروب المنفتح على كل الاحتمالات، فالكاتبة تستعير بلاغة اللغة لتثبيت فكرة السكن والوجود والعبور، ليصبح مجال الاستعارة هو العالم الذي تصنعه لتعيش فيه، وتتحول اللحظات المعيشية إلى مقابر لغوية تتدفق عبرها قصص الآلام والعصيان، وتحرر الموتى والمنبوذين والمهجورين ليصبحوا أشباحا تسرد أحداثا بروح فلسفية ميتافيزيقية.

◙ بين اللمسة الشعرية والصورة الفوتوغرافية والعمق الفلسفي تأخذنا هذه الرواية في رحلة عبور نحو اللامحدد

إن اقتناص صورة الغروب هو إمساك بلحظة هاربة غائبة وغير مجسدة، لحظة فناء نبحث فيها عن الأجزاء المبتورة فينا، كمن يهرب من جسد لم يعد قابلا للسكن، حيث يقول أيوب في الرواية “لست في حاجة إلى كل هذه الأعضاء”، باعتبار  أن الأعضاء وفق مقاربة جيل دولوز لا تنتج جسدا بل إن الجسد هو الذي ينتجها حين تنتجه، ويتفاعل معها حين تتفاعل معه، ويسيطر عليها حين تسيطر عليه، ويطردها ويتخلى عنها حين تتجاوزه.

غياب الأعضاء عن الجسد أو تجرده وتخلصه منها يؤدي إلى نوع من الغياب الملغز الذي يثير التساؤل والبحث، من منطلق أن الفقدان يصبح في حد ذاته أساسا للمعرفة، معرفة الذات ومعرفة الآخر، وهو ما يطلق عليه “بابستيمولوجيا الفقدان”. فتجربة فقدان أيوب لجزء من جسده هي ما يهدد وجوده النفسي والحسي، ويجعله أكثر هشاشة في مواجهة أعباء هذا الجسد الذي “ينقسم على نفسه ويتشتت وينفصم وينقطع عن ذاته ليعزز الحاضر كحصيلة للفقدان، أي لما ينتزع ويبدد ويتلف”، لنبحث من خلال شخصية أيوب عن العضو المبتور الذي يختبئ في أسطر الرواية وفي الخفايا الشعرية لصورة الغروب.

بين اللمسة الشعرية والصورة الفوتوغرافية والعمق الفلسفي تأخذنا هذه الرواية في رحلة عبور نحو اللامحدد، نحو لحظة الشك الهيومي والتساؤل الوجودي، هل ستشرق الشمس من جديد؟ هي محاولة للبرهنة على عجز العقل عن الخوض في مثل هذه الموضوعات الميتافيزيقية، وذلك من خلال تجاوز دائرة الشك الوجودية المبنية على المجهول والتأكيد على ما يحقق حرية الإنسانية، على مستوى القيمة الحسية والشعورية.  فهذه الرواية قادرة على التلاعب بمشاعرنا بلمسة ألم متقطع بين الاجتماعي والمعرفي والفلسفي والسياسي، هي تجاوز للنواميس الثقافية والأيديولوجية للعبور نحو فكرة السكن في النهايات، في أفق الغروب، لنتجاوز الألم ونبحث عن الأمل من خلال الصورة والكلمة.

البدايات الجديدة

◙ الرواية تحيلنا على قدرة الأنثى على إحداث الصخب عبر الكتابة
◙ الرواية تحيلنا على قدرة الأنثى على إحداث الصخب عبر الكتابة

يتحوّل الألم في الرواية من مجرد حالة شعورية إلى سلاح لتغيير كينونة الفرد ونمط وجوده، وما اقتلاع الجسد من تبعيته سوى جزء من اقتلاع لجسدية الألم النفسي الذي يهدم كينونة الفرد وذاتيته، فأيوب هنا هو ذاته ذاكرة لكل غروب في الجزيرة، مثله كمثل “الذين يبترون أعضاءهم أو يقطعون إصبعا كي يسمعوا صوتهم ضدا على اللامبالاة التي تلحقهم”،  ليصبح الألم هو الملجأ الذي يتوسله كدلالة حميمية يحافظ بها على وجوده ويمنحه طابعا يميز علاقته بالعالم وبالوجود.

الألم إذن نوع من التمثلات الرمزية لرغبة الفرد في تأكيد وعيه بوجوده على هذه الجزيرة، وبطقوس عبوره نحو هذه الحياة، لتكون الرواية في سرديتها لسان تعبير لمن لا لسان لهم، خاصة من خلال حوار الأجنة والموتى والمفقودين الذين عايشوا الألم بسرديات متنوعة، ليتجاوز الألم صورته الميتافيزيقية ويتحرر من بؤس الذات وقلق الكينونة ويصبح مجرد صورة متخيلة في ذهنية القارئ، فكأن أيوب باقتناصه لصورة الغروب يصيح قائلا “أعينوني على إعدام الألم الذي يجعلني أتعذب لكن أتركوه لي كي أتمكن من الوجود”.

شأن أيوب كسائر البشر، أن يعود دائما إلى وضح النور، شأنه أن يعيش دوما من جديد ساعته الذهبية وأن ينتصر بحثا عن أمل جديد ليس لذاتيته الفردية، بل لذاتية تنطلق من الفرد لتحرر المجموعة وتعيد تأسيس كيانها التكاملي. فإصلاح العالم والواقع لا يأتي بالتأمل بل بالفعل وبالنظرة الجدلية إلى الواقع.

وهنا يعطي سيوران، فيلسوف الكتابة المأساوية حكمه حول الوجود الإنساني “الذي لا يعدو أن يكون سوى ترقيع لما لا يمكن ترقيعه أبدا”، من منطلق بدئي يستهجن ولادة الإنسان ذاته كألم فلسفي مركزي، وكمقاربة تستلهم الوجع الإنساني وتكرس لحياة فردية قاحلة مجردة من مشاعرها الإنسانية، تتعامل الكاتبة أم الزين بن شيخة في روايتها مع حالة الجسد المبتور كحالة بينية تتأرجح بين البقاء والرحيل، بين الرغبة والخوف، بين الألم والأمل، عبر عنها سيوران في قوله "أشعر أني حرّ ولكني أعرف أني لست كذلك".

حياة الغروب في هذه الرواية نقلتها  لنا الكاتبة بروح فلسفية وشاعرية لتبحث لبطلها عن خطوات جديدة، عن أمل يصنع به سيقانا جديدة يركض بها بين سطور الكلمات وعلى حافة أفق الغروب، لتتحول به من ديستوبيا النهايات إلى يوتوبيا البدايات الجديدة.

12