صولة أمنية عراقية تهددها فوضى السلاح وسطوة الميليشيات

حملات أمنية واسعة النطاق تحاذر من الاصطدام ببارونات محميين بسلاح الفصائل.
الأربعاء 2024/05/15
حماة البلاد في حاجة إلى الحماية

بسط الاستقرار بشكل كامل ونهائي في العراق، وتهيئة المجال لتحريك عجلة التنمية وتنشيط الاقتصاد، لا يفتقران إلى المقدرات البشرية والوسائل المادّية، بقدر ما يصطدمان بعوامل جانبية متمثلة في فوضى السلاح وسطوة الميليشيات وتدخلها في القرار الأمني، وتوجيهه نحو ما يخدم مصالحها ويلائم أجنداتها.

بغداد - تتدرّج القوات العراقية في توسيع حملتها الأمنية الكبيرة التي بدأتها في منطقة البتاوين وسط العاصمة بغداد، وتحويلها إلى حرب شاملة على الجريمة بمختلف أنواعها، وخصوصا الجريمة المنظمة التي تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى إرهاب مواز يهدّد الاستقرار النسبي الذي تحقّق بفعل النصر على تنظيم داعش، والذي فقد بالفعل معظم قوّته ولم يعد يحتفظ سوى بخلايا نائمة تنفذ عمليات خاطفة ومحدودة لا يمكن مقارنتها بالحرب التي خاضها التنظيم في فترة  سيطرته على مناطق شاسعة من البلاد.

وأصبح استكمال بسط الاستقرار بشكل شامل ونهائي في العراق ضرورة ملحة يفرضها التوجّه الواضح لحكومة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني نحو إعادة إطلاق مسار التنمية في البلاد، وجلب الاستثمارات اللاّزمة لذلك، وهو أمر يمرّ حتما عبر تهيئة بيئة مناسبة لذلك من أبرز مواصفاتها توفّر قدر كبير من الأمن والطمأنينة لأصحاب الأموال ومنجزي المشاريع.

لكنّ العراق الذي يمتلك مقدّرات بشرية ومادية كبيرة في مجال الأمن يواجه الكثير من العوائق لتحقيق الاستقرار المنشود، أبرزها فوضى السلاح ووقوع كميات كبيرة منه خارج سيطرة الدولة وبأيدي ميليشيات مسلّحة ورجال عشائر.

وأعلنت قيادة عمليات بغداد مطلع الأسبوع الجاري البدء بتنفيذ عمليات أمنية جديدة بعد أن استكملت بنجاح عملية البتاوين. وذكر بيان للقيادة أن “القوات الأمنية شرعت بتنفيذ عمليات بحث وتفتيش استباقية تهدف إلى تضييق الخناق على العناصر الإرهابية المنهزمة والمطلوبين للقضاء والخارجين عن القانون في مناطق حزام بغداد”.

◙ قادة بالمؤسسة الأمنية والعسكرية الرسمية العراقية يعملون تحت طائلة الخوف من كيد ميليشيات الحشد الشعبي وبطشها

وأوضح البيان أنّ هذه العمليات تتم بمشاركة “قطعات فرقتي المشاة السادسة والسابعة عشرة وبإسناد الوكالات والأجهزة الاستخبارية”، وتشمل “مناطق حزام بغداد ومحيطها؛ المصلحة والغزيلية وحي القادسية والعهد الجديد والسلطان واللوابدة والشاكرية وشاخة ثلاثة وحي المزرعة والخياميات”.

وكانت عملية البتاوين قد أسفرت وفق ناطق باسم وزارة الداخلية عن اعتقال أكثر من 600 متهم في قضايا مختلفة شملت الدعارة وتصنيع المخدرات وتهريبها وترويجها، وأنواع أخرى خطرة من الجريمة المنظمة من بينها تجارة الأعضاء البشرية.

ويعتبر ما تمّ الكشف عنه في البتاوين التي لا يمكن تصنيفها كمنطقة نائية إذ تقع ضمن نطاق العاصمة بغداد، نموذجا عن استشراء الجريمة في البلد، وخصوصا النوع المنظم منها ما يهددّ البلد بالتحوّل إلى مركز لشبكات الجريمة العابرة للحدود. وساهمت عوامل كثيرة متشابكة في استشراء الجريمة في العراق، من بينها توسّع دائرة الفقر والبطالة. لكنّ فوضى السلاح وكثرة حامليه خارج نطاق القانون مثّلا أهم عاملين لاكتساب الجريمة في البلد كل تلك القوّة.

ولا يقتصر الأمر على وفرة الأسلحة بل يتعدّاها إلى كون الكثير من الفصائل الحاملة له أصبحت فاعلة  أساسية في شبكات الجريمة ومستفيدة منها في توفير المال الضروري للإنفاق على قادتها ومقاتليها وتمويل أنشطتها المتعدّدة. وتقول مصادر عراقية إنّ الكثير من بارونات المخدرات والاتجار بالعملة وتهريب شتى أنواع المواد الممنوعة بما في ذلك تهريب المشتقات النفطية، إمّا ينتمون بشكل مباشر لميليشيات شيعية معروفة أو يعملون تحت حمايتها، ويتحرّكون بحرّية على خطّ طويل يمتد من الحدود الإيرانية وصولا إلى الأراضي السورية وهو خطّ تهريب نشط يصل حتى الأراضي اللبنانية.

ورغم الثناء على الجهد الأمني الكبير في البتاوين وباقي المناطق المستهدفة بالعملية الأمنية واسعة النطاق، إلاّ أنّ خبراء أمنيين يؤكّدون أنّ نتائج تلك العملية لا يمكنها إلاّ أن تكون محدودة وقصيرة المدى، لأنّها لم تطل الرؤوس الكبيرة للجريمة المنظمة ولم تقض على التهريب من منابعه. ولا تقتصر قوّة الميليشيات في العراق على السلاح الذي تمتلكه، لكنّها تتعدّاها إلى السلطة السياسية التي اكتسبتها بعد أن أصبح لها تمثيل في البرلمان ومشاركة في تشكيل الحكومة.

وعلى سبيل المثال فإن ميليشيات الحشد الشعبي ممثلة سياسيا بتحالف الفتح، فيما ميليشيا عصائب أهل الحقّ ممثلة تحت قبّة البرلمان بكتلة “صادقون”، كما أن العصائب ذاتها ممثلة في الإطار التنسيقي المشكّل لحكومة السوداني بزعيمها قيس الخزلي، فيما غريمتها ومنافستها الكبرى ميليشيا بدر ممثلة في الإطار بزعيمها هادي العامري.

وشاركت ميليشيات الحشد بفاعلية في الحرب ضدّ تنظيم داعش وحصدت جائزة كبرى على ذلك تمثّلت في إقحامها ضمن القوات النظامية لتصبح نظريا تحت إمرة رئيس الوزراء الذي يشغل منصب قائد عام للقوات المسلّحة، لكنّها عمليا لم تقطع صلتها بقادتها ومؤسسيها الأصليين. وبات الحشد بمثابة سلطة داخل السلطة وفاعلا كبيرا في القرار الأمني، وذلك على الرغم من أنّ السنوات الأخيرة لم تخل من حوادث أظهرت تناقض مصالحه وتوجّهاته مع توجهات القوات النظامية الحقيقية.

◙ الفصائل الحاملة للسلاح أصبحت فاعلة في شبكات الجريمة ومستفيدة منها في توفير المال للإنفاق على قادتها ومقاتليها وتمويل أنشطتها

وتقول مصادر عراقية إنّ عددا من قادة المؤسسة الأمنية والعسكرية يعملون تحت طائلة الخوف من كيد الحشد وبطشه، وذلك بعد أنّ تعرّض عدد من القادة إلى الإزاحة من المهام وتجميد النشاط والإحالة إلى إمرة الوزارة التي يرجعون إليها بالنظر، على الرغم من ثبوت مهنيتهم وكفاءتهم  في أداء مهامهم. ويحضر في هذا الباب أوضح مثال على ذلك متمثّلا في قيام رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في وقت سابق بإقالة عبدالوهاب الساعدي من رئاسة جهاز مكافحة الإرهاب على الرغم من أدائه الكبير خلال الحرب ضد تنظيم داعش وفي ملاحقة فلوله.

وجاء ذلك نتيجة حالة العداء المعلنة من قبل قادة الميليشيات للساعدي بسبب رفضه تدخّل قادة تلك الفصائل في عمل الجهاز، ما جعل هؤلاء يعملون باستمرار على إزاحته لينجحوا أخيرا في ذلك بفعل مكانتهم في الإطار التنسيقي الذي يشكل مظلّة سياسية لرئيس الوزراء.

ولم تخل السنوات الأخيرة من حوادث اصطدمت فيها الميليشيات بالقوات النظامية العراقية، من بينها ما حدث قبل نحو ثلاث سنوات عندما اقتحم عناصر مسلّحون من ميليشيات الحشد الشعبي المنطقة الخضراء المحصّنة داخل بغداد والتي تضمّ أهمّ المقار الحكومية والسفارات الأجنبية وحاصروا مقرّ إقامة رئيس الوزراء آنذاك مصطفى الكاظمي بعد أن قامت قوة أمنية باعتقال القيادي في الحشد قاسم مصلح للتحقيق معه بتهم تراوحت بين الفساد المالي والتورّط في اغتيال النشطاء المعارضين. ولم تكن تلك الحادثة هي الأولى من نوعها حيث سبق لعناصر من ميليشيا عصائب أهل الحق أن اقتحمت المنطقة الخضراء بعد توقيف قوات الأمن لعنصر من الميليشيا بتهمة قصف مواقع داخل المنطقة بالصواريخ.

وبسبب سوء علاقة رئيس الوزراء السابق بالميليشيات ومحاولته الاستقواء عليها بجهاز المخابرات الذي كان يترأسه، فقد تعرّض عدد من ضباط الجهاز لتهديدات بالاغتيال، فيما اغتيل اثنان منهم بالفعل سنة 2021 وهما العقيد نبراس فورمان والمقدّم ليث حسين. وتضيف الميليشيات عبئا من نوع آخر على جهود بسط الاستقرار في العراق بما تفتحه من جبهات صراع جانبية في ارتباط بأجندة إقليمية تتصل خصوصا بإيران.

وتخوض بعض الفصائل صراعا متقطّعا ضدّ القوات الأميركية المتواجدة على الأرض العراقية بهدف إخراجها من البلاد، بينما تتحالف فصائل أخرى مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا ضد القوات التركية في مناطق شمال العراق، فيما يعارض قادة تلك الفصائل والسياسيون المرتبطون بها بشكل قطعي مشاركة الأجهزة الأمنية العراقية في الجهد الحربي التركي ضد مقاتلي الحزب، على الرغم  من أنّ نزع سلاح هؤلاء المقاتلين ومنعهم من النشاط على الأرض العراقية أصبحا هدفا مشتركا بين أنقرة وبغداد الشريكتين في مشروع طريق التنمية الذي يفترض أن يصل مياه الخليج بالأراضي التركية عبر الأراضي العراقية.

ويقول مطلّعون على الشأن العراقي إنّ عمل القوات الأمنية خلال حملاتها على شبكات الجريمة المنظمة وأوكارها، لا يخلو من حسابات حذرة  لتجنّب الاصطدام بمصالح الميليشيات والمساس ببعض رؤوس الجريمة المحمية من قبلها الأمر الذي سيثير المشاكل للقادة الأمنيين وقد يشكل تهديدا لسلامتهم.

3