صناعة الكتاب في سوريا تحكمها الرقابة والعلاقات الشخصية

مصاعب كثيرة تعرفها صناعة الكتاب في سوريا، خاصة مع الظروف الصعبة التي تشهدها البلاد، لكن مؤسسات النشر لا تزال تحافظ على نفس أسلوب عملها الذي يقوم أساسا على الرقابة والتقييم قبل إتاحة النشر لأي عمل، وهو ما يراه البعض حدا من حرية الإبداع بينما يراه آخرون ضرورة لحماية قيمة الكتب.
محمد خالد الخضر
دمشق- يعتبر اتحاد الكتاب العرب والهيئة السورية للكتاب من الجهات الرائدة في طباعة الكتب الأدبية في سوريا، حيث تتم الموافقة على المحتوى بعناية فائقة لضمان تقديم أعمال ذات قيمة فنية وثقافية عالية مع الاهتمام بالتفاصيل وفق معايير وشروط تسهم في إثراء الثقافة والفكر في المجتمع، وتعزز من الهوية الثقافية للشعوب العربية.
ويؤكد رئيس اتحاد الكتاب العرب الأكاديمي محمد الحوراني أن من مهام الاتحاد نشر مختلف أشكال الأجناس الأدبية، وإبراز المواهب الواعدة، وتقديم قيمة مضافة من خلال ما يقدمه من منشورات وكتب ترتقي بالفكر والثقافة، مع منع كل ما هو مبتذل عبر التشدد في إقرار الكتاب المجاز للطباعة والذي يجب أن يكون نابعا من الحاجة المجتمعية والمعرفية.
آليات وتحديات النشر
عن آلية الطباعة في الاتحاد، يبين الحوراني أن المخطوط المقدم يحال إلى لجنة مؤلفة من أعضاء يمتلكون القدرة على قراءة المضمون بشكل متكامل، بما في ذلك المستوى الفني واللغة والقيمة الأدبية والمعرفية، وتتخذ القرار بالإجازة أو الرفض، مشيرا إلى أنه في حال لم يتم الاقتناع برأي أي عضو من أعضاء اللجنة يحال المخطوط إلى عضو آخر، وذلك بشكل سري، وينطبق هذا الأمر على ما يرد من مخطوطات إلى وزارة الإعلام.
◙ أحيانا العلاقات تحكم مسألة الطباعة في بعض المؤسسات إذ هناك انحياز إلى أمور يفترض أن ينأى المثقف بنفسه عنها
ورغم ذلك يرى الحوراني أن هناك بعض العلاقات تحكم مسألة الطباعة في بعض المؤسسات، وكذلك بعض الانحياز إلى أمور يفترض أن ينأى المثقف والأديب الحقيقي بنفسه عنها، مشددا على أنه من الواجب علينا جميعا (مؤسسات خاصة أو عامة) أن نبتعد عن إجازة الكتاب ونشره فقط لتحقيقه مردودا ماديا، بعيدا عن محتواه الفكري والأدبي والثقافي لأن هذا من شأنه أن يسهم في تفاهة المشهد الثقافي وتراجعه.
ويؤكد أن الكتاب الورقي رغم النشر الإلكتروني وثورة المعلومات ما زال موجودا بقوة وما زال القارئ الحقيقي غالبا أكثر شغفا بالكتاب الورقي، إلا أن الغلاء والضائقة الاقتصادية يمنعانه من شراء ما يحتاجه من كتب بأسعار غدت خيالية.
المدير العام للهيئة العامة السورية للكتاب الأكاديمي نايف الياسين اعتبر أن من المؤكد أن صناعة الكتاب في سوريا تواجه تحديات كثيرة ومتنوعة، بداية بارتفاع أسعار المواد الداخلة في إنتاجه، من ورق وأحبار وبلاكات وغيرها، مرورا بتدني العائد المادي للتأليف والتحقيق والترجمة، وانتهاء بضعف القدرة الشرائية لجمهور القراء المحتملين.
وتحاول الهيئة العامة السورية للكتاب، حسب الياسين، الاستجابة لهذه التحديات من خلال تحقيق أكبر قدر ممكن من الكفاءة في استخدام الموارد، ويتحقق هذا بحصر التركيز على الكتب التي تقدم قيمة معرفية وفكرية وفنية وأدبية كبيرة.
ويوضح الياسين كيف يتم التعامل مع الأعمال المقدمة إلى الهيئة، حيث تم استحداث آلية يرسل من خلالها المؤلف أو المترجم أو المحقق فكرة عن العمل ونبذة موجزة عنه عبر البريد الإلكتروني، وتنظر إدارة الهيئة فيما إذا كان المقترح ينسجم مع سياسة النشر في الهيئة، وإذا كان كذلك يُطلب تقديم العمل بصيغة ورقية وإلكترونية ليصار إلى تحكيمه.
ترسل الأعمال كما يبين الياسين إلى محكمين من ذوي الاختصاص، فإذا كانت الدراسة في مجال الفلسفة يحكمها أكاديميون مختصون في الفلسفة، وإذا كانت في علم الاجتماع، يحكمها مختصون في هذا المجال، وينطبق الأمر على المجالات الأخرى من شعر ورواية ونقد أدبي وغير ذلك، ويعتقد أن هذه هي الآلية المتبعة في أفضل دور النشر العربية وحتى العالمية.
أما بالنسبة إلى الأعمال المترجمة، حسب الياسين، فإنه تشكل سنويا لجنة وطنية برئاسة وزيرة الثقافة وعضوية عدد من الأكاديميين المختصين والمترجمين تكلف بوضع خطة وطنية للترجمة تتضمن الأعمال المُقترح ترجمتها من اللغات المختلفة، وتأخذ الخطة بعين الاعتبار توفر المترجمين المؤهلين في كل من اللغات المقترحة، مبينا أن الأولوية في النشر تعطى للكتب التي تقرها اللجنة، رغم إبقاء المجال مفتوحا أمام المترجمين لاقتراح أعمال من خارج الخطة، حسب إمكانات الهيئة.
الرقابة وأدوارها
يقول عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتاب العرب رئيس تحرير مجلة فيحاء الطفولة منير خلف، “لا أعتقد أن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى رقابة إذا صاحبها ممتلك لأدواتها الفنية التي ينبغي أن يكون على دراية تامة بها، ويعي تماما ما يكتبه وما يفكر به، ولعل المنظومة الثلاثية التي يُعتمد على عدم تجاوزها أو المساس بها يجب أن تكون هناك قيمة رابعة مضافة إليها وهي اللغة وسلامتها والحفاظ على بنيتها سليمة حين التعبير بها، لكونها الجسر الروحي الذي يوصل المبدع إلى القارئ، ومن دون حصانتها والحرص على عافيتها لا يمكن الوصول إلى الهدف المنشود”.
وعن آلية العمل في مجلة فيحاء الطفولة الصادرة في اتحاد الكتاب العرب واختيار موادها، يشير خلف إلى أن العمل يتم من خلال دقة اختيار النصوص الملائمة والمناسبة للفئة العمرية التي يخاطبها الكاتب، ليس لشيء وإنما لمدى أهمية الأطفال ومراعاة المستوى المعرفي لديهم وحساسية الموقف الذي تجد فيه نفسك أمينا على تقديم ما يناسبهم ويلبي طموحاتهم، ويحاكي أفكارهم، ويحقق لهم الزاد المعرفي والمتعة معا.
ويؤكد خلف أن كل النصوص التي ترد إلى المجلة يتم تحويلها إلى لجنة تقرأ المواد دون أن تعلم اللجنة اسم صاحب العمل، ليكون العمل على أبلغ ما يكون من خلال الإخلاص في أداء الرسالة لكوننا في المنبر الذي يوجه بوصلة قلب الطفل إلى ما ينبغي أن يكون مرآته ومراد روحه التواقة إلى اكتشاف الحقيقة.
عضو مجلس اتحاد الكتاب العرب الشاعر والناقد الأكاديمي نزار بريك هنيدي تحدث عن الرقابة على المؤلفات قبل صدورها، مشيرا إلى أنه لا يمكن للمبدع الحقيقي أن يقصر فكره أو فنه على الامتثال لمواصفات معينة موضوعة سلفا، أو الخضوع لخطوط حمراء يجب مراعاتها وعدم تجاوزها، مهما كانت صفة واضع هذه المواصفات، ومهما كانت غاية من قام برسم الخطوط وتحديد المحظورات.
إلا أن الواقع الذي نعيشه وفق هنيدي فرض علينا أن نتعامل مع نوعين للرقابة المسبقة، رقابة فكرية ورقابة فنية.
◙ بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرتها وإتاحتها النشر الميسر المنفلت من الرقابة والتقييم تقلص دور الناشرين الجادين
تحقيق الأهداف المرجوة من الرقابة، يستلزم شرطا رئيسا حسب هنيدي يتجلى في أن يتم اختيار القائمين بهذا العمل من خيرة الأدباء والمفكرين والفنانين القادرين على التحكيم، والمنزهين عن الأهواء الشخصية، والسعي وراء المكاسب، ودون تحقيق هذا الشرط تصبح الرقابة وبالا على المجتمع بدلا من أن تكون صمام أمان له.
تستعرض الأديبة وجدان أبومحمود، رئيسة فرع السويداء لاتحاد الكتاب العرب، واقع الكتب المطبوعة في دور النشر الخاصة، وتعتبر أنه إذا استثنينا معظم المطبوع في اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة لاحتكامه إلى لجان قراءة مختصة ملتزمة بتقديم تقاريرها الفنية، فإن دور النشر التجارية، بنموها الفطري المتسارع، تسهم بقصد أو من دون قصد في تعميم الغث وتشويه الذائقة، مبينة أن “الكتب السيئة” ليست محض ظاهرة طارئة بقدر ما هي إشارة إلى استفحال الخراب، وبقدر ما يكافح المبدع الحقيقي ضد رقابة فكرية قد تقوض مشروعه المسؤول بقدر ما يستغيثُ اليوم نصرة لمجد الكتابة، فقد آن الأوان لوضع حد لهذا التهدم المتوالي ودق ناقوس الخطر.
أما عضو مجلس اتحاد الكتاب العرب الشاعر جهاد الأحمدية فيوضح أن مسؤولية ما يقدم من منشورات أدبية تقع على عاتق من ينشر كتابا بدءا من المؤلف مرورا بالمدققين والمراجعين، وصولا إلى دور النشر والجهات الناشرة بمجملها. فالنشر مسؤولية والتزام بالقيم الأخلاقية والجمالية قبل الالتزام بالقوانين ومراعاة مقاييس الرقابة الرسمية.
ويبين أن في هذه الأيام وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واستفحال سيطرتها وإتاحتها النشر الميسر المنفلت من أي شكل من أشكال الرقابة لكل من هب ودب، تقلص دورُ النشر الجاد المنهجي الملتزم بقضايا المجتمع، وانحسرت فاعليته ليقتصر على النخبة وعلى قليل من المهتمين، أي أنه لم يعد للمنشورات المساهِمة في تطوير الأجيال وتنشئتها بالشكل الصحيح المجال الواسع لتقوم بدورها الفعال.