صناعة الحاشية بين المعيّة والإمّعات

كثيرة هي العبر التي يمكن استقاؤها من السياق الطويل لعمل الحاشيات التي جرى وصفها في عهد محمد علي بكونها “المَعيّة السنية في حضرة أفندينا وليُّ النعم”.
الأحد 2018/12/02
نهضة محمد علي تركزت من اختيار حاشيته

كان د. عبدالوهاب بكر ضابط شرطة مصريا. التحق أثناء عمله، بجامعتيْ القاهرة وعين شمس، وحاز على إجازتي الليسانس في الحقوق والآداب بالتتابع، ثم ذهب إلى الدراسات العليا، ونال الماجستير ثم دكتوراه الفلسفية في التاريخ الحديث. معنى ذلك أن الرجل تحفّز مبكراً لأن يكتب عن أوضاع الحكم والمجتمع وتاريخ بلاده، من منظور وظيفته الأولى كضابط شرطة وصدرت عناوينه الأولى لتدل على هذا المنحى: أضواء على النشاط الشيوعي في مصر 1921-1950، البوليس المصري 1922-1952، الشوارع الخلفية.. الجريمة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين!

غير أن الرجل، كمحقق، اهتم بتتبع خيوط الأذى والإضرار بالمجتمع، وتوصل إلى قناعة بضرورة الدخول إلى دائرة الحكم الأولى أو إلى القصر، لكي ينظر في أمر الحاشية، ويدرس كيف وممن تشكّلت؟ وما هي خلفيات أعضائها الثقافية والاجتماعية، لكي يعرف مدى تأثير الحاشية، سلباً أو إيجاباً على أداء الحكم، وعلى صاحب القرار، وأن ويتفحّص أنماط ووظائف رجال الحاشية أو “المعيّة” كما كانت تسمى في العهد الملكي المصري!

ولأن هكذا موضوع سيكون شائكاً وحساساً وتحت طائلة المساءلة، إن تناول الباحث بلاطاً ملكياً أو قصراً أميرياً أو رئاسياً راهنا، لكي يُمحّص أوضاع الحاشيات فيه؛ اختار عبدالوهاب بكر، تمحيص شؤون بلاط ملكيٍ سابق، ودور الحاشيات في الحياة السياسية، من عهد الخديوي إسماعيل إلى عهد فاروق آخر ملوك أسرة محمد علي!

كثيرة هي العبر التي يمكن استقاؤها من السياق الطويل لعمل الحاشيات التي جرى وصفها في عهد محمد علي بكونها “المَعيّة السنية في حضرة أفندينا وليُّ النعم”. من بين هذه العبر، أن أعضاء الحاشية، وهم خليط من الجراكسة والأتراك والفرنسيين والإنكليز المصريين؛ كانوا من حيث التأهيل، أعلى مستوى بكثير من حاشيات اليوم التي نقلها حاكمون فاسدون وأغبياء، من دائرة “المعيّة” ذات السناء والضياء، إلى دائرة الإمّعات المنافقات. الأولون أصدر محمد علي مرسوماً في العام يأمرهم فيه بأن يكونوا “قرناء موجودين في معيّته، لهم الحرية المطلقة والرخصة النافية للجهالة، بمصارحته في ما يقع فيه من اجتناب الصواب”!.

انطلقت نهضة محمد علي، عندما، أمر مستشاريه وحاشيته المؤهلين في كل التخصصات، بأن يقولوا له هذا خطأ وهذا عيب وهذا غير لائق. أما الذين جاؤوا بعده من ذرّيته، ثم من الحكام اللاحقين في الإقليم؛ فقد اعتمدوا بعض الهيكل الإداري للبلاد الأوروبي، لكنهم لم يُحسنوا صناعة الحاشية، عندما جعلوا “المعيّة” إمّعات!

24