صناديق الإقتراع تفرض ديمقراطية الجماهير في تونس

نتائج قيس سعيّد ونبيل القروي تفضح جهل المنظومة السياسية التقليدية بحقيقة الشارع.
الثلاثاء 2019/09/17
انقلاب في عمق المنظومة

يحمل يوم 15 سبتمبر في تونس دائما طابعا خاصا باعتباره يوم العودة إلى المدارس. وفتحت المدارس هذه السنة أبوابها لكن ليس لاستقبال التلاميذ بل لاستقبال الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. وكما اليوم الأول في المدرسة يعد تاريخيا بالنسبة لكثيرين فإن هذا اليوم تاريخي بالنسبة لكل التونسيين، لأنه انتهى بإعلان انقلاب شعبي انتخابي على المنظومة.

تونس -  نجحت تونس في تنظيم الانتخابات الرئاسية في أجواء عكست صورة الدولة الديمقراطية لكنها أثارت في نفس الوقت جدلا وحملت مفاجآت وصفتها بعض وسائل الإعلام بـ”الزلزال الانتخابي”.

اختار التونسيون من بين ستة وعشرين مرشحا، أغلبهم من الوجوه التي مارست السياسة أو محسوبة على المنظومة القديمة، مرشحين أحدهما من خارج السيستام بشكل كليّ وهو قيس سعيّد أستاذ القانون الدستوري، والثاني نبيل القروي، قطب الإعلام، الذي كان من مؤيدي حزب نداء تونس، وهو محسوب على المنظومة القديمة، لكن نجح بأسلوبه الشعبوي في أن يحظى بدعم طبقة هامة من التونسيين، خاصة وأنه خاض الانتخابات وهو قيد الإيقاف في السجن.

ولم تكن النتيجة التي حققها نبيل القروي مفاجئة بالقدر الذي كانت عليه نتيجة قيس سعيّد. وكلاهما قدّم صورة جديدة عن الواقع التونسي لم تكن واضحة للمنظومة القديمة التي أنهكها الانقسام وساهم تشتتها في خسارتها.

ووفق رئيس الهيئة نبيل بفون، تعتبر النتائج الأولية التي أعلنت عنها مؤسسات سبر الآراء متقاربة مع النتائج الأولية التي توصلت إليها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مؤكدا أن الأمر الثابت في هذه الانتخابات هو عدم الحسم في السباق نحو قصر قرطاج منذ الدور الأول وعدم حصول أي مرشح على نسبة 50 زائدا 1 تخوله للفوز بهذه المنافسة منذ الدور الأول.

التونسي المتغير

أحمد نجيب الشابي: النخبة السياسية  وقع رفضها من طرف الناخبين
أحمد نجيب الشابي: النخبة السياسية  وقع رفضها من طرف الناخبين

في حوار مع “العرب” يعود تاريخه إلى سنة 2014، قال قيس سعيّد “هذا التونسي الذي لم يعد ينتمي إلى القرن الماضي أضحى واعيا أكثر من أي وقت مضى بألاعيب السياسة وخفاياها، حتى أنّ الأميين أضحوا يتابعون الشأن العام ويجتهدون لاستنباط تحليلاتهم الشخصية، فلم يعد التلاعب بمشاعرهم يسيرا كما كان الأمر في السابق، وهذا ما أسهم بشكل أو بآخر في تراجع الأحزاب وجعلها خارج السياق”.

يعكس هذا الحديث، الذي جرى بمناسبة الانتخابات التشريعية (2014)، واقع تونس اليوم، ويحمل في جانب منه إجابة على سؤال لماذا تصدّر قيس سعيّد نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية في تونس، بتصويت يعود الفضل فيه للنسبة الضعيفة من الشباب الذي أدلى بصوته.

اليوم، وبعد حوالي خمس سنوات من ذلك التصريح، دخل قيس سعيّد الذي لا يملك سجلا سياسيا أو انتماء حزبيا وحتى وقت قريب لم يكن شخصية معروفة للطبقة السياسية، السباق، بل ونجح في أن يمر إلى الجولة الثانية.

وحتى وقت قريب لم يكن سعيّد واردا في حسابات الائتلاف الحاكم كمنافس جدي أمام منافسين من العيار الثقيل مثل مرشح حزب حركة النهضة الإسلامية عبدالفتاح مورو ورئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي.

فهل كان فوز سعيّد مفاجئا حقا؟ ربما كان كذلك بالنسبة للطبقة السياسية التقليدية والنخبة الاجتماعية والثقافية، التي تعيش في برجها المعزول عما يجري في عمق الشارع، وتراهن على ما غرس في ثقافة التونسيين من أفكار عن الدولة البورقيبية والحداثية، ولم تع المتغيرات الطارئة على المجتمع التونسي.

وربما كانت هذه النتيجة مفاجئة أيضا للإعلام الذي انعكست وظيفته وعوض أن يقرّب صوت الشارع للمرشح حاول أن يفرض المنظومة الداعمة له على الشارع الذي أعلن التمرّد وقال كلمته عبر الصندوق.

بالمقاييس التقليدية، لم يكن سعيّد، الذي ظهر أساسا في المنابر الإعلامية كرجل قانون متخصص بعد ثورة 2011 لشرح معضلات دستورية، وذاع صيته بإتقانه المبهر للتواصل باللغة العربية وبصوته الجهوري، ليحقق هذه النتيجة، لكن خدمته الظروف والمرحلة. فحملته التي غلب عليها التقشف والحد الأدنى والعمل التطوعي، بسبب غياب لوبي داعم، كانت السبب الرئيسي لدعم الناس له. لم تعد الزينة والأعلام والأموال الموزعة مصدر قوة، بل أصبحت دلالة على الفساد أو الدعم الخارجي أو القوة المقلقة في ما بعد الانتخابات.

ظهر المرشح الرئاسي في أغلب زياراته محاطا بأنصاره في المقاهي وأغلبهم من الشباب والطلبة، وكان أعلن قبل ذلك رفضه لأي تمويل حزبي أو عمومي.

بين سعيّد والنهضة

ديمقراطية الجماهير
ديمقراطية الجماهير

يذكّر فوز قيس سعيّد اليوم بفوز الإسلاميين في انتخابات 2011، فالتونسيون كانوا ينظرون لحركة النهضة وممثليها بعين “الشفقة” لما عانوه من تضييق في زمن زين العابدين بن علي، ولأنهم كانوا من خارج منظومة التجمّع (الحزب الحاكم).

لكن، بعدما حكمت النهضة وتمكّنت من دواليب الحكم وظهرت حقيقتها تغيرت النظرة وأصبحت هي اليوم جزءا من ذلك السيستام الذي قرر الشارع معاقبته. بدأ العقاب الأول مع الانتخابات البلدية، التي كانت فيها الغلبة للمستقلين، وجاءت الرئاسية لتضع الكلمة الفصل وتقلب موازين المشهد السياسي عشية الانتخابات التشريعية.

ولخص سعيّد المشهد المتغير بقوله إثر الإعلان عن النتائج الأولية “يتعلق الأمر بمرحلة جديدة في تاريخ تونس كأنها ثورة لكنها ثورة مع احترام الشرعية القائمة”.

وكتب الأستاذ الجامعي المتخصص في الإعلام والاتصال محمد شلبي “السياسي الذي يستغرب فوز قيس سعيّد رغم أن لا حزب وراءه هو سياسي لم يدرك أن الديمقراطية التداولية القائمة على الأحزاب ضعفت إلى حد التلاشي، وأن الديمقراطية الحالية في العالم هي ديمقراطية رأي بل هناك من يسميها ديمقراطية الجماهير”.

أمنة السالمي: منح الشباب الفرصة للأحزاب للتغيير لكنه لم يتغير شيء
أمنة السالمي: منح الشباب الفرصة للأحزاب للتغيير لكنه لم يتغير شيء

وتابع شلبي “هذا ما جرى في تونس، معظم الناس قاطعوا الأحزاب والإعلام بل أصبح عدد من الناس في الغرب يعتبرون الأحزاب عصابات قطاع طرق”. وهذا ما تؤكده سلمى، وهي شابة تونسية، من مؤيدي قيس سعيّد، قائلة لـ”العرب” “أعتقد أن سعيّد بوسعه أن يقدم لنا كتونسيين وللفئة الشابة خاصة ما فشلت فيه الأحزاب” وأضافت “هو رجل مثقف ونزيه ويستحق أن نمنحه الفرصة”.

لكن، خلافا لسلمى التي تعتقد أن سعيّد الذي نجح في الإطاحة بالأقطاب التقليدية المهيمنة على السلطة التنفيذية في قرطاج، قادر على نقل البلاد إلى بر الاستقرار السياسي والاقتصادي، تشكك في ذلك إيمان عمري الرويسي الناشطة بالمجتمع المدني.

وتقول إيمان لـ”العرب” “هذا التصويت عقابي نتيجة انزلاق الأحزاب في المعارك السياسة وإهمال مشاغل الشارع”. ولم تخف قلقها من فوز قيس سعيّد أو نبيل القروي بالرئاسة. وترى أن “المستقبل سيكون غامضا مع شخصيات مواقفها مازالت مجهولة حيال حقوق النساء على سبيل المثال”.

ويرى متابعون أن نتائج السباق الرئاسي انعكاس لتشتت الأحزاب التي غرقت في الخلافات خاصة المنتمين للعائلة التقدمية الحداثية. وسبق أن حذر نشطاء المجتمع المدني من أن عدم الالتفاف على مرشح توافقي من أبناء هذه العائلة من شأنه أن يدعم حظوظ التيار الشعبوي، أو الحزب الإسلامي الذي تمثله حركة النهضة.

ويقول السياسي التونسي البارز أحمد نجيب الشابي لـ”العرب” “النخبة السياسية على بكرة أبيها وقع رفضها من طرف الناخبين”.  وحسب الشابي، تنبئ النتائج بنهاية السياسة للأحزاب الحاكمة بما في ذلك حركة النهضة التي احتل مرشحها النسبة الثالثة من الأصوات، ما يعكس مؤشرا على تراجع قاعدتها الانتخابية. ويرى أن الأحزاب خيبت آمال الشارع لذلك كانت ردة الفعل ضد المنظومة القائمة.

لكنه يحذر من أن المشهد السياسي مفتوح على كل الاحتمالات ومازال الغموض يكتنفه أمام تساؤلات يطرحها حول شكل المرحلة السياسية القادمة إن كانت ستبرز أغلبية حاكمة وفي ما يخص صلاحيات الرئيس ومسألة النظام السياسي، هذه الأسئلة يرى الشابي أنها تشكل عوامل حيرة للتونسيين اليوم.

الطبقة الوسطى

إيمان عمري الرويسي: المستقبل غامض مع شخصيات مواقفها مازالت مجهولة
إيمان عمري الرويسي: المستقبل غامض مع شخصيات مواقفها مازالت مجهولة

يرى متابعون أن صعود سعيّد نتيجة متوقعة نتيجة فشل الحكومات في إدارة الأزمة الاقتصادية أو استيعاب المطالب الاجتماعية. من هنا، يقدم الخبراء تفسيرا آخر لفوز قيس سعيّد، مشيرين إلى الطبقة الوسطى، وتحديدا الجزء الذي يخشى من التآكل، بسبب الوضع الاقتصادي وغلاء المعيشة.

رأت هذه الطبقة في سعيّد ممثلا لها وهو الذي ظهر خلال حملاته وهو يقود سيارته القديمة وكان دائما يردد أنه يفضل البقاء في منزله إذا تم انتخابه بدلا من الانتقال إلى القصر الرئاسي الفاخر.

ولا تعتبر آمنة السالمي، وهي صحافية تونسية، أن تقدم قيس سعيّد في نتائج الدور الأول مفاجئا ذلك أن الرجل كان في مقدمة عمليات سبر الآراء واستطلاعات الرأي سواء المتعلقة بأبرز الشخصيات التي تحظى بثقة التونسيين أو المتعلقة بنوايا التصويت في الرئاسية.

وتشير السالمي في حديثها لـ”العرب” إلى أن غالبية الذين صوتوا لسعيّد من الشباب المتعلمين الذين سئموا وعود الأحزاب والنخب السياسية التي منحوها فرصا عديدة للتغيير في انتخابات سابقة لكنها لم تغير من الواقع شيئا.

وتعزو السالمي حالة العزوف إلى فقدان الشارع ثقته في الطبقة السياسية وإلى المناخ السياسي المتشنج. وتضيف “سئم التونسيون هذا الوضع والدليل على ذلك أن نسبة المشاركة في التصويت لم تكن مرتفعة”.

وعلى الرغم من النتائج المخالفة للتوقعات والتي أحدثت رجة قوية بالمشهد السياسي التونسي، يؤكد مراقبون دوليون شفافية العملية الانتخابية والديمقراطية التي عاشتها تونس الأحد. وأكد خالد الكاديكي، وهو مراقب دولي من شبكة العالم العربي لمراقبة الانتخابات وقام بمتابعة سير العملية الانتخابية، لـ”العرب” شفافية  العملية الانتخابية.

7