صمت محير يخيّم على الإعلام الجزائري رغم حافة التشريد

سياسة الترغيب والترهيب تجرد الصحافيين من شرف المهنة.
الجمعة 2022/07/22
الصحافة الجزائرية تعاني أزمة اقتصادية حادة

تزداد أزمة الإعلام والصحافة في الجزائر حدة، حيث دخلت بعض وسائل الإعلام في وضع اقتصادي حرج ينذر بزوالها، لكنه يحذر أيضا من استغلال هذه الأوضاع الحرجة من قبل النظام الذي يسعى منذ أشهر لبسط سيطرته ونفوذه على الإعلام بتكبيل حرية الصحافة وتوجيهها لخدمة أجنداته مع تضييق الخناق على المعارضة وهو وضع عام ينسحب على أغلب القطاعات في الجزائر وليس فقط الصحافة والإعلام.

الجزائر - تداخلت العوامل الاقتصادية والسياسية في أزمة الصحافة الجزائرية، لدرجة بات يصعب التمييز بين تداعيات الأزمة الاقتصادية على القطاع، وبين الضغوط السياسية التي تمارسها السلطة من أجل تكميم المؤسسات والأقلام الناقدة لها، وإذا كانت غالبية المؤسسات تعاني في صمت، فإن الاختفاء التدريجي لعناوين عريقة طرح الأزمة بشكل حاد، لكن صمت الصحافيين الجزائريين عن أوضاعهم البائسة زاد من استشراء الأزمة وغياب الحلول.

عاد صحافيو وعمال صحيفة الوطن الفرنكفونية الجزائرية إلى مواقع عملهم، بعد يومين من احتجاب الصحيفة بسبب إضرابهم، لكن دون تحقيق أي حل ولو في الأفق القريب، الأمر الذي يؤشر إلى تعقد الأزمة أكثر في المدى القريب، بسبب افتقاد الإدارة للحلول اللازمة، مقابل عزم هؤلاء على تنفيذ إضراب بيومين كل أسبوع.

ورغم أن الفرع النقابي التابع للاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي يعد أعرق وأكبر النقابات العمالية في البلاد، هو الذي يتبنى الإضراب، إلا أنه لم يحقق الصدى اللازم وسط منتسبي القطاع وظل معزولا، في ظل غياب روح التضامن، حيث تغيب النقابات والجمعيات الحقيقية المدافعة عن مصالح الصحافيين والناشرين.

واكتفى أعضاء مجلس الإدارة في الشركة الناشرة لصحيفة الوطن بتوجيه نداء إلى السلطات العمومية من أجل إنقاذ الصحيفة، في إشارة إلى التدخل لدى السلطات المصرفية والجبائية التي شددت الخناق على حسابات المؤسسة، وهو ما يوحي بأن مصير المؤسسة مرتبط بقرار السلطة، مقابل ما يمكن تقديمه من تنازلات في خطها الافتتاحي الناقد لها.

على عكس القطاعات الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية الأخرى فإن عمال الإعلام الجزائري هم الوحيدون الذين لم يعبروا عن أوضاعهم رغم الإجماع على أنها مزرية

لكن الوضعية المستجدة في صحيفة الوطن، وقبلها في صحيفة “ليبرتي”، بقدر ما قدمت في ثوب اقتصادي يترجم وضع الصحافة في العالم عموما، بقدر ما ألمحت إلى الاعتبارات السياسية والخط التحريري وموقف السلطة من حريتي التعبير والرأي، حيث يجري ترويض الساحة الإعلامية بكل تنوعاتها لخدمة الخط السياسي للسلطة.

ورغم المنعطف الحاسم الذي يمر به القطاع، فإن الصمت لا يزال يخيم على العاملين فيه، حيث لم يصدر لحد الآن أي موقف أو تحرك لإنقاذ الوضع، وهو ما يمثل أزمة أخرى تنم عن تفكك الجبهة الإعلامية وطغيان المصالح الضيقة على مصير وشرف المهنة المهدد أكثر من أي وقت مضى.

وبات صحافيون مخضرمون يحنون إلى حقبة الانفتاح وإلى تسعينات القرن الماضي، لما كان الصحافيون تربطهم قواسم مشتركة حول مسألة الحريات والإمكانيات المهنية والاجتماعية، ولم تكن الفوارق السياسية والأيديولوجية تؤثر على روحهم التضامنية، سواء أمام ضغوط السلطة أو الناشرين والملاك.

ويذكر هؤلاء كيف كانت الصحف تتحدى السلطة بمواقفها ومضامينها، رغم حساسية الوضع السياسي والأمني للبلاد آنذاك، واستطاعت بذلك أن تحفظ لنفسها ولو نسبيا مكانتها داخل المجتمع كسلطة رابعة، لكن منذ قدوم الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة إلى السلطة في 1999، شكل بداية التحول الذي تجني الأسرة الإعلامية نتائجه الآن بمرارة.

وإذا كانت السلطة تتغنى حاليا بنحو 200 صحيفة ورقية والعشرات من القنوات التلفزية والمواقع الإلكترونية، فإن غالبيتها يعيش على وقع أزمة لا أحد يريد الجهر بها أو إحراج السلطة، حيث يسارع الكل إلى ما تدر به الوكالة الحكومية للإعلانات من أجل الاستمرار على قيد الحياة، لكن كل ذلك الكم بما يضمه من حوالي ثمانية آلاف صحافي بحسب أرقام السلطة، لم يجرؤ لحد الآن على رفع صوته في وجه الوصاية للاحتجاج على الأوضاع المهنية والاجتماعية التي يعيشونها منذ سنوات.

الوضعية المستجدة في صحيفة الوطن ألمحت إلى الاعتبارات السياسية والخط التحريري وموقف السلطة من حريتي التعبير والرأي
الوضعية المستجدة في صحيفة الوطن ألمحت إلى الاعتبارات السياسية والخط التحريري وموقف السلطة من حريتي التعبير والرأي

وعلى عكس القطاعات الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية الأخرى التي لم تتأخر في الاحتجاج على خيارات السلطة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، بما في ذلك المنتسبون السابقون للمؤسسة العسكرية، فإن عمال الإعلام الجزائري هم الوحيدون الذين لم يعبروا عن أوضاعهم رغم الإجماع على أنها مزرية، فهي رهينة بين تعسف الملاك وغطرسة السلطة.

ومنذ مطلع الألفية انتهجت الوصاية أسلوب إغراق المشهد بالعشرات من العناوين الصحافية، وخلق حالة من الولاء الجماعي، بواسطة سياسة الترهيب والترغيب، الأمر الذي حول القطاع إلى فضاء ينشط فيه فاعلون من خارج الأسرة الإعلامية، وإلى وسيلة للثراء من عائدات الإعلانات الحكومية، الأمر الذي خلق حالة من التنافر الداخلي ومن الشكوك والأنانية وحتى الاختراق، وهو ما كانت تسعى له السلطة لشق الصفوف وإبعادها عن أي شكل من أشكال التضامن الجماعي في وجهها.

ولعل ما يكرس ذلك هو المواجهة الفردية للصحافيين والمؤسسات للأزمات التي تتخبط فيها، فرغم انتماء الوطن وليبرتي لنفس المدرسة الإعلامية التي ينتمي إليها “راديو أم” وموقعه الإلكتروني، إلا أنه لم يسجل أي موقف مشترك بينها رغم أنها تتعرض لنفس الضغوط، والاختفاء من المشهد هو المصير الذي ينتظرها جميعا.

ويبقى الوضع الإعلامي في الجزائر عاكسا للأوضاع السياسية ولواقع الحريات والحقوق، فرغم المراتب العشر التي حققتها في سلم منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها الأخير، إلا أن غياب رؤية استراتيجية للقطاع، واستثنائه من التنظيم والمنافسة النزيهة والمناخ المناسب، جعله واحدا من بؤر الفساد الذي ينخر كاهل الدولة.

ويجزم متابعون بأن سقف الحريات المتقلص والرقيب الذاتي الذي كرسته ممارسات السلطة في إعانتها للمؤسسات الإعلامية، ومن بعدها الناشرون الذين لا يريدون إزعاجها لضمان قوتهم، ساهم في بناء وضعية غير طبيعية في المجتمع، فالنخبة التي تقدم الخدمة العمومية وتطرح انشغالات الشارع جبنت لدرجة لم تعد قادرة حتى على الدفاع عن نفسها.

16