صفر يوسف الناصر

مثلما فاجأ بارت الأدباء بصفره، فإن الناصر يفاجئ الرسامين العرب بصفره، فالرسامون يحبون لوحاتهم.
السبت 2024/06/29
فنان يرسم ببراءة ونقاء وعنف وشغف

"الرسم من مسافة صفر" هو عنوان المعرض الجديد الذي أقامه مؤخرا الرسام العراقي يوسف الناصر (1952) في باريس وهو عنوان يُذكّر بعنوان الكاتب الفرنسي رولان بارت "الكتابة في درجة الصفر".

ومثلما فاجأ بارت الأدباء بصفره، فإن الناصر يفاجئ الرسامين العرب بصفره، فالرسامون يحبون لوحاتهم. وذلك أمر طبيعي، مثلما يحب الشعراء قصائدهم. ولكن كل رسام لديه في أعماق نفسه لائحة طويلة من الرسامين الذين يتمنى أن يصل إلى مستواهم. حتى المغرورون من الرسامين يدركون أن هناك مَن هو أفضل منهم غير أنهم لا يصرحون بذلك.

طموح كل رسام في أن يكون الأفضل هو ما يشجعه على القيام بذلك وهو يعرف جيدا أنه في سباق مع الزمن. ذلك ما يهبه مزيدا من الحيوية والخيال وينعش موهبته بالمزيد من الأفكار ويلهمه كشوفات جديدة.

في ثقافتنا العربية المعاصرة وهي تعيش مختلف حالات الانهيار غالبا ما يسعى الرسامون إلى إخفاء شعورهم بالإحباط نتيجة لما يحدث من حولهم وبالأخص في ما يتعلق بالسوق الفنية.

قليلون هم الرسامون الذي يتكيفون مع عزلاتهم ولا يتوقفون عن النظر إلى أعمالهم بعيون نقدية تتخطى حاجز الأنا العالي لتنفتح على العالم.

يوسف الناصر (1952) الرسام العراقي المقيم في لندن منذ أربعة عقود هو واحد من أهم أولئك الرسامين الذين لا يلتفتون إلى إغراءات السوق ولا يقيسون علاقتهم بالرسم بميزانه.

تعلم من الرسم بما يجعل منه حياة موازية. وبالرغم من أنه عاش في مدن عديدة شكلت خريطة منفاه غير أنه لم يتخل عن حياته الحقيقية في الرسم. لم تسلبه مدن العيش حقيقة حياته التي كان كلما انتقل من مدينة إلى أخرى يبدأها من الصفر.

وكان الرسم يتغذى من تجربة عذابه. وإذا ما كانت الحياة قد صدمته بمساراتها النفعية فإن الرسم حافظ  على روحه من الصدمات. حفظها في خزانة درجة حرارتها صفر.

يرسم يوسف ببراءة ونقاء وعنف وشغف وعناد وهدوء وأريحية وسخرية الفنان الحقيقي الذي يدرك أن السوق الفنية ستتبعه يوما ما من غير أن يجهد نفسه في البحث عنها.

درس يوسف الناصر يكمن في أنه يبدأ الرسم دائما كما لو أنه يتعلمه ليكتشف أسراره من جديد. الصفر الحراري هو ذاته الصفر الإبداعي.

يسعد هذا الرسام حين يرى أن يده لا تزال تنعم بخيال لا يكتفي بمهاراته السابقة. فما من وصفة جاهزة للرسم وليس النسيان إلا نوعا من الخبرة. لا يرسم الناصر من أجل أن يرضينا بل من أجل أن يدهشنا وهو الذي يدهشه خيال الطبيعة في كل لحظة رسم.

18