صخرة صماء تتحول إلى حكاية إنسانية مفتوحة

يسرد الكاتب الجزائري صادق بن طاهر فاروق في باكورته الرّوائية “الصخرة الأسيرة” واحدة من الحكايات التي تحوّلت إلى ما يشبه الأسطورة، عن صخرة سقطت على رأس ضابط فرنسي عام 1852 وقتلته، فقامت الإدارة الاستعمارية -رغبة منها في تخويف الأهالي وترهيب الثوريين- بأسر الصّخرة ذاتها بأغلال، وإطلاق الرّصاص عليها، وظلت تكرّر الفعل نفسه بشكل عبثي كل عام، في ذكرى وفاة الضابط نفسه، لينتهي الأمر بعد أكثر من قرن باستقلال الجزائر (1962)، وخروج الفرنسيين منها، لتبقى الصخرة ثابتة في مكانها، وحيدة كما كانت دائما، شاهدة على أسطورة لم ترو كاملة، وضحية في آن لحكايات شفوية، يتقاطع فيها الواقعي مع المتخيل.
ويحاول الرّوائي صادق بن طاهر فاروق تحرير الصخرة أولا من “الأسر”، من ماضيها المثقل بالرصاص، ثمّ من الحكايات الملفقة والأحجيات التي صاغها الأهالي عنها، ليقصّ على القارئ السّيرة الأصلية لصخرة تختصر جزءا مهمّا من تاريخ مدينة الجلفة (300 كلم جنوب الجزائر العاصمة) التي وجدت فيها. تتعدّد الأصوات في رواية “الصّخرة الأسيرة”، الصادرة عن دار ميم للنشر، والحاصلة على جائزة ابن شنب في الرّواية هذا العام، وتنتقل بين أجيال ثلاثة، كما لو أن الرّوائي يصرّ على أن حكايتها ليست ملكا لشخص واحد أو جيل واحد، بل هي ميراث لأجيال، هي قضية جماعية، نقطة الوصل الأكيدة بين الأحفاد والأجداد، كلّ واحد من الأجيال يضيف لقصتها فصلا، تارة حقيقيا وتارة أخرى متخيّلا، لتلتئم الحكاية الكاملة.
الروائي يجعل من الصخرة بطلا استثنائيا، ويخلق شخصيات من حولها، ويستعيد جزءا مهما من تاريخ الثورات الشعبية الجزائرية
كتابة على هامش التاريخ
يقول الروائي “الصّخرة الأسيرة تشكل عامل توحيد بين أجيال اليوم والأمس، التي ضحّت من أجل استرجاع الحرية، هي الصّوت العميق المغروس في كل جزائري حرّ ثار ضد الاحتلال الفرنسي، هي إرث علينا صيانته والمحافظة عليه كي يكون شاهدا عمّا حصل”. لكن هذا الإرث كاد يضيع، في العقود الماضية، بسبب تعدّد الرّوايات الشّفوية حوله وتضاربها، كما أن الكتابات التي توثّق أسطورة الصّخرة غير متوفرة، لهذا فقد وجد الرّوائي نفسه، في لحظة كتابة الرّواية، أمام “صخرة” ثانية؛ تتمثل في غياب المراجع التّاريخية، فينطلق أولا في جمع الرّوايات الشفوية، والمقارنة بينها، وتمحيصها بمقابلتها بوقائع تاريخية، ليخلص في النّهاية إلى سيرة الصّخرة الأسيرة، التي لا تزال ثابتة في مكانها إلى حدّ السّاعة، رغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على بداية حكايتها.
تنطلق الرّواية من خمسينات القرن الماضي، مع شخصية جون، الذي يعمل في “مغارة لاسكو”، جنوب غرب فرنسا، التي تحتوي على عدد مهمّ من الرّسومات ومن النّقوش، التي جذبت اهتمام الدّارسين، وشكّلت حلقة مهمّة في التعمّق في تاريخ الفنّ، وفي التوسّع في علم الآثار، هذه المغارة التي اكتشفت بالصّدفة سنة 1940، ستكون فضاء لصدفة أخرى، لا تقلّ أهمية، في حياة الرّاوي جون، حيث سيكتشف مذكرات جدّه التي كانت في “الصّندوق الذي كان يخبئه جون منذ زمن بعيد، يشبّهه بنقوش المغارة، ذلك أنه كان مغلفا بجلد أفريقي على الأرجح، كان يبدو مع تلك الخطوط الرّقيقة والمرسومة بدقّة على أنّه عتيق جدا، فلقد كان لافتا للنّظر وهو ملقى في فوضى عارمة من حزم الأوراق وآلة راقنة وتماثيل لحيوانات أفريقية، أعطته إياها عمّته لولا، وقالت إنها إرث لجده الضابط ميشال”.
اكتشاف مذكرات الجدّ، الضّابط الاستعماري القديم، سيشكّل لحظة تحوّل مهمّ في حياة جون، المناضل الشيوعي، نصير الحركات التّحريرية، ستغيّر هذه المذكرات من قناعاته، وتنقله من مناضل عادي إلى جندي، في حرب لم تكن تعنيه ظاهريا. وقد جاء في بداية مذكرات الجدّ “أنا الضّابط الفرنسي ميشال، أكتب من هذا المحجر القديم، الواقع في الجهة الشّمالية لمدينة الجلفة، أريد أن أدوّن من هذه اللحظة التي سأبدأ فيها العمل هنا، وسأكتب عن هؤلاء البربر الذين لم أفهمهم منذ ولوجي هذه المدينة.. قدمت هنا برفقة المئات من الجنود لتعمير هذا القفر البعيد”.
|
مذكرات الجدّ ميشال، الذي كان يرأس ورشة يعمل فيها جزائريون في تكسير الحجارة المستخدمة في البناء، كتبت في منتصف القرن التّاسع عشر، ولم يطّلع عليها الحفيد جون سوى بعد قرن من الزّمن، لكن المصطلحات التي كان يطلقها جدّه والفرنسيون على الجزائريين ظلّت ثابتة: برابرة، أهالي، همج، وأحيانا يصفون من يثور ضدّهم بالإرهابي. هذا اللعب بالمصطلحات سيضع بطل الرّواية في مساءلة عن حقيقتها، ليعيد لاحقا تصويبها، ويسمي الأشياء بمسمياتها الأصلية.
ثورة مضادة
يغفل الرّوائي عن تقديم تفصيلات كافية من حياة وملامح البطل جون، الذي لا نعرف الكثير عن خصوصياته، ويصرّ بالدّرجة الأولى على سرد الحكاية، حكاية البطل الشّخصية التي تتقاطع فيها مصائر إنسانية، مع مصير صخرة، ويرسم صورتين لشخصيتين متناقضتين، من جيلين متضادين: من جهة الجدّ الاستعماري، الذي جاء إلى مدينة الجلفة في الجزائر، خدمة للحملة الكولونيالية، ومن جهة أخرى الحفيد جون الذي يذهب إلى المكان نفسه، ولكن بمنطق تحريري، رافض لسياسة بلده الأمّ، وذلك بعدما علم بمصير جدّه من جريدة قديمة.
“بينما هو منهمك وسط الأوراق الكثيرة، رفع جون رأسه بنظراته قليلا، ووسط ذلك الصّمت المهول وقعت عينه على جريدة قديمة في أقصى زاوية خيّل له فيها أن اسم جدّه مكتوب أعلاها، فحبا إليها كطفل رضيع مندهشا متعطشا ليتأكّد من ذلك، وانتشلها من مكانها نافد الصّبر حتى يقرأها فيُبصر اليقين: (صخرة تقتل الضّابط الفرنسي ميشال بمدينة الجلفة)”. هكذا إذن حل لغز موت جدّه، ليسافر إلى الجزائر، وهي تخوض حربها التحريرية، ويكتشف شيئا آخر مهمّا، يعرف أخيرا أن أمّه التي ماتت وهو صغير، لم تكن سوى واحدة من نساء الأهالي وكان اسمها مريم، ليجد سببا إضافيا في انخراطه مع ثورة الجزائر ضد وطنه الأصلي، ويكتب في الأخير “من أجل استغاثات أولئك الرّجال الذين دفنوا أحياء، والصّخرة التي أسروها بالأغلال وأطلقوا عليها النّار.. من أجل كرامة الفرنسيين الأحرار.. قاتلت ضدّ الظّلم والعنصرية دون أن أراعي أيّ انتماء”.
يحوّل الكاتب، وبعد مجموعة قصصية بعنوان “قبل أن أصرخ”، في روايته الأولى أسطورة صخرة إلى حكاية إنسانية مفتوحة، حيث يجعل من الصّخرة بطلا استثنائيا، ويخلق شخصيات من حولها، ويستعيد جزءا مهما من تاريخ الثورات الشّعبية في الجزائر، ويستحضر فرنسيين منسيين، يشبهون شخصية جون، شاركوا في الحرب إلى جانب الجزائريين، ولكن قليلا جدا ما نذكرهم.