صبحي نايل لـ"العرب": على الفكر العربي اليوم أن يجرب اليتم

بالنظر إلى واقع بلدان العالم العربي فإن معظمها يعاني من مظاهر تخلف لم تنجح كل محاولات التحديث وتقلّب الأنظمة السياسية والفكرية والثقافية وغيرها في تغييره إلى الأفضل. وقد يتهم الكثيرون الفكر بما هو مفتاح كل مسار تغيير، ولكن الفكر التنويري الحر في هذه البلدان محاصر من الأنظمة والمجتمعات. إشكاليات معقدة تناقشها "العرب" مع الأكاديمي والباحث المصري صبحي نايل في هذا الحوار.
صبحي نايل باحث وأكاديمي متخصص في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي المعاصر، له بحوث ومقالات منشورة في المجلات المتخصصة والمواقع الإلكترونية وصدر له كتاب بعنوان “إستراتيجيات التأويل وأصول العنف الديني في الفكر الإسلامي المعاصر”.
في هذا الحوار نتطرق معه إلى الحديث حول الاختلاف وقبوله وإشكالية احترام هذا الاختلاف الذي يتحول أحيانا إلى صراع مسلح في مجتمعاتنا.
التطرف ومقاومته
◙ العرب: هناك فئة تمتلك حق القيادة المبني على امتلاكها للحقيقة، كما تقول، من هي هذه الفئة في عالمنا العربي؟
صبحي نايل: من المؤسف القول إن أغلب التيارات الفكرية في السياق العربي الإسلامي تتعامل بمنطق امتلاك الحقيقة وقيادة الجموع إليها، وتظهر جلية لدى التيارات الدينية باختلاف مشاربها؛ تيارات الإسلام السياسي، والمؤسسات الرسمية والتيارات السلفية، فجميعها تعمل بحديث الفرقة الناجية وترى في نفسها هذه الفرقة التي من حقها حمل راية الإرشاد النبوية وإصلاح البلاد والعباد.
وعلى الجانب الآخر الفريق الذي يرى في الحداثة وما أنجزته من أدوات وأفضت إليه من قيم ويعبر عن النسق المتكامل والمتقدم الذي يجب أن تُقاد إليه الدول والمجتمعات العربية، ويحمل راية إرشادية أيضا، ولكنها لا تكون باسم الدين هنا، وتكون باسم الفهم والتقدم الإدراك، والمسؤولية تجاه المجتمع، وتأخذ لنفسها دورا نضاليا تسعى من خلاله إلى لوم المجتمعات على عدم الانقياد لها، بل إنها تسم هذه المجتمعات بالتخلف وعدم التعلم والرقي في العديد من الأحيان، غير منتبهة إلى أنها نخبة هذه المجتمعات وأول من يلام في هذه المجتمعات.
لا يمكن أن ننكر وجود أصوات متزنة تسعى لدراسة الواقع وأزماته، والسعي نحو الواقع والانتباه له، ولكنها لم تتعد حتى الآن السياق الأكاديمي العربي الإسلامي، بل يمكن القول إن وجودها فردي حتى في الأوساط الأكاديمية، ويقف الإنتاج المعرفي على دراستها كمشاريع في أغلب الأحيان، ولا يتم تعديها إلى مشاريع أخرى مجاوزة أو مكملة.
◙ العرب: بعد كل هذه السنوات من وجود التنظيمات المتطرفة مثل القاعدة وداعش وغيرهما، ما هو الحل الذي تراه ناجعا كباحث للقضاء على الفكر المتطرف في العالم العربي؟
صبحي نايل: في ظني أن الحلول العسكرية لا تأتي إلا بنتائج مؤقتة تدوم لوقت ما مهما طال ومهما قصر، وهي ضرورية في حالات الردع بطبيعة الحال، فالتنظيمات المسلحة تهديد كبير لأي مجتمع وتعبر عن عداء مباشر للدولة والقانون؛ ومن ثم فإن المقاومة العسكرية لها أمر محتوم وضروري ومن الوظائف الضرورية والدفاعية للدولة. ومع كل الأهمية للردود العسكرية وتحجيم هذه الجماعات، إلا أن ذلك حل مؤقت وليس حلا جذريا أو ناجعا حسب صياغتك.
لا يمكن الحديث عن حل فوري وشامل لكل هذه الجماعات، إذ أن نهايتها بشكل تام أمر ينفيه التاريخ الإنساني، ذلك أن كل الأطراف دائما في حالة وجود. بيد أن غياب التهديد الهوياتي والهيمنة التي تمارسها الدول الأوروأميركية على المجتمعات العربية، ووجود بيئة اجتماعية متوازنة في الدول العربية ومؤسسات غير فاسدة؛ تسمح للفرد بالتعبير عن ذاته والسعي نحو النجاح، وعدم حجز الوظائف الكبرى والنجاحات حسب السياق الاجتماعي لفئة محددة دون غيرها، وتقديم خدمات الدولة لفئة ما دون غيرها، يساعد كثيرا في وجود بيئة فكرية واجتماعية غير متطرفة.
وأكرر لا يعد هذا حلا ينهيها بشكل تام، ولكنه حل يجعلها أخف وطأة وأقل تنظيما مما هي عليه، يمكن أن تكون ضمن الإطار المقبول في النزاعات البشرية. وفي رؤيتي هذه أستند إلى المشاريع التي تعلنها هذه المنظمات، إذ أنها تجتمع على إثبات الهوية في وجه العدو (حسب صياغتها)، ومحاربة الفساد في البلاد الداخلية.
الاختلاف الصحي
◙ العرب: ما هي الحلول والبدائل للعيش المشترك داخل مجتمع الاختلاف؟
صبحي نايل: لا أظن أن نظريات العقد الاجتماعي، أو محاولات سن القوانين وإدارة شؤون الأفراد منذ الحضارة الفرعونية إلى اليوم، لم تكن غير محاولات إدارة الاختلاف والعيش المشترك، وأنا مقتنع بنظرية هوبز حول نشأة العقد الاجتماعي والقوانين؛ إذ يرى أنها كانت عبارة عن خروج من حالة حرب الكل ضد الكل، حيث يكون الحال في غياب القانون لكل فرد الحق في كل شيء وتتعارض الإرادات ومن ثم تدور حرب الكل ضد الكل.
من هذا المنطلق أرى أن الحل في وجود دولة قانون تقف على مستوى واحد من كافة الأطياف والأعراق، وتتعامل مع مواطنيها بمبدأ المواطنة فقط، حيث يكون كل الأفراد متساوين أمام القانون. والواقع أن سيادة القانون لها ثمارها في المجتمعات الأوروبية، وتفتخر بها الكثير من المجتمعات، ولا ينجح الأمر بالإرشادات الوعظية وطرق التربية وحدها، ولا بالقانون وحده كذلك، فللأخلاق دور كبير في صياغة نمط العيش خاصة مع إمكانية التحايل على القانون، وكلاهما في نظري جناحا العيش المشترك.
وعن التربية والتعليم يمكن الإشارة إلى غياب الإجابات الواحدة والقاطعة، والمفهوم الوحيد للحقيقة لم يخلفه نمط أحادي في الفكر يعمل على فرض رؤيته أكثر من الانتباه للآخرين.
◙ العرب: هل نحن في حاجة إلى فهم الاختلاف في عالمنا العربي وكيف يتم ذلك بطرق سهلة ومباشرة؟
صبحي نايل: نعم نحن في حاجة إلى فهم الاختلاف في عالمنا العربي، فعالمنا العربي ينطلق من مسلمات مسبقة وصور مُعدة مسبقا ومحفوظة، ويلزم بها كافة الأفراد، وعادة ما ينظر إلى الأشخاص المختلفين نظرة احتقار ورفض، بل إنه يطالب الجميع بأن يكونوا نسخا مكررة.
أقول هذا الكلام وأنا أتمنى أن أقول غيره، ولكنها الحقيقة التي وإن تغافلنا عن ذكرها أو رفضناها فإننا نعيشها. فالعالم العربي اليوم عبارة عن مجموعة من الطوائف والقبائل تتقاتل فيما بينها، ولنا في السودان وليبيا عبرة حقيقية، فالسودان يعاني اليوم من الجوع والحروب والدمار، ومقتل عشرات الآلاف ونزوح الملايين، بسبب الحروب الطائفية وحرب العصابات.
القانون هو قوام إدارة التنوع والاختلاف، ونبذ العصبية القبلية والطائفية أيضا، وعن القانون فإن أغلب الدول العربية يسيرها منطق الاستبداد والفساد والرشوة أكثر من القانون، وهي أمور نعيشها ونتعايشها، أما عن العصبية القبلية والطائفية فإنها تربَّى في الأطفال وكأنها أحد أعضائهم.
ولا يخرج العنف والإرهاب إلا من غياب ثقافة الاختلاف وقبول الآخر، فالجماعات المسلحة لا تهدف إلى شيء أكثر من قيادة العالم لرأيها دون أن تنتبه لسنة الاختلاف التي سنها الله في كونه. وما أعنيه هنا الاختلاف الأفقي الذي يرى الأشخاص مختلفين فيما بينهم في العمل والوظائف والطباع ومتساوين في القيمة، فلا يوجد ما هو أهم أو أرفع من الآخر، فهو نمط اختلاف يضمن للآخر ما للذات، ليتم قبوله بين الأفراد والجماعات.
المؤسف أن نمط الاختلاف التي تقدمه الثقافات والمجتمعات الأوروأميركية هو نمط الاختلاف الهرمي، الذي يضع المجتمعات الأوروأميركية في أعلى الهرم ثم تنزل بعد ذلك للمجتمعات الأخرى، وورث عرضها لهذا النمط من الاختلاف العداء لهذه الدول ومحاولة صناعة هيمنة موازية ولو بالقوة.
وقدمت تلك البلدان التي تضع نفسها أعلى الهرم هذا النمط بوصفه النمط الأوحد للاختلاف من خلال سياساتها الاستعمارية، وورثته في المجتمعات العربية، مع النزوع العربي للفخر والتعالي، ما جعل هذا النمط من الاختلاف هو المطروح والمفهوم في الثقافة العربية. وهذا ما يجعلني أشدد عادة على النمط الأفقي الذي يرى بين عامل النظافة والوزير اختلافا في المهنة وطبيعة العمل ومساواة في المواطنة والحقوق.
الفكر العربي
◙ العرب: الفكر العربي كيف تراه بين الجدل المتواصل والفشل في المساهمة في التغيير؟
صبحي نايل: قبل أن أجيب عن رؤيتي للفكر العربي أتحدث عن التغيير وكيفيته، ولا يقف التغيير عند الفكر والمفكرين فقط، ولكنه إرادة عامة وسياسات حرة ونظرة نحو التعليم، فكما قال هيغل التقدير هو المحرك للتاريخ، والعلم اليوم هو بضاعة تتكلف أكثر من ثمنها، ولا سوق للفكر والعلم تجعل لهما وجودا حقيقيا، فلا يمكننا أن نعزل المشتغل بالعلم والفكر عن الحياة والاحتياجات الطبيعية والضرورية، ولنا في المفكرين والباحثين أمثلة كثيرة في المعاناة من الفقر والاحتياج الاجتماعي، خاصة أن الآليات الاقتصادية في الدول العربية لا تضع الفكر والمفكرين ضمن حساباتها، ولا تعول على البحث العلمي، وتنتظر فقط متعلمين يسدون ما تحتاجه لوجود بعض الحداثة الشكلانية، ولا تهدف إلى غير ذلك.
أما الثقافة العربية فهي ترى نوعا واحدا من المعرفة وهو المعرفة الجاهزة المسبقة، والتي يرى فريق أنها موجودة في القرآن، ويزيد فريق عليها السنة النبوية، ويزيد آخر اجتهادات السابقين، ويتفقون جميعا على أنها موجودة، ولا يوجد فعل معرفي غير استعادتها، والبحث الواقعي والإتيان بنتائج مختلفة يجعلان الفرد متهما، وتتم معاقبته، إن لم يكن من سلطة الدولة والقانون فمن الأطر الاجتماعية بطرده ولفظه، ما يجعل التعلم مهنة فاشلة لا تغطي ما أُنفق عليها، ويجعل الجهل قيمة أعلى وله سوق رائجة، خاصة إذا كان صاحبه يملك المال.وعن الفكر العربي فإنه للأسف الشديد خضع للتصور الأداتي في مراحل بلورته من خلال التماس مع الحداثة بمنطقها الاستعماري حينها، حيث حول التراث إلى أداة يسعى من خلالها إلى إثبات هويته وصلاح منطقه التقدمي الذي يراه متمثلا في الإسلام. وعلى الجانب الآخر شق آخر بلور مفهوم الحداثة بوصفها أداة تقدم أثبتت نجاحها في المجتمعات الغربية؛ ومن ثم فإن عليه تطبيقها على المجتمعات الإسلامية، وقيادة هذه المجتمعات إلى الحداثة.
ويسعى كل طرف إلى إثبات زيف رؤية الآخر وصلاح رؤيته، حيث تتم دراسة الحداثة من قبل التيار التجديدي لإثبات فسادها العقائدي، وكذلك تتم دراسة التراث من قبل التيار التجديدي للتراث، إما لإثبات عدم صلاحيته أو شرعنة أفكاره من خلال التراث. والواقع متجاهل بينهما، والتراث ما هو غير نتاج وعرض لمواجهة العقل الإسلامي مع أزماته، وكذلك الحداثة ما هي إلا عرض لمواجهة العقل الأوروبي لأزماته، وعلى العقل العربي المعاصر مواجهة أزماته لإنتاج حداثته.
◙ العرب: تهالك الفكر ورتابته إن صح الوصف، كيف نقاومهما ونصل إلى التغيير الفعلي في الواقع؟
صبحي نايل: لا أظن أن الحديث عن تهالك الفكر ورتابته أمر صائب هنا، فأنا مثل كل المشتغلين بالفكر العربي لي مآخذ عديدة عليه، ولكن لا يعني هذا أنه رتيب ومتهالك، بقدر ما يعني أنه يحاول ويجتهد في ظروف التجريم والرفض على مستويات عدة.
أما عن كيفية التغيير فإن الأمر في حاجة إلى حركة علمية شاملة، في الاقتصاد والسياسة والعلوم الطبيعية والطب والفلسفة وعلم الاجتماع وغير ذلك، وهي أمور معني بها العمل المؤسسي، فنسمع الحديث عن علم الاجتماع الألماني، وعن الفلسفة الفرنسية، ولا نسمع عن الفكر العربي، ويرجع هذا إلى أن المجهود فردي وذاتي، فأغلب المشاريع الفكرية في السياق العربي مشاريع فردية يحاول صاحبها تقديم رؤية شاملة حول الفكر العربي، ومن الضروري أن يقصر في ذلك.
أرى أن سبب الحديث عن الرتابة والتهالك هو عدم تحديث الموضوعات، فمازلنا نتحدث اليوم عن الأصالة والمعاصرة، وعن الحداثة والتحديث، ولكنها تساؤلات تفرض نفسها على الواقع المنحصر في هذه المنطقة اللاتاريخية ولا يتقدم. وبالطبع هناك مسؤولية على عاتق الفكر العربي، فلا يمكن أن نخليه من المسؤولية، ولكنه يعمل وحيدا ومرفوضا ومطرودا، ويتطور ويراجع نفسه. وأرى أنه ربما يعاني من المرجعية وعدم تجربة اليتم، أو الانخراط في أزمات الواقع، ولكني أراها نتيجة طبيعية للنظم الاستبدادية والأطر الاجتماعية التي لا تقل استبدادية عن نظم الحكم.