صادق جلال العظم لا تأبينا ولا رثاء

الثلاثاء 2016/12/13

مرثية الدكتور صادق جلال العظم الذي غادرنا في الهزيع الأخير من ليلنا السوري، لابد أن تتضمن ومضة استعادية لعقلانية الفقيد المطلقة العنان في قراءة التاريخ. ولا شك أن هذه القراءة، قراءة الفقيد، تمثل طرحا تنويريا مبكرا لعلمانية تصف نفسها بأنها صانعة سردية التقدم المستمر بامتياز.

هذه السردية التي تومئ بجرأة إلى إحدى قمم الفقيد السجالية، يمثلها كتابه “نقد الفكر الديني” أفضل تمثيل.

ونحن هنا لسنا إزاء نص ينتمي إلى النقد بالمعنى العادي المألوف، بل نص يطفر إلى ما هو أبعد منه، إلى النقد التأسيسي الشامل، النقد المسلح بمحمول معرفي متعدد الأنظمة، المشفوع بطاقة حجاجية تقوم آليات تدخلها السجالي بترويض الكائنات المتوحشة التي تمثل الأفكار المناهضة للفكر العقلاني، وتتجنب في مخاطبتها القارئ العام لغة الفلسفة الاختصاصية قدر المستطاع.

ولكن خلف هذا الحشد الهائل من المحاجات وتدفقها العفوي الذي يجعلها أقرب إلى النص المنطوق منها إلى النص المكتوب، تكمن عقلانية العظم الغائية في قراءة التاريخ، وهي كما أشرنا تصف نفسها عادة بأنها صانعة سردية التقدم المستمر بامتياز. ولكن هل ثمة حقا عقلانية في قراءة التاريخ كحتمية تاريخية صانعة للتقدم؟

تاريخ من؟ ووفقا لأي نموذج مرجعي (باراديم)؟ وما القول عندما تسير الحتمية التاريخية في الاتجاه المعاكس كما هو الحال في الشأن السوري؟ وهل يتعين علينا نحن العرب المعاصرين المرور عبر طقوس العبور التي مر بها الأوروبيون لكي نحقق التقدم وفقا لنموذج أوروبي مسبق الصنع؟ هذه الأسئلة الخلافية غائبة عن طروحات الكتاب المشار إليه والتي يعلو فيها صوت الداعية على صوت الباحث بين الحين والآخر. وفي تقديري أن ذلك ربما يعود إلى كونها تمثل فكرا تأسيسيا جريئا ومبكرا للمواجهة بين العقل والدين في بلادنا.

ولكن يبدو أن الاعتداد بلغة الطائفة والقبيلة والإثنية التي لا تستطيع أن تبرر نفسها إلا بالاعتماد على حفريات تاريخية غير موثوقة، وهو ارتداد مؤسف فرضه الطاغوت السوري وسادته الإيرانيون والروس، اضطر صادق جلال العظم في آخر حواراته اللافتة إلى الهبوط من علياء المثال إلى أرض الواقع والقول بصراحة إن كتاب “نقد الفكر الديني” لقي قبولا في الأوساط الشيعية لأنه كان مكرساً لنقد الفكر السني، فكر الأغلبية. لذلك “لم ينزعج الشيعة من الكتاب” على حد قوله.

كما أن سيطرة ظاهرة الطاغوت السوري وتقديم نفسه زعيما تفوق أهميته البشر والحجر، دعته إلى الاستجابة إلى سؤال محاوره في الحوار نفسه للإشارة إلى مفارقة مفادها أن كلمة “زعيم” غير قابلة للترجمة إلى اللغة الإنكليزية وأنها في حكم الكلمة الميتة في القاموس الأوروبي المعاصر نظرا إلى أن جزءا من أهمية الكلمة يأتي من الشحنة العاطفية التي تحملها. وهذا صحيح.

ولكن هل يصح القول تبعا لذلك إن مقولة الاستبداد الشرقي، مقولة هيغل صحيحة؟ تساؤل قد لا يكون محله هذه العجالة، يجب عليه التفكير في اللغة العربية، وعلى وجه التحديد التمعن في صلة القرابة اللغوية بين كلمات الزعيم والزعامة وفعل “زعم”. فكأن لغتنا العربية تنزع بطبيعتها إلى رفض القبول بسلطة الطواغيت. هذه مجرد أفكار استعادية تفتحها بعض أفكار صادق جلال العظم. إنها ليست تأبينا ولا مرثية. رثاء فقيدنا الكبير يحتاج إلى جهد مختلف ووقت آخر.

ناقد من سوريا مقيم في لندن

15