صاحب صنعتك عدوك

من أسوأ الأشياء أن تعمل مع زميل بوجهين، يضحك لك، لكن مشاعره المتصنعة مخبأة خلف محياه، والله وحده أعلم بكمّ الحسد والحقد اللذيْن يكنهما لك، إلا أنه مجبر على الظهور بعكس ما يضمر، لأنكما تعملان في المؤسسة نفسها أو مكلفان بمهمة مشتركة، ويجب عليه في هذه الحال الإبقاء على واجهة عامة ترتسم على وجهه أثناء العمل المُشْتَرَك.
لكن بمجرد أن تسنح له الفرصة لن يكتفي بطعنك في الظهر وبترويج الأكاذيب من أجل الإساءة إليك، بل سيباغتك مباشرة إذا وجد ما يدينك به حتى وإن كان ذلك محض تلفيق وافتراءات، ليثبت لنفسه وللجميع أنه أفضل منك أو أنك شخص سيء، وقد ينجح في تحقيق مراده إذا وجد مديرا يهوى الأحاديث الجانبية مع الموظفين.
الزمالة بين الرجال معالمها غير معقدة، لكن علاقات النساء المهنية يشوبها الكثير من التناقضات والتنافس ومشاعر الغيرة وعدم الأمان، إنها علاقات راكدة، يمكن أن تتكدر بسرعة ولأتفه الأسباب، وتجبرنا على التعامل بحذر مع الجميع حتى الذين تدرّجوا في الارتقاء إلى مرتبة الأصدقاء.
البعض من الزميلات والزملاء يجعلون من أنفسهم أحيانا شخصيات شديدة السوء ويبالغون في الوشاية بالآخرين ويكثرون من ذمّ الناس، ويشتكون من حظهم العاثر مقارنين أنفسهم بالآخرين، رغم أن الوشاية -أو النميمة- ستظهرهم أشخاصا سلبيين طغى الحقد على قلوبهم.
هناك مثل شعبي صيني يعبر بشكل واضح عن هذه المسألة، جاء فيه “توجد خلف الابتسامة سكين خفية”، لكن في مجتمعاتنا العربية المثل يقول “صاحب صنعتك عدوك”.
ورغم أنني لست من هواة الأمثال الشعبية -لأنها ترسخ أحكاما مسبقة وصورا نمطية أحيانا لا تمت إلى الواقع بصلة، وتؤثر فينا بشكل أو بآخر، بل قد تدفعنا إلى التصرف وفق ما تمليه علينا، بدل أن نكون أكثر عقلانية ونتعامل مع جميع الأمور كما هي في الواقع ومع الناس كما هم- إلا أنني اكتشفت أن هناك أمثالا بليغة في التعبير عن القبح المتغلغل في نفوس بعض الزملاء حتى النخاع. ما أدهشني عندما عملت في إحدى الشركات هو مدى سهولة وقوع النساء تحت ضغط مشاعر الكراهية تجاه زميلاتهن، وكيف يسهل على الكثيرات إطلاق نعوت تصف المقربات منهن بأبشع الصفات، من دون وجود سبب يستدعي هتك عرض الغير، وقد نلت نصيبا من ذلك عندما انتقلت للعيش في لندن، لكنني اكتفيت بالصمت حتى لا أنزل إلى مرتبة من نقل الأقاويل ومن تلفّظ بها.
على أية حال أتفهم أننا بشر، ومعظمنا قد ينخرط من حين لآخر في سلوك عدواني تجاه غيره وخاصة الذين يسيئون إلينا، لكنّ هناك صنفا من البشر يتصرف بشكل عدواني ظاهر ومضمر طوال الوقت ومن دون سبب مقنع، ويعمل دون كلل أو ملل على نشر الظنون الخطرة والسيئة عن الزملاء عن طريق ترويج الشائعات والقيل والقال.
هذا المثال أصبح شائعا في مجتمعاتنا الحالية، بل يكاد يكون توجها عاما سائدا بين الناس وفي كل المجالات.
في بداية مشواري الصحافي كنت شديدة الفضول وأتوق دائما إلى معرفة الكثير عن حياة الشخصياتٍ الناجحة والمثقفة وحسنة المظهر في عالم السياسة والفن، ويبدو أن ظاهرها اللامع البرّاق الجذاب لا يعكس كثيرا ما بداخلها.
سألت ذات مرة مطربا تونسيا معروفا عن سبب العداء المعلن بين أغلب الفنانين إذا كان المجال مفتوحا للجميع، للعمل في أجواء من التفاهم والتعاون، إلا أنه فاجأني بقوله ضاحكا “نحن نعانق ونقبّل بعضنا البعض ولكننا في الظهر نطعن بالموس (بالسكين)”.
ولطالما اعتقدت أن المجال السياسي يفرض على السياسيين التحلي بالسلوك الدبلوماسي المنضبط، لكن يبدو أن العكس صحيح، فقد اكتشفت -خاصة في البرلمانات العربية- أن أكثر الساسة شخصيات عدائية وعازمة على تحقيق أهدافها بكل السبل الانتهازية الملتوية.
ومثل هذا السلوك قد يجعل الأجيال القادمة تفترض أنه يجدر بالمرء أن يكون عنيفا وشرسا في مثل هذه المناخات التي أصبحت تعج بالتطاحن والصراع من أجل المصلحة الشخصية، بغض النظر عن مصالح الشعوب.
ولكني حتى الساعة ما زلت أعتقد أن التحلي بالأخلاق الحميدة مع الغير لا يكلف صاحبه شيئاً، وبفضله يمكن أن نحصل على كل شيء، وخاصة محبة الناس. ووفقاً لهذا المبدأ، يُفترض أن يؤدي تصرف أي شخص على نحوٍ عدواني أو غير لائق إلى الإضرار بسمعته ويفقده شعبيته بين الناس.