شيوع الفساد يغذي غضب الشارع من الحكومة في مصر

توقيف مسؤولين كبار محاولة لتهدئة الساخطين قبيل انتخابات الرئاسة.
السبت 2023/12/09
الوضع الاقتصادي يلقي بظلاله على انتخابات الرئاسة

يعاني الجهاز الإداري في مصر من تفشي ظاهرة الفساد، في غياب الرقابة الجدية التي يعزوها كثيرون لعدم توفر الإرادة السياسية للحكومة، التي تتعاطى مع الأمر بشكل مناسباتي في ارتباط بحدث سياسي كاقتراب موعد الانتخابات، أو حينما يبلغ غضب الشارع مداه.

القاهرة- تصدرت قضية فساد كبرى تم الكشف عنها في وزارة التموين والتجارة الداخلية، المعنية بالسلع الحيوية، اهتمامات الرأي العام في مصر، لاسيما وأنها مرتبطة بأزمات في بعض السلع الأساسية حيث اتضح أن الأمر على صلة بتشكيلات من عصابات يقودها مسؤولون كبار.

وعلى وقع تذمر الشارع من إخفاق الحكومة في حل مشكلات مرتبطة باختفاء وغلاء بعض السلع الأساسية، وجهت هيئة الرقابة الإدارية المعنية بمكافحة الفساد في البلاد ضربة بالإعلان عن شبكة فساد بوزارة التموين، تضم مستشار الوزير وثمانية آخرين، من المسؤولين والتجار المحتكرين الذين تورطوا في أزمات مرتبطة بسلع إستراتيجية.

وحملت قضية الفساد دلالات سياسية ترتبط بالتوقيت نفسه الذي يعبّر عن سعي الحكومة لامتصاص غضب شعبي متصاعد عقب اتهامها بالعجز عن إيجاد حلول لمشكلات السوق، ولأن الظرف السياسي فرض عليها المزيد من الحضور والفاعلية والصرامة، حاولت الحكومة أن توصل رسالة بأن الفساد يكبل يديها في حل الكثير من الأزمات.

واتضح من تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا أن التشكيل العصابي تعمد حجب سلع أساسية واحتكارها ورفع أسعارها، وهناك مسؤولون حصلوا على رشاوى لغض الطرف عن المحتكرين والسماح لهم بالتلاعب في أسعار سلع من المفترض أن تُصرف من الدولة لفئات من محدودي الدخل، وهم شريحة تعول عليها الدولة لترميم الجبهة الداخلية.

عمرو هاشم ربيع: العبرة في ألاّ تترك الحكومة الأزمات تتفاقم ثم تواجهها
عمرو هاشم ربيع: العبرة في ألاّ تترك الحكومة الأزمات تتفاقم ثم تواجهها

وأفادت النيابة العامة بأنه تم ضبط أطنان من السكر والزيت والأرز، وجميعها محجوبة عن المواطنين لبيعها في السوق بأكثر من سعرها الرسمي المدعم من الدولة للبسطاء.

وأظهرت القضية تفشي الفساد في الجهاز الإداري للحكومة وهو ما بات يمثل عائقا أمام أيّ محاولة لتحسين العلاقة مع المواطنين، أمام ضعف الرقابة والتهاون مع المسؤولين أو الكف عن محاسبتهم، وعدم تحرك المؤسسات المعنية بالضبط إلا بعد وجود أزمة حادة وارتفاع غضب الناس لمستويات قياسية وتصويب سهام النقد تجاه السلطة.

وفسّر مراقبون الانتفاضة الحكومية ضد الفساد الإداري بتفاقم أزمة اختفاء وغلاء بعض السلع المهمة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقرّر لها الأحد المقبل، وتسعى الحكومة لترضية الشارع لمشاركة أكبر عدد من المواطنين فيها لتوصيل رسالة بأن النظام المصري يحظى بحصانة شعبية ولم ينجح بانتخابات صورية.

وبدأت الحكومة تكشر عن أنيابها أمام موجات الغضب ضدها بإقالة رئيس جهاز حماية المستهلك وتعيين ضابط سابق كبير خلفا له، في محاولة لإثبات جديتها في مواجهة انفلات الأسواق، مع تكليف وزراء الداخلية والتجارة والتموين والتنمية المحلية بنشر فرق متابعة للمحال للتأكد من وجود السلع وبيعها بالتسعيرة المحددة.

واختفت سلع، مثل السكر، من الأسواق بشكل شبه كلّي، وارتفع سعر الكيلوغرام الواحد بشكل مبالغ فيه، مع أن التسعيرة المحددة من جانب الحكومة أقل من نصف الثمن الذي تباع به، لكن المسؤولين المتهمين بالفساد والشبكة المتعاملة معهم اتفقوا على إخفائه وإجبار المواطنين على شرائه بثمن مبالغ فيه.

ويصعب فصل التصعيد الأخير ضد بؤر الفساد عن امتعاض واضح من الرئيس عبدالفتاح السيسي وتكليفه للجهات الرقابية بأن تنزل إلى الشارع وتتصدى بقوة للعصابات في الجهاز الإداري لبعض الوزارات، طالما أن الحكومة كجهة تنفيذية غير قادرة على إيجاد الحلول، في ما لا يجب أن يشعر الناس بأن الدولة عاجزة عن المواجهة، أو تبدو مستسلمة للأمر الواقع في هذا التوقيت الدقيق.

وقال عمرو هاشم ربيع نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية والسياسية، عضو مجلس أمناء الحوار الوطني، إن بطء تدخل الحكومة في حل بعض الأزمات التي لها تبعات سياسية تغذي غضب الشارع وهو ما يمثل مشكلة كبيرة. وأضاف هاشم ربيع في تصريحات لـ”العرب” أن قضية فساد التموين كشفت إلى أيّ درجة يمكن للرقابة المستمرة أن تنجح في وأد مشكلات كبرى قبل تفاقمها، وتظل المعضلة في تركيز الحكومة على البحث عن نجاحات في الشق التنموي والتراخي عن توجيه ضربات موجعة للفاسدين.

ولا توجد وزارة في مصر إلا ولديها جهاز تفتيش ومتابعة ورقابة، لكن دور هذه الأجهزة يكاد يقتصر على النواحي الإدارية الصورية، في حين أن هناك أجهزة رقابية لديها صلاحيات لمحاربة الفساد وضبط المتورطين فيه، مهما كانت مناصبهم، ويبدو أن هناك تصورا لدى الحكومة بعدم إدخال هذه الهيئات كطرف إلا عندما ترتبط بأزمة.

أعلنت هيئة الرقابة الإدارية المعنية بمكافحة الفساد عن شبكة فساد بوزارة التموين، تضم مستشار الوزير وثمانية آخرين

وأكد ربيع أن انفلات السوق، الذي يعد أحد الملفات التي يقيس عليها الشارع قوة الحكومة أو ضعفها، نتج عنه شعور بعض المواطنين بأن ما تسوّق له من إنجازات ليس حقيقيا، مع أن ثمة إيجابيات حدثت، لكن العبرة في ألاّ تترك الأزمات تتفاقم ثم تواجهها، ولا بد أن تملك إستراتيجية متكاملة للقضاء على الفساد من الجذور.

وترتبط المشكلة الأكبر باقتناع المسؤولين الكبار والصغار داخل الحكومة بأنه لا توجد مسؤولية تؤذيهم في مناصبهم أحيانا، ما يجعل كلاّ منهم يتعامل مع المنصب باعتباره ملكية خاصة، وظهر ذلك في قضية فساد وزارة التموين عندما أصبح المسؤول عن الرقابة هو نفسه المتورط في تكوين تشكيل من العصابات.

ولفت هاشم ربيع إلى صعوبة وصول مصر إلى تحقيق الحد الأدنى من محاربة الفساد دون إرادة سياسية من جانب الحكومة، وإذا توافرت الإرادة فهناك إشكالية تتعلق بغياب مظاهر الحياة السياسية بالمعنى الحرفي، حيث يوجد دستور وقوانين وبرلمان، لكن لا توجد كوادر لها قدرة على محاسبة المسؤولين على القصور والإهمال والفساد.

ويعبّر البرلمان الحالي في مصر عن حالة تراجع سياسي في الرقابة، وبدا في الكثير من الأحيان عاجزا عن القيام بمحاسبة المسؤولين عن الملفات الحيوية، ولا يستخدم المجلس الأدوات الرقابية في مواجهة الفساد بشكل حاسم، لأن نوابه يفتقرون للخبرات أو لأنهم أعضاء في أحزاب متناغمة سياسيا مع الحكومة، وبالتالي ليست لديهم مساحة من حرية التحرك.

وتتفق بعض الأصوات في مصر على أن شعور المسؤولين بعدم وجود محاسبة ورقابة دورية يوسع دوائر الفساد ويعرقل خطط ترسمها السلطة لتقريب المسافات مع الشارع مهما بلغت الإنجازات، فالأجهزة الرقابية لن تكون قادرة وحدها على التعامل مع الفساد، طالما أن المحاسبة الشاملة خاملة.

وتظل العبرة، وفق مراقبين، في أن تقتنع دوائر حكومية بأن محاسبة المتورطين في وقائع فساد داخلها ميزة تُحسب لها، لا عليها، وإن استثمرت ذلك قوى معارضة في تشويه صورتها، ولأن التدخل على فترات متباعدة لحل أزمة معقدة سوف يترك مشكلات أكثر تعقيدا إذا ظلت صرامة الحكومة خاضعة لتوقيتات سياسية محددة.

2