شيء سحري يحدث.. كيف ازدهر الكوميكس وما هي انعكاسات ذلك

الكوميكس يصنع قراء المستقبل ويبشر بتغيير جذري في عالم التأليف.
الأربعاء 2025/03/12
مؤشر إيجابي لمستقبل صناعة الكتب

تطور فن الكوميكس بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. ورغم التحديات التي فرضتها التكنولوجيا المعاصرة عرف العاملون في هذا الفن كيف يطورونه ويتماشون مع التغيرات الحاصلة والعوالم الرقمية وتقنيات الديجيتال وحتى القصص التي عرفت تغييرا كبيرا بدورها. فهل يعتبر ازدهار هذا الفن مؤشرا على مستقبل القراءة والأدب؟

لندن - يشهد عالم النشر ازدهارًا لافتًا في مبيعات كتب الكوميكس والروايات المصورة الموجهة للأطفال، حيث تجاوزت قيمتها 20 مليون جنيه إسترليني في بريطانيا، مسجلة رقمًا قياسيًّا تاريخيًّا.

 ويرى الناشرون والمحللون أن هذا النجاح ليس مجرد إحصائية عابرة، بل بوابة واعدة لزرع حب القراءة في نفوس الأجيال الجديدة، خاصة مع تزايد شعبية أنواع مثل المانغا وكوميكس الأبطال الخارقين.

مؤشر إيجابي

يأتي هذا الانتعاش قبيل انطلاق معرض لندن للكتاب في أولمبيا هذا الأسبوع، حيث يحتفل الناشرون بهذه الأرقام كمؤشر إيجابي على مستقبل صناعة الكتب. و نقلت صحيفة الغارديان عن فيليب ستون، المحلل الإعلامي في NielsenIQ BookData، قوله “على مدى العقد الماضي ارتفعت مبيعات الروايات المصورة للأطفال والبالغين بشكل ملحوظ، مدفوعة بكتب الأبطال الخارقين التي عززتها الأفلام السينمائية، إلى جانب نجاح سلاسل المانغا المتجدد.” ويضيف “نحتاج الآن إلى دراسات متعمقة لفهم كيف تسهم هذه الكتب في جذب الشباب للقراءة، لكننا نعتقد أنها تلعب دورًا كبيرًا.”

ومن بين العناوين البارزة التي تأسر القراء الصغار، تبرز سلسلة “يوميات طفل جبان” لجيف كيني، و”أرنب ضد قرد” لجيمي سمارت.

ويصف سمارت، أول “مبدع مقيم” في معرض الكتاب هذا العام، الكوميكس بأنه “أعظم وسائل سرد القصص،” موضحًا “يتيح للمبدع نقل خياله كاملًا إلى القارئ، من المشاهد والشخصيات إلى التفاصيل الدقيقة، ما يوجد عوالم تتفاعل معها الأجيال الجديدة بعمق.” ويؤكد أن الأطفال ينجذبون إلى الكتب التي لا تشعرهم بأنها دراسة، بل مغامرة ممتعة تبدأ بالألوان الزاهية والشخصيات المرحة، لتنتهي بربطهم بالقراءة مدى الحياة.

نجاح هذا الفن ليس مجرد إحصائية عابرة، بل بوابة واعدة لزرع حب القراءة في نفوس الأجيال الجديدة

يأتي هذا الاهتمام المتزايد بالكوميكس وسط تقارير مقلقة من المؤسسة الوطنية لمحو الأمية في بريطانيا، التي أشارت في نوفمبر الماضي إلى تراجع عادات القراءة لدى الأطفال، حيث يستمتع واحد فقط من كل ثلاثة أطفال بين 8 و18 عامًا بالقراءة في أوقات فراغه، بانخفاض 8.8 في المئة عن العام السابق. لكن سمارت يرى في هذا التحول “شيئًا سحريًا”، خاصة مع القراء المترددين الذين يجذبهم الكوميكس ليصبحوا عشّاقًا للكتب.

في المقابل تواصل الروايات الأدبية للبالغين دفع مبيعات الكتب المطبوعة، مع تصدر كتّاب مثل كولين هوفر “ينتهي بنا الأمر”، وربيكا ياروس “الجناح الرابع” و”اللهب الحديدي”، وسالي روني “إنترمتزو”، وفريدا ماكفادين “الخادمة”، قوائم الأكثر مبيعًا. وسجلت الروايات الورقية الفاخرة أعلى قيمة مبيعات في تاريخ بريطانيا، مع تجاوز ستة عناوين حاجز 100 ألف نسخة. ويرى ستون أن انخفاض أسعارها وكونها ملاذًا من الواقع عاملان رئيسيان في نجاحها.

على النقيض من ذلك يعاني قطاع الكتب غير الروائية من تراجع هو الأدنى منذ عقدين، ويعزو ستون ذلك إلى توافر المحتوى المجاني عبر الإنترنت وارتفاع التكاليف، رغم انتعاش مبيعات الكتب الدينية.

وتدعم هذه الرؤية دراسة حديثة أجرتها جامعة مانشستر بالتعاون مع مهرجان البحيرات الدولي للكوميكس، أظهرت أن برنامجًا تعليميًا قائمًا على الكوميكس رفع متوسط العمر القرائي للأطفال المشاركين بـ18 شهرًا خلال عام، مقارنة بـ11 شهرًا سابقا، مع مضاعفة عدد من يعتبرون القراءة نشاطًا مفضلًا.

النشأة والازدهار

تطور فن الكوميكس بما يمثله من خطاب للأجيال الجديدة فرصة لتغيير جذري يشمل عالم الأدب والقراءة والتأليف
تطور فن الكوميكس بما يمثله من خطاب للأجيال الجديدة فرصة لتغيير جذري يشمل عالم الأدب والقراءة والتأليف

الأشرطة المرسومة في عيون عشاقها فنّ قائم بذاته، يطلقون عليه لقب “الفن التاسع”، بالرغم من عدم الإقرار بالتلفزيون فنّا ثامنا، واعتباره تابعا للسينما. ويزعمون أن جذوره تعود إلى العصور القديمة، ويضربون أمثلة على ذلك رسوم المعابد الفرعونية، ودساتير الأدوية لدى شعوب المايا المعروفة، وأفاريز البنتيون في أثينا، ومسلّة تراجان في روما، والنقوش السفلى لمعبد أنكور في كمبوديا… وكلها لوحات تقوم على تعاقب صور أو نقوش تروي حكاية.

بيد أن مؤرخي الفنون لا يجدون في البعد السردي لتلك الأعمال ما يفرد لها موقعا داخل الفنون البصرية، والأرجح في رأيهم أن البداية الفعلية للأشرطة المرسومة كانت في أواخر القرن التاسع عشر، عام 1896 تحديدا، مع ظهور شريط “الطفل الأصفر” بـ”تروث مغازين” في الولايات المتحدة، وإن اختلفوا في تعريفه فهو في نظر رودولف توبفر، مبتدع الأشرطة المرسومة، أدب في شكل لوحات مرسومة، وفي نظر ويل إيزنر فن تعاقبي أو سرد مرئي، وقد استقر الرأي اليوم على أنه مجموعة من رسوم متعاقبة مشفوعة بنص سردي حواري في أغلبه، يخدم أحدهما الآخر، حيث لا يفهم النص إلا بالرسم، ولا يفهم الرسم بغير النص.

استند هذا الفن في بداياته إلى الصحف والمجلات، التي كانت تحتضن محاولات محدودة اللوحات تروي طرفة أو حادثة مضحكة أو موقفا ساخرا من بعض مظاهر الحياة في ذلك الوقت. ولما استحسنها القراء صارت تجمع تلك اللوحات في كتيّبات دورية، قبل أن تظهر دور نشر متخصصة في هذا الفن الجديد الذي وجد جمهوره في أوساط الناشئة، عملت على ترسيخه وتطويره، لاسيما أن إنجازه لا يستوجب أكثر من فنان واحد يتولى في الوقت ذاته كتابة السيناريو والرسم حينما كانت الكتب لا تستعمل الألوان، قبل أن يتم المرور إلى ثلاثة متخصصين في التأليف والرسم والتلوين، فظهرت ألبومات متنوعة تحوي أكثر من حكاية، وسلاسل تحوم حول بطل ما في حلقات متتابعة. ومع تزايد اهتمام شريحة معينة من القراء تستهويها قراءة الكتب المرسومة، ظهرت روايات مرسومة في كتب مستقلة Graphic novel.

لكن فن الأشرطة المصورة الذي عرف أوج ازدهاره بعد منصف القرن العشرين عرف تراجعا مع الواقع التكنولوجي المعاصر، قبل أن يساهم تكاتفه مع الأساليب التكنولوجية وعوالم الصورة والديجيتال في استعادته لمكانة بارزة بين مختلف الفنون الأخرى. ولكن لازدهار الكوميكس أسباب يبدو أنها أعمق مما ذكر.

مع شباب الكوميكس الجدد اتخذ هذا الفن موقعا متقدما استعدادا لتطوير المواجهة الاجتماعية والسياسية مع السلطة وأدواتها ورموزها، في تصعيد إبداعي وسايكولوجي خلاق، كما ساهم ابتكار الأبطال الذين يتماشون مع العصر الحالي والتعاون مع السينما والتلفزيون والإنترنت والديجيتال في إيجاد مساحة لهذا الفن ليكون في صدارة اهتمام الأجيال الجديدة التي زادت أعمارها بنسبة ملحوظة، مقارنة باقتصاره على الأطفال الأصغر عمرا سابقا.

ولعل الكوميكس بما يمثله من خطاب للأجيال الجديدة فرصة لتغيير جذري يشمل عالم الأدب، وقد تشهد السنوات القادمة تأثيرات هذا الفن بشكل ملحوظ أكثر.

13