شوارع المناخ سمة المدن الذكية لتعزيز الاستدامة

مدينة المستقبل تعطي الأولوية لحماية البيئة، وإذا كانت أمستردام تفتخر بتجربة “شارع المناخ” التي نفذتها في إحدى أسواقها الأكثر ازدحاما وتمكنت بفضلها من ترشيد استهلاك الطاقة وخفض الانبعاثات والحصول على نفايات مستدامة، فدبي هي رائدة المدن الذكية صديقة البيئة بالاعتماد على التطور الرقمي وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
تونس – الشوارع الصديقة للبيئة هي إحدى سمات مدن المستقبل الذكية، وأصبح تطبيق هذه الفكرة ضرورة ملحة خاصة في المدن الكبيرة التي تشهد اكتظاظا سكانيا وازدحاما دائما في حركة السير.
وبصفة عامة يرتبط نظام المدن الذكية بفكرة الأبنية والشوارع المستدامة وأن تكون مدنا صديقة للبيئة بالدرجة الأولى، وهي النزعة التي أفرزتها زيادة الوعي بأهمية إعطاء الأولوية للمناخ في حياتنا اليومية بالنظر إلى الأضرار التي يعاني منها العالم نتيجة سياسات وتوجهات واستثمارات أهملت هذا الجانب في السابق، ما كانت تكلفته ثقيلة على الجيل الحالي وستكون أكثر إيلاما بالنسبة إلى الأجيال القادمة إذا لم يتم اتخاذ الإجراءات الضرورية والخيارات الصحيحة.
في العالم العربي بدأت فكرة المدن الذكية تتبلور شيئا فشيئا. لكن بعض التجارب، لاسيما في دول الخليج، تعد رائدة ليس على مستوى منطقة الشرق الأوسط فقط بل على مستوى العالم أيضا، وتتجسد في ما تعيشه مدينة دبي من تحولات هائلة في بنيتها التحتية التي تجعل منها نموذجا ناجحا للمدن الذكية.
وتم إنشاء المشروع العقاري مدينة دبي المستدامة وفقا لمعايير الاستدامة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، إذ يتضمن مبادرات تهدف إلى ضمان الحفاظ على الموارد، على غرار تصميم المنازل لضمان كفاءة استهلاك الطاقة واستخدام مواد البناء الصديقة للبيئة.
وفي مدينة دبي المستدامة تستفيد المساكن من الألواح الشمسية لإنتاج الطاقة النظيفة، وتعتمد على خطة متكاملة لمعالجة مياه الصرف الصحي والنفايات المنزلية واستخدام مواد التنظيف العضوية والمنتجات الخضراء.
وساهمت مبادرات التخفيض من انبعاثات الكربون في تقليل نصيب الفرد من استهلاك الكهرباء والمياه بنسبة تتراوح بين 30 و42 في المئة.
وبفضل قيمة المشروع العقاري في ما يتعلق بتحقيق هدف الاستدامة، حصدت المدينة لقب “أسعد مجمع سكني” ضمن جوائز العقارات الخليجية لعامي 2017 و2018، فيما يعزز تطبيق التقنيات الخضراء والنظيفة، الذي يخفف درجات الحرارة وينقي الهواء من الملوثات، ميزات مدينة زهرة الصحراء الصديقة للبيئة والذكية التي سيشكل عدد السكان فيها نسبة 75 في المئة، إلى جانب أنها مركز للمال والأعمال.
رمز للاستدامة
وقال داوود الهاجري، المدير التنفيذي لإدارة التخطيط، إن المشروع يعتبر من أكبر المشاريع المستدامة على مستوى العالم، ويتخذ هيكل تخطيطه العمراني شكل نبتة زهرة الصحراء متعددة الألوان والتي تتلاءم مع البيئة الصحراوية كرمز للاستدامة حيث تتكامل جميع احتياجات الأفراد في مكان واحد.
وأكد الهاجري أن ما يميز هذه المدينة هو استخدام الطاقة البديلة المتجددة بنحو 40 في المئة، إضافة إلى تقليل البصمة الكربونية بمقدار 300 طن من الكربون سنويا، فضلا عن المعالجة الذاتية لمياه الصرف الصحي والتزويد الذاتي بمياه الري.
وهذه المدينة بدورها تعتمد على الطاقة المتجددة وتلبي احتياجات البيئة وإعادة تدوير النفايات الذاتية والمياه الصحية بما يوفر أكثر من 40 ألف متر مكعب من المياه الصالحة، وتستخدم من أجل ذلك أحدث وسائل التكنولوجيا العصرية وتقنيات المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية. ومبانيها مدعومة ببرامج وتقنيات ذكية تخفض درجة الحرارة وتقلل استهلاك الكهرباء.
وذكر الهاجري أن المدينة تتميز باستخدام مواد صديقة للبيئة في جميع المرافق بما في ذلك المسالك والطرق والمباني، وتتوافق التصاميم مع اتجاهات الرياح في إمارة دبي.
ويعد “شارع المناخ” في العاصمة الهولندية أمستردام نموذجا يعطي صورة عن الكيفية التي ستكون عليها شوارع مدن المستقبل حيث تحول هذا الشارع إلى نموذج للبيئة النظيفة بعد أن كان من أكثر الشوارع ازدحاما، وذلك بفضل استخدام تقنيات إعادة التدوير والطاقة الشمسية كمصدر للإضاءة.
وأعادت أمستردام في إطار هذه التجربة تصميم أحد أكبر شوارع التسوق فيها والذي يشهد حركة ازدحام متواصلة، وهو شارع “أوترشتسسترات”، إذ يتضمن مختبرا في الهواء الطلق يجمع بين التقنيات الجديدة واللوجستيات الحضرية واحترام البيئة والتجارة.
ودخلت مدينة أمستردام في شراكة مع شركات القطاع الخاص لتجربة مبادرات المدينة المستدامة في أحد شوارع التسوق الرئيسية قبل طرح أكثر التدابير فعالية على الطرق المزدحمة على مستوى المدينة. وتوجد في المدينة ثلاثة مشاريع تشمل محطات الترام القابلة لإعادة التدوير والمقابس والمقاييس الذكية وإضاءة الشوارع الموفرة للطاقة.
ونجحت أمستردام في تخفيض كمية الطاقة التي تستخدمها الشركات في واحدة من أكثر مناطق التسوق ازدحاما من خلال سلسلة مبادرات صديقة للمناخ. كما حقق المشروع نتائج إيجابية أخرى إذ ساهم في توفير تكاليف سنوية وخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
تطبيق التقنيات الخضراء والنظيفة الذي يخفف درجات الحرارة وينقي الهواء من الملوثات يعزز ميزات مدينة زهرة الصحراء
والشراكة مع القطاع الخاص التي بدأت في عام 2009 جزء من حملة أوسع أطلقتها المدينة، وتشمل العديد من المبادرات الذكية، لتكون واحدة من أكثر المدن استدامة في العالم بحلول عام 2040.
وعقدت حكومة مدينة أمستردام شراكة مع مالكي 40 محلّا من المتاجر والمقاهي والمطاعم المحلية، فضلاً عن جمعية “أوترشتسسترات” للأعمال. واختارت المدينة رواد الأعمال الذين كانوا متحمسين لجعل الشارع والمدينة أكثر استدامة. وساعد في تنفيذ السياسات الحكومية شركاء من القطاع الخاص بما في ذلك شركة التكنولوجيا “فيليبس” وشركة جمع النفايات “غانسيوينكل” وإدارة المرور “زايت” ودعاة الاستدامة “كلوب فان 30” وشركة الاتصالات “فودافون” وخدمة البريد “بوست إن آل”.
ويعتبر برنامج الإدارة المستدامة للنفايات الجديد إحدى أنجح المبادرات. وقامت الحكومة بتركيب صناديق “بيغبيلي” التي تعمل بالطاقة الشمسية مع جهاز لتعقب كمية النفايات التي تحتفظ بها.
وصمم فان غانسيوينكل سيارات كهربائية لجمع القمامة تعمل بالطاقة الشمسية ولا تحدث صوتا كما لا ينبعث منها ثاني أكسيد الكربون، وكانت النتيجة أن 50 في المئة من نفايات الشارع أصبحت مستدامة.
كما عملت أمستردام مع شركاء آخرين لتنفيذ عدد من المخططات الأخرى، مثل العدادات الذكية التي تساعد الشركات على قياس استخدام الطاقة وإنارة الشوارع التي تخف عندما لا يوجد أحد حولها والمقابس الذكية التي تغلق تلقائيا الأجهزة والأضواء غير المستخدمة، بالإضافة إلى توقف الترام القابل لإعادة التدوير عن طريق الألواح الشمسية.
وتخطط الحكومة لتكرار “شارع المناخ” في جميع طرق التسوق الرئيسية، كما تعهدت أمستردام بتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 40 في المئة وتخفيض استهلاك الطاقة بنسبة 20 في المئة بحلول عام 2025.
كما وظفت سنغافورة التطور الرقمي في تقييم أداء حركة المرور وتشخيص مشكلات الطرق وتجاوزات القانون إذ تعتمد الحكومة على أجهزة الاستشعار والكاميرات. أما كوبنهاغن عاصمة الدنمارك فقد اعتمدت نظام إضاءة ذكيّا لإنارة الشوارع بمصابيح متصلة بشبكة لاسلكية ويمكن أن تتم برمجتها لتقليل أو زيادة الإضاءة تلقائيا، وهو ما يعزز ترشيد استهلاك الطاقة ويحد من حوادث السير وخطر الجريمة.
ومن جانبها استغلت مدينة ساو باولو البرازيلية الذكاء الاصطناعي للتحكم في جودة الهواء والتنبؤ بها من خلال تحليلات البيانات الضخمة المتعلقة بالأشخاص والطقس والمرور والتلوث والتي تساعد بدورها على احتساب مستويات التلوث بشكل استباقي.
وبفضل هذه البيانات الاستباقية، يتحذ المسؤولون الحكوميون ومصنعو السيارات إجراءات لإعادة توجيه حركة المرور قبل أن تضرب بؤر تلوث الهواء بهدف تجنب حالات وفاة أو مرض.
أماكن تعزز السعادة
تم توظيف التطور التكنولوجي من أجل أماكن مشتركة تكون صديقة للبيئة وتساهم في تعزيز الشعور بالسعادة والصحة الجيدة.
وفي المدن الذكية تحفظ المباني الحرارة وتنتج الطاقة النظيفة، إذ تتزود بالألواح الشمسية وترتبط المباني والمنازل فيما بينها بشبكة واحدة لتوليد الطاقة تلقائيا على غرار مدينة فوجيساوا الذكية في اليابان التي تأسست عام 2010 في موقع مصنع سابق لشركة باناسونيك، ويوجد في هذه المدينة ما يقارب 100 منزل ذكي على مساحة 190 ألف متر مربع، وعند انقطاع مصادر الطاقة الخارجية يمكن للمدينة أن توفر الاكتفاء الذاتي من الطاقة لمدة 3 أيام كاملة.
ووفق الاتحاد الدولي للاتصالات، تضم المدن حاليا أكثر من نصف سكان العالم أما بحلول عام 2050 فمن المتوقع أن يعيش كل حوالي سبعة من كل عشرة أشخاص في المدن. ويؤكد نفس المصدر أن المدن مسؤولة حاليا عن أكثر من 70 في المئة من انبعاثات الكربون في العالم ومسؤولة أيضا عما يقارب 80 في المئة من استهلاك الطاقة.
ولمواجهة التحديات البيئية المرتبطة بالاكتظاظ في المدن يكمن الحل في الإمكانيات الهائلة لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات التي من شأنها توفير حلول مبتكرة لتحسين نوعية الحياة وحماية حصص الأجيال القادمة من الثروات الطبيعية وتلبية احتياجاتها البيئية.
وتساعد تقنيات إنترنت الأشياء وتطور الذكاء الاصطناعي على دعم استدامة المدن الذكية في كل أنحاء العالم، إذ يمكن لأجهزة الاستشعار والكمبيوترات التواصل فيما بينها، وهو ما يمكّن من تجميع البيانات في وقت قياسي والبناء عليها من أجل إدارة أنظمة التحكم المركزية فيتحقق هدف ترشيد استهلاك الطاقة وتحسين الخدمات.
ويساعد الذكاء الاصطناعي البلديات والمؤسسات والقطاع العام على اتخاذ القرارات في ما يتعلق بالبنية التحتية وتطويرها وصيانتها.
وتوفر تكنولوجيا الجيل الخامس إمكانية توصيل الأجهزة ببعضها البعض وبالإنترنت بشكل أفضل، كما تسهم في نقل البيانات بسرعة أكبر.