شهيق الحلبوسي زفير الخنجر.. رئة عراقية وأوكسجين سوري

خنَّة الطائفية السياسية التي وردت في التسريب الصوتي الأخير لخميس الخنجر، لا تساوي الخنين الطائفي المستمر عند حديث شيعة السياسة عن “أنفُسِنا”، ذلك الاختراع اللفظي البارع من “المرجعية العُليا” الشيعية التي تقطنُ محافظة النجف، كمحاولة لتقليل التمييز السياسي والاجتماعي ضد المذاهب الأربعة الإسلامية. هي في الحقيقة سياسة مُتفق عليها مع شيعة السياسة الكِبار، لتقليل أعداد الهواة الطامحين للمشاركة السياسية من “المكوِّن الأكبر”.
كان المُراد من هذا التسريب الصوتي، إصابة الوعي العراقي في الصمم ولو لأسابيعٍ ثلاثة، كي لا يسمع دوي براءة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي من التُهم التي أُقيل بموجِبها من البرلمان والتي تزامنت مع التسريب، وبالتالي عدم توجيه الأنظار صوب القضاء العراقي.. كصكوصة (قُصاصة ورق) النظام الذي لا تمتلك سوى واشنطن وطهران الحبر المناسب للكتابة فيه لا عليه.
لا أفهمُ بتاتاً لماذا لم يتعِظ أحد بنصيحة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، التي وردت ضمناً في مُذكَّراته السياسية، كان مفادُها “دورة حياة الفضيحة وشدَّة سطوع التشهير السياسي لا تتجاوز الثلاثة أسابيع في الإعلام الأميركي. انتظر مرورها قبل أن تطرح برنامجاً سياسياً.”
تاريخ الخنجر السياسي في عراق ما بعد 2003 لا يُحسد عليه. هو أساساً “بسبس” مالي ربتت يدا الإخوان المسلمين في العراق على جيبه فاستحال سياسياً. لا يخطو على الإسفلت إلَّا برفقةِ حرسٍ شخصي بريطاني، ولا يدلي بتصريحٍ إلَّا إن هَمَسَ بهِ مستشارون بريطانيون أيضاً. إقليمياً ليس لهُ دور سوى أن يكون صيدلية إسعافٍ لنفوذ القوى الوازنة.. هم البطن وهو الِّلسان. أمّا دولياً فهو سبَّاحٌ مُزمن في لائحة مدفوعات شهرية لجماعة ضغطٍ أميركية “لوبي”، يُديره مسؤولون سابقون في إدارة رئيس أميركي أسبق، رغم أنَّهُ ضيف في لوائح عقوبات العم سام.
◄ وجود محمد الحلبوسي الذي نستطيع اختصار سياسته بالقول "مع الجميع وليس ضد الجميع" يبدو وسيطاً عراقياً سنيَّاً أكثر موثوقية، على الأقل في ما يخصُّ الشأن السوري
ولكن علينا الآن أن نكسو التسريب الصوتي المنسوب إليه شحماً..
الخنجر شكَّل وموَّل تحالفات سياسية عديدة. الأرجح أنَّهُ قد تأثَّر بعقيدة العمل السياسية غير المنطوقة للحزب الإسلامي العراقي مع حلفائه “أنا نهرٌ أصنع الروافد”. العيب في نسخة العمل الخاصَّة به، كان تكرار النتيجة التالية “يدخلون حلفاء ويخرجون زعماء.” المال السياسي بدوره ما عاد ميزةً له فالمال العام في العراق مُنافق “فراشة في حديقة المسؤولين، دَبور في جيب المواطنين.”
ملاءة المال السياسي للخنجر وفشل نُسخة العمل السياسي الخاصَّة به، تبقى في خطوطها العريضة قاعة كمال سياسي لمن يُريد تنشيف الترهل الحزبي واكتساب عضلات البروز. مثلاً، وبحسب ما أعلنته مفوضية الانتخابات في العراق قبل أيَّام “هناك 310 حزب مُسجَّل أصولياً و60 تحالفا سياسيا” يستعدون لخوض الحفلة التَنَكُريَّة في الانتخابات النيابية المزمع انطلاقها في شهر نوفمبر القادم. عليه، لا يوجد مُدرِّب أفضل من المال السياسي السهل الذي يمتلكهُ الخنجر لهؤلاء المترهلين، لإخفاء كروشهم القَبَليَّة والميليشياوية والمناطقيَّة، والخروج بعدها زمزمية سياسية لهذهِ الطائفة المنصورة أو تلك. ومن ثَّمَ محاولة إيجاد مقعد على طاولة الكِبار المزدحمة التي يُطلق عليها عادةً في أدبيات الإعلام العراقي “سياسيو الخط الأول”.
نوري المالكي أمين عام حزب الدعوة الإسلامية نظيرٌ أكثرُ براعة في استخدام المال السياسي من الخنجر، كان وما زال أبرع المُشغِّلين لدولابه. لم يَفْتُر يوماً عن الحركة. دولاب “عم المقاومة” وهو أحد ألقابه، ماز بامتلاكهِ حرية المِلاحة في كامل سماء السياسة العراقية.
الخطأ الوحيد الذي ارتكبهُ الخنجر الآن في العملية السياسية، ليس دورهُ السياسي أو تسريبهُ الصوتي، وإنَّما مزاياهُ المالية والتأثيرات الجانبية غير المقصودة للتحالف معه “أدخل معي حليفاً وستخرج زعيماً.” رحلةُ مَالِه السياسية كانت سنيَّة في الأصل، لكنها أصبحت حافلة للميليشيات الإيرانية، الباحِثة حالياً عن “خال المقاومة”.
أذرع طهران العسكرية باتت تُهدِّد “الخط السياسي الأول،” نتيجة تضخَّم حضورها في عمليةٍ تُعاني أصلاً من تُخمة اللاعبين الكِبار. هي الآن في أمسِّ الحاجة إلى راعٍ سياسي يقي رأسها من عصا التوافقات الدولية والإقليمية بعد حدث السابع من أكتوبر 2023. هنا فالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي قد بدا – لا أعلم إن ما زال يبدو كذلك – لعيون محمد شياع السوداني رئيس الحكومة وزعيم ميليشيا العصائب قيس الخزعلي كـ”الكاكي” الأقدر، على امتصاص ولاء هذه الميليشيات، ومنع أصابع المالكي الانتخابية من الإمساكِ بها. إضافةٍ إلى كون الفياض الشريك الشيعي المُجرَّب والموثوق عند الحزب الإسلامي العراقي، وبالتالي فإن المالكي لن يتحكم بالمطبخ السياسي السُّني كامِلاً.هذا ما دفع إلى مطاردة الفياض بالتقاعد الإجباري بحجة بلوغه السن القانونية.
◄ الخنجر شكَّل وموَّل تحالفات سياسية عديدة. الأرجح أنَّهُ قد تأثَّر بعقيدة العمل السياسية غير المنطوقة للحزب الإسلامي العراقي مع حلفائه "أنا نهرٌ أصنع الروافد"
العيب الوحيد في هذا التحليل، أن يكون التسريب الصوتي للخنجر مُتفقاً عليه، لرفع حظوظه فيما سُمَّي بـ”الإطار السُّني” الذي يُشارك فيه. الرأس البارز في هذا المشروع السياسي الذي انطلق قبل ثلاثة أشهر، هو رئيس البرلمان الحالي محمود المشهداني – على الأرجح هو واجهة للمالكي – الذي يُشارك فيه زياد الجنابي “كتلة مبادرة” المنشق عن الحلبوسي، وأحمد الجبوري “حزب الجماهير الوطنية” الشهير باسم “أبومازن”. أي لن يكون لهذه الميليشيات مفر “تريدون عمَّاً خذوا عمَّاً تريدون خالاً خذوا عمَّكم المالكي.”
والسؤال الآن: هل بقي بعد طبقات الشحوم هذه مكان كي نلصق لحماً بالتسريب الصوتي للخنجر؟
الخنجر ذو الخلفية الإخوانية، يمتلك العديد من المصالح الاقتصادية مع دولٍ عربية شقيقة. هي ستكون حاضرة في مؤتمر القمة العربية المزمع انعقادها في السابع عشر من مايو الجاري في بغداد، حيث سيتم تركيز أعمال القمة على سوريا بحسب التصريحات الرسمية للحكومة العراقية. إذاً، قد يكون وجود الخنجر غير حصيف وعلامة عدم جدَّية بغداد الساعية إلى الحصول على توافق، ولو بالحدِّ الأدنى، مع العواصم العربية.
وجود محمد الحلبوسي الذي نستطيع اختصار سياسته بالقول “مع الجميع وليس ضد الجميع” يبدو وسيطاً عراقياً سنيَّاً أكثر موثوقية، على الأقل في ما يخصُّ الشأن السوري الذي يُنتظر من نظامه الجديد الإفصاح عن مقارباته الأمنيَّة ولمس أثر سياساته الخارجية التي لا تود كسب الشرعيَّة والحصول على الدعم فقط من العواصم العربية.
ألف مبروك لمحمد الحلبوسي براءته، والذي قد يعود إلى رئاسة البرلمان بعد الانتخابات القادمة، مُحفِّزاً نوري المالكي على نيل رئاسة الحكومة للمرَّة الثالثة. الأهم، رفع نسبة المشاركة الانتخابية في عملية سياسية لا تحظى بالشرعية وإنَّما بالنقمة الشعبية.
ملاحظة بريئة: موعد القمة العربية سيكون بعد مرور ثلاثة أسابيع تقريباً على ضجَّة التسريب الصوتي لخميس الخنجر.