"شهود زمن".. كتاب يستعيد ذكريات رحلة ممتعة في عالم مثير

الموريتاني عبدالله ولد محمدي يكتب بورتريهات توثيقية لجيل من الأصدقاء.
السبت 2022/10/15
بورتريهات مختلفة للأصدقاء (لوحة للفنان حمزة بنوة)

عالم الصحافة عالم ثري بالحكايات والتقاطعات الإنسانية، ولطالما كان مادة للروايات والقصص وحتى للسينما والمسلسلات، لما له من عمق وخفايا. هذا العالم مليء بالصداقات، والتي مثلت محور كتاب جديد للكاتب الصحافي الموريتاني عبدالله ولد محمدي، ينتصر فيه للصداقة مقدما بورتريهات عن أصدقائه الصحافيين.

بيروت - يتضمن كتاب “شهود زمن.. صداقات في دروب الصحافة” للكاتب الصحافي الموريتاني عبدالله ولد محمدي شهادات عن صداقات ربطته بصحافيين من بلدان متفرقة عبر العالم. وقدم للكتاب الكاتب الصحافي إياد أبوشقرا.

ونجد في الكتاب ذكر العديد من أصدقاء المؤلف الذين خص كلا منهم بجزء من مؤلفه في تكامل بين الإنساني والعاطفي والعلمي والفكري، ونجده يكتب إلى أصدقائه الصحافيين  بروبرت فيسك، وعثمان العمير، وساداموري دايجي، وقصي صالح الدرويش، وكيم أمور، وبشير البكر، ودومينيك دِردا، وعبدالوهاب بدرخان، وسيدي الأمين، وسامي كليب، وحبيب محفوظ، ومحمد بوخزار، ومِدير بلاندوليت، ومحمد الأشهب، وعبدالعزيز الدحماني، وحاتم البطيوي.

استعادة جيل كامل

في تقديمه للكتاب، الصادر مؤخرا عن المركز الثقافي للكتاب بيروت والدار البيضاء، يبين أبوشقرا أن “في هذا الكتاب الشيق الذي يضعه ولد محمدي يجد القارئ عصارة تجربة متميزة، وحكايات عن 16 صحافيا عرفهم عن كثب. فيه يحكي المؤلف عن صداقات في حقل الصحافة امتدت منذ فترة التسعينات واستمرت حتى الألفية. وفي هذا المشوار التقت دروبه مع كثيرين من رواد الصحافة ونجومها، في الصحافة المكتوبة والصحافتين التلفزيونية والإلكترونية”.

ولد محمدي حرص في بورتريهاته على جعل الإنساني منطلقا ومحركا للكتابة

ويضيف متحدثا عن علاقته بولد محمدي “أنا اليوم تقريبا شاهد على نصف قرن من الصحافة. إذ دخلت عبر بوابتها في بيروت عام 1973. هذه التجربة الفردية جمعتني بزملاء من مختلف الأقطار العربية وسرعان ما أصبحوا أصدقاء. من هؤلاء الأصدقاء فارس شاب أتى من ‘بلد المليون شاعر‘، من شنقيط، من شموخ الصحراء التي تقبل أقدامها أمواج المحيط الأطلسي. ولد محمدي كان ذلك الفارس الذي تعرفت عليه في برد لندن، عندما تولى موقع مراسل الشرق الأوسط في موريتانيا والغرب الأفريقي”.

ويتابع “ومنذ ذلك الحين، دفعه طموحه والتزامه وتوقد ذهنه إلى السير نحو البعيد. البعيد. ما عاد العمل الصحافي بتعريفه التقليدي قادرا- في حينه- على احتواء تلك الطاقة، فحمل ولد محمدي زاده الشهي من الكياسة الإنسانية والخبرة المهنية وشبكة الصلات الاجتماعية ليغدو مرجعا خبيرا في شؤون غرب أفريقيا، بل أفريقيا عموما”.

ويخلص أبوشقرا إلى أن هذا “الكتاب – الوثيقة” هو “حقا رحلة ممتعة مع عالم الصحافة” و”سجل توثيقي وشخصي ثمين لمسيرة مهنية تستحق التوثيق… والإعجاب”.

يختصر ولد محمدي في كتابه تجربة تواصلت على مدى سنوات، نتعرف من خلال الأسماء التي قدم لعلاقته بها، على أحداث وتحولات هزت العالم، تنقلنا من حروب الشرق الأوسط إلى أكثر البؤر سخونة في أفريقيا وغيرها.

ويتحدث ولد محمدي عن الصداقة التي جمعته بمن يقدم شهادات عنهم. يرسم بورتريهات لهؤلاء الذين قاسمهم دفء اللقاء، في لحظات الفرح أو مواقف التوتر والحروب التي يتعين نقل أحداثها وأهوالها، لكن مع كثير من المفارقة الهادفة والسخرية الجميلة والسرد الشيق.

وفي سياق حديثه عن علاقته بآخرين قاسمهم سحر الصداقة ومتاعب المهنة، لا ينسى ولد محمدي أيضا أن يتحدث عن تجربته، ومن ذلك أن يكتب في مقدمة كتابه “توسعت معرفتي بالكثيرين من قبيلة الصحافيين، كل من موقعه. فتعلمت من مدرسة الميدان أمورا لم أكن لأعرفها لو بقيت حبيس وطني. تعلمت الاختصار من مراسلي الــ‘سي.إن.إن‘ وقت الحاجة إلى ذلك، وملء الفضاء لإشغال المشاهد وشده بقصة واحدة على مدى أيام، كما لو أن الأمر يتعلق بمسلسل أميركي. وتعلمت من مراسلي الـ‘بي.بي.سي‘ الإثراء والعمق في رواية القصة دون إنفاق موارد كثيرة في الميدان. كل الذين كتبت عنهم تقاطعت معهم سبلي، فعرفتهم عن قرب، وأردت أن أقدم مزيجا، يجمع بين البورتريه والملاحظات العابرة، لكنه يقرب للقارئ نموذجا للصحافة في أوج مجدها. نقلت بدايات وتجارب صغيرة أفضت إلى نجاحات كبرى، وإلى قصص تروي لحظات إنسانية عميقة الدلالة”.

ويقدم ولد محمدي لقطات كتابه “للجيل الجديد من الصحافيين”، مشددا على أنها “تنتمي لجيل آيل للاندثار، ولو أن الروح التي تحركه يجب أن تبقى لأنها روح الصحافة، لا يمكن أن تغيرها سرعة التكنولوجيا ولا تدفقها العالي، فالقصة هي القصة مهما كان القالب الذي تأتي فيه”، لمن سماهم “الجيل الجديد من الصحافيين”. ثم يستدرك، مخاطبا الصحافيين الشباب، ومن يعشقون مهنة الصحافة ويحلمون بممارستها “قطعا ستجدون في مسيرة هذا الجيل من الصحافيين الأفذاذ نموذجا يحتذى، وقيمة مضافة ستساعدكم في الإمساك بجوهر الصحافة، برسالتها الحقيقية، وكيف تتحول من مجرد تقنيات فنية ميكانيكية إلى مهمة نبيلة ذات طابع إنساني، قادرة على سرد قصة الإنسان، إنها كما يقول روبرت فيسك ‘وقوف على حافة التاريخ لتقديم شهادة غير متحيزة‘. تلك هي الصحافة التي يمكن أن نلمسها في سيرة بعض من التقيت بهم طيلة مسيرتي المهنية، أحكي قصة بعضهم في هذا الكتاب”.

بورتريهات الأصدقاء

يرسم ولد محمدي بورتريهات لمن قاسمهم دفء الصداقة ومتاعب المهنة. يقول، تحت عنوان “عثمان العمير.. الرائي” “بيني وبين عثمان العمير صداقة قديمة، تعود لأكثر من ثلث قرن. توطدت فصارت ثابتة وعميقة، قوامها قدرتنا معا على قبول الخلاف وتجاوز الاختلاف، وتلك سجية مغروسة في طبع عثمان اكتسبها من حياته الطويلة العريضة الصاخبة في بلاد الإنجليز”.

وزاد ولد محمدي متحدثا عن العمير وتجربته في صحيفة “الشرق الأوسط”، في سياق تقديمه للكتاب “كانت ‘الشرق الأوسط‘ بلا شك مدرستي الكبرى، فيها تعلمت عن عثمان العمير وغسان شربل وإياد أبي شقرا وبكر عويضة وعثمان ميرغني وغيرهم. كانت الصحيفة العربية الأكثر انتشارا. وقد أتاحت لي أن أنقل أخبار أفريقيا إلى القراء العرب، فسمعوا عن انقلاب عريف صغير، اسمه يحيى جامع، على رئيسه السير داوودا جاورا في غامبيا الصغيرة، وعن غينيا ما بعد الحاج أحمد سيكو توري، وعن التغيير الديمقراطي في السنغال. أطلق عثمان العمير، ومن بعده عبدالرحمن الراشد، يدي لأروي قصصا أفريقية لا تنتهي. لكن دروبي انتقلت إلى آفاق أخرى”.

ولا ينسى ولد محمدي أن يؤكد على العمق الإنساني للعلاقة التي جمعته بمن كتب شهادات عنهم، ضمن خيط ناظم يؤكد على أن الوفاء والاعتراف بالفضل يبقى من أسس الصداقة الطيبة. مما نقرأ في الكتاب، تحت عنوان “روبرت فيسك .. رجل لا يتكرر” “اقتنع فيسك بأن أقصى ما يستطيع الصحافيون عمله هو الوقوف على حافة التاريخ، كما يفعل علماء البراكين الذين يصعدون إلى فوهة البركان الذي يتصاعد منه الدخان، محاولين الرؤية من فوق حافته، فتشرئب أعناقهم وهم يحدقون من فوق الحافة المنهارة، ليشاهدوا عبر الدخان والرماد ما يجري في داخله”؛ لذلك رأى أن الصحافة، أو على الأقل ما ينبغي أن تكون عليه الصحافة، هو “أن تراقب التاريخ، وأن تشهد عليه، وأن تعمد إلى تسجيله بقدر ما تستطيع من الأمانة على الرغم من المخاطر والضغوط ونواقصنا كبشر”.

وحرص ولد محمدي، في تناوله للشخصيات، موضوع الشهادة – البورتريه، على أن يجعل “الإنساني” منطلقا ومحركا للكتابة. وقد كتب، تحت عنوان “حبيب محفوظ.. عبقري “موريتانيد” “لم يكن حبيب مجرد كاتب عبقري، وإنما كان يعيش بنفس المستوى من العبقرية، وربما في تصرفاته من جنون الإبداع أكثر مما أخرج لنا في ‘موريتانيد’. مزج حبيب بين الثقافة المحلية التي رضع لبانها، وبين السهل الممتنع من لغة موليير، وما هو متاح من تناقضات السلطة، تصيدها ليجعلها مثار سخرية سوداء مؤلمة وضاحكة، ولكنه ضحك كالبكاء، تلك هي التسعينات في موريتانيا صراع على كل شيء”.

ولد محمدي يقدم لقطات كتابه للجيل الجديد من الصحافيين، مشددا على أنها "تنتمي لجيل آيل للاندثار"

كما كتب ولد محمدي تحت عنوان “عبدالعزيز الدحماني.. مذاق الشاي” “عرفت عبدالعزيز الدحماني قارئا قبل كل شيء، فقد كانت مجلة ‘جون أفريك’ أحد المصادر المهمة في معرفة أخبار أفريقيا. ظلت المجلة، التي أسسها التونسي بشير بن يحمد، المصدر الوحيد لأخبار القارة جنوب الصحراء. اشتهر الدحماني كمتابع لصيق لأخبار موريتانيا التي ظل مهتما بها حتى بعد تقاعده في مهجره على ضفاف النيل. التقيته عدة مرات، كان آخرها في بيت الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه بنيس في جنوب فرنسا، إذ انتدبتني صحيفة ‘الشرق الأوسط‘ لإجراء سلسلة من اللقاءات روى فيها جزءا كبيرا من مسيرته السياسية وتجربته في الحياة”.

وتابع “كانت وقتها بترتيب من صديقي وزميلي محمد فال ولد عمير. شعرت أن الدحماني جزء من العائلة الصغيرة للرئيس الذي شرده المنفى وزوجته الفرنسية مريم داداه. تحدثنا عن ذكرياته في موريتانيا والتَقط لنا صورا تذكارية. سألتقيه في ما بعد في مطار محمد الخامس، متوجها للقاهرة التي عاش بها إلى جنب ابنته وأخته. حتى في فترة تقاعده الطويلة نسبيا ظل الدحماني متابعا، صاحب موقف واضح مما يحدث في بلده والقارة، وعموم العالم العربي”.

ويبرز ولد محمدي، في تناوله للشخصيات، موضوع الشهادة – البورتريه، جوانب خفية من علاقات الصداقة والتعاون التي جمعته بمن تحدث عنهم في “شهود زمن”. يقول، تحت عنوان “ساداموري.. ياباني في المحظرة” “قبل الذهاب إلى المحظرة وبدء الحديث مع الطلاب، جلسنا في بيتي المتواضع نأكل مما تيسر من الضيافة البدوية: اللحم والأرز. اكتشفت أن الياباني يتجنب قطع اللحم ويأكل القليل من الأرز، ربما انسجاما مع ثقافته البوذية. بعد ثلاثة كؤوس من الشاي الأخضر، قال لي ساداموري إن العيش هنا يلائم الرهبان البوذيين. ضحكنا من فكرة أن يعيش رهبان بوذيون في أكثر الأماكن تشبثا بالثقافة الإسلامية”.

تجدر الإشارة إلى أنه سبق لولد محمدي أن أصدر مؤلفات متنوعة المواضيع، تتراوح بين الكتابة الإبداعية والتوثيق لتجربة غنية على مستوى مهنة المتاعب، بينها “تومبكتو وأخواتها.. أطلال مدن الملح ومخطوطات” (2015)، ورواية “طيور النبع” (2017)، و”يوميات صحافي بأفريقيا.. وجوه وانقلابات وحروب” (2017)، و”المغرب وأفريقيا: رؤية ملك” (2019). كما كانت لولد محمدي مشاركات في كتب جماعية، على غرار “الرسائل المغربية” (2016) و”الرسائل الخليجية” (2021)، فضلا عن مساهمات في حقل الترجمة، على علاقة بتجربته الإعلامية التي حاور وجاور خلالها عددا من قادة الدول، ومن ذلك ترجمته لمذكرات الرئيس السنغالي ماكي سال “السنغال في القلب”، من الفرنسية إلى العربية (2021).

13