شهرزاد العربية تروي في ميلانو حكايتها ما بعد الأخيرة

على مدار أربعة أيام بدءا من 28 مارس الماضي، أقيم في ميلانو بإيطاليا مهرجان الثقافة واللغة العربية في دورته الرابعة، وهو الذي تنظمه الجامعة الكاثوليكية العريقة في ميلانو، بالتعاون مع منشورات المتوسط التي برزت في السنوات الأخيرة، وتحولت إلى منارة ثقافية عربية في أوروبا، وإلى جسر بين العرب والإيطاليين من خلال ترجماتها للأدب الإيطالي إلى جانب احتفائها بنشر الأدب العربي.
ميلانو (إيطاليا) - شهدت الدورة الرابعة من مهرجان الثقافة واللغة العربية هذا العام إقبالا كبيرا من قبل الطلاب والأكاديميين ومحبي الأدب والمعنيين بالثقافة في المدينة، وقد لوحظت مساهمة مميزة من هيئة الشارقة للكتاب التي تمثلت بركن خاص بها عرضت فيه خلال أيام المهرجان أهم إصداراتها ومنجزاتها ومشاريعها.
استهل البروفيسور وائل فاروق خطابه في افتتاح المؤتمر بقوله “لا توجد مؤسسة علمية أو ثقافية خارج العالم العربي بذلت من مصادرها المادية والمعنوية والعلمية ما تبذله الجامعة لخلق فضاء للثقافة العربية، ودعم فرص اللقاء والتعايش في مدينة تنحو باتجاه أن تكون واحدة من أكبر المدن الكوزموبوليتانية في عالم اليوم، لتؤكد الجامعة على دورها كطرف فاعل في محيطها المديني وعلى إسهامها كمؤسسة للعلم والتعليم في مواجهة قضايا الواقع وتحدياته من خلال تقديم حقائق العلم وقيم الحضارة على دواعي الانغلاق على الذات والخوف من الآخر”.
تمثيل التنوع
في حديث لـ”العرب” يقول وائل فاروق، وهو أكاديمي وباحث يحمل الجنسية الإيطالية، “إن أول حقائق العلم والثقافة أن التاريخ الإنساني لم يعرف ثقافة أو حضارة استمرت في الحياة والعطاء منعزلة عن محيطها. واليوم، كما نرى جميعا، فقد أسقطت التكنولوجيا حواجز الزمان والمكان، ووحدت العولمة أنماط الحياة على الكوكب الأزرق ولكنها صنعت، في الوقت نفسه، حضارة أيقونتها الزجاج الذي يطغى على عمارتها الحديثة ليعلن عن رغبة تسيطر على الإنسان المعاصر في ‘أن يَرى ويُرى’ لكن دون تواصل حقيقي. فنحن نعيش في عصر الحواجز الشفافة والأسوار اللامرئية، عصر المعلومات التي لا يمكن أن تتحول إلى معرفة خارج إطار الخبرة الإنسانية لهذا اخترنا شهرزاد بوصفها الصورة النمطية الأكثر رسوخا للمبدعة العربية، وأخرجناها من قصرها الزجاجي، من الحكاية، من الصور النمطية المستقرة السلبية والإيجابية، من الأيديولوجيا الاستشراقية والنسوية على حد سواء، من ثنائية المكحلة والمحبرة التي تشكل ملامحها”.
ويضيف “سعينا في هذا المؤتمر الذي رافق المهرجان، ومعه معرض الكتاب، ومن خلال جملة النشاطات إلى رؤية المساحة التي تشغلها شهرزاد العربية في الواقع وحجم تأثيرها فيه من خلال الكتابة والإبداع اللذين كانا تاريخيا البوابة التي اقتحمتها المرأة لترسخ حضورها في الفضاء العام”.
المهرجان احتضن في معرض الكتاب الذي نظمته التظاهرة بالتعاون مع دار “المتوسط” ركنا احتوى على 50 عددا من مجلة "الجديد"
يضيف فاروق “حرصنا في المهرجان أن يمثل المشاركون ذلك التنوع الثري في الواقع والإبداع فجاؤوا من تسعة عشر بلدا مختلفا يحملون تجارب إبداعية وعلمية شديدة التباين والثراء ليقدموا تجارب حية وفاعلة في الوعي والذاكرة الثقافية العربية، وقد اتخذ المشاركون مسارات مختلفة للتحقيق منها: شهادات المبدعات والمبدعين عن تجاربهم الإبداعية وخبراتهم الحياتية التي لعبت الدور الأكبر في تشكيل وعيهم، ومنها إعادة بناء السياقات التي احتضنت تجاربهم وإعادة قراءة التاريخ وتفكيك استعاراته، ومنها مسارات توجهت للحاضر وشراكة المرأة في قضاياه الكبرى، مثل لغة الدساتير بعد الثورات العربية، وإبداع المرأة في سياق الحرب في سوريا واليمن ومنها ما يحاول استرداد ما يبدو هامشيا في لغة الثقافة.
من جهة أخرى حرصنا أيضا في هذا المؤتمر أن نحتفي بالتجارب المعرفية المميزة والتي تجسد في منشورات مثل مجلة الشعر العربية “براءات” التي صدر عددها الأول منذ أيام، وأنطولوجيا الشعر العربي التي صدرت أيضا مؤخرا لفرانشيسكا كراو وسيموني سيبيليو، وكذلك المعجم التاريخي العربي المشروع الكبير لهيئة الشارقة للكتاب.
لأن الهدف الرئيسي لهذا المؤتمر هو خدمة طلاب اللغة العربية في الجامعة والذين تجاوز عددهم خمسمئة طالب، فقد أقيمت خلال المهرجان جلسة حوارية بين طلاب الدراسات العليا والكتاب والشعراء.
وصاحب المهرجان إلى جانب معرض الكتاب عرض سينمائي لفيلم “ورد مسموم”، ولقاء مع مخرج الفيلم أحمد فوزي صالح، ومعرض تشكيلي للفنانة البحرينية مياسة السويدي، ومعرض عن الأزياء المستخدمة في الأعمال المسرحية القديمة ولاسيما أزياء المرأة، خاصة وأن ميلانو عاصمة الموضة وفن ظهور الجسد في الفضاء العام. وكرّم المؤتمر الفنانة والأكاديمية إيناس
عبدالدايم عازفة الفلوت ووزيرة الثقافة المصرية.
وقدم عماد أبوغازي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة بحثا حول “المرأة والفنون التشكيلية في مصر” ورصد في بحثه ما شهدته مصر بعد ثورة 1919 من تطور فارق في علاقة المرأة المصرية بالفنون التشكيلية.
من ناحية ثانية قدم خالد عزب المؤرخ والباحث المصري بحثا تحت عنوان “الأزياء والموضة في التراث العربي الإسلامي”.
الشاعر والروائي المغربي محمد الأشعري ساهم بمداخلة حول “السلطة وامتلاك المرأة… الخوف من المساواة”، منطلقاً في مداخلته من الأجواء التي تستحضرها روايته “ثلاث” التي صدرت سنة 2017، والتي تقدم ليلتين من ليالي المغرب الحديث المظلمة استعملت فيها السلطة السياسية أسلوب القهر السياسي متداخلا ومتراكبا مع قهر النساء وتقدم ليلة تلت هذا القهر بدا فيها المجتمع متحررا من أغلال الماضي لكنه بعد كل ما جرى ما يزال “خائفا” من الحب.
أما الناقد المصري والأكاديمي المقيم في الكويت أيمن بكر فقد قدم بحثا حول صورة “المرأة في الشعر الجاهلي بين البكاء والمجون”، في مسعى نقدي لإعادة النظر في حضور المرأة ضمن ثلاثة سياقات تظهر فيها المرأة بصورة لافتة في الشعر الجاهلي.
وطرحت الكاتبة الكويتية بثينة العيسى في مداخلة بعنوان “خرائط التيه” السؤال حول الكيفية التي يمكن أن تتحول الكتابة معها من حالة بوح إلى حالة اكتشاف. وقدم الروائي المصري إبراهيم فرغلي ورقة حول “الأزياء والأناقة كمدخل لفهم الذكورية العربية في الأدب”.
فيما قدمت الكاتبة والناقدة المصرية أماني فؤاد ورقة حول “المرأة والإبداع السردي بعد الثورات العربية الأخيرة” معتبرة أن ظاهرة انخراط المرأة في حراك الشارع بالقوة التي بدا عليها في الانتفاضات العربية كان من نتائج بعض الحرية التي نعمت بها في القرن الماضي.
اللغة والأنثى
وتمحورت ورقة الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب حول “ميراث التأنيث في اللغة العربية”، ورأت أن الرجل عبر التاريخ سيطر على المجتمع وأدواته واحتكر اللغة، التي لم تخفِ أبدًا تمييزها ضدَّ المرأة ونظرتها الدونية إليها.
بدورها، وعلى مستوى آخر من البحث، طرحت الباحثة الأكاديمية التونسية آمال قرامي في “شهرزاد الجديدة” وجهة نظر في مسألة المساواة بين المرأة والرجل عبر الدستور.
تميزت مشاركة الشاعر نوري الجراح في المهرجان بمحاضرتين الأولى حول تجربتين رياديتين في الثقافة العربية الأولى تجربته في تأسيس مجلة “الكاتبة” التي أصدرها من لندن ما بين 1992 -1995، كأول منبر طليعي لثقافة المرأة تحت شعار “مغامرة المرأة في الكتابة مغامرة الكتابة في المرأة” مقدما استعادة لهذه المجلة بوصفها منبراً طليعيا أتاح المجال، بصيغ حديثة للمرة الأولى للبحث في مكانة المرأة في الثقافة والاجتماع العربيين، وبالتالي الحض على إثارة السؤال بإزاء جملة من القضايا الشائكة والمسكوت عنها، المتعلقة بالمرأة، وتحريض الكتاب والمثقفين على مراجعة مواقفهم وأفكارهم وتصوراتهم نحو الأنثى والأنوثة، وإثارة نقاش حر وتطوير أفكار في ما يتعلق بوضع المرأة وصورتها وكينونتها في مجتمعات الثقافة العربية.
والمحاضرة الثانية للشاعر كانت بعنوان “الرحلة العربية إلى أوروبا: النظرة إلى الذات من خلال الآخر”، وتناول فيها دوافع وظروف وموضوعات الرحلة العربية إلى أوروبا، وذلك من خلال تجارب جملة من الرحالة العرب المشارقة والمغاربة إلى أوروبا والغرب بصورة عامة، خصوصا خلال الفترة الممتدة من القرن السادس عشر وحتى مطالع القرن العشرين، وقدم فكرة عن نشاط المركز العربي للأدب الجغرافي -ارتياد الآفاق الذي يرأسه، والذي نال هذا العام جائزة الشيخ زايد للمشروعات الثقافية الريادية بوصفه أول مركز عربي من نوعه أسس لخزانة كاملة من أدب الرحلة العربي إلى العالم.
وقد احتضن المهرجان في معرض الكتاب الذي نظمته التظاهرة بالتعاون مع دار “المتوسط” ركنا احتوى على 50 عددا من مجلة “الجديد” التي يرأس الشاعر تحريرها من لندن كمنبر ثقافي عربي طليعي.
الكاتبة الروائية العراقية إنعام كجه جي تناولت في ورقتها “ثلاث مغنّيات في الذاكرة العراقية” ظهور ثلاث مغنيات عراقيات في فترة مبكرة من القرن العشرين أخذن مكانهن في الذاكرة الجمعية لشعب كان يتلمس طريقه نحو التحرر والمدنية هن مسعودة العمارتلية، سليمة مراد، وعفيفة اسكندر. وقد استحقت المغنيات المذكورات صفة “شهرزادات عراقيات” لدى الثقافة العراقية الحديثة.
من ناحية ثانية قدمت الفنانة التشكيلية الإماراتية فاطمة لوتاه شهادة عن تجربتها في الفن التشكيلي وكيف انتقلت إلي إيطاليا لممارسة الفن كمحترفه، وهو ما شكل تحديا كبيرا لها كامرأة عربية من الخليج. وفي انتقالة إلى اللحظة الحاضرة قدم الباحث السعودي منصور المرزوقي بحثاً شيقا في المساحة الممكنة لحضور المرأة ثقافيا من خلال طموحات رؤية السعودية 2030.
أما الكاتبة القصصية الإماراتية صالحة عبيد فقدمت ورقة وسمتها بـ”بين غرفة فيرجينيا وبرقع سلمى”، عاقدة مقارنة بين الكتاب الشهير لفرجينا وولف “غرفة تخص المرء وحده” الذي وضعت فيه اللبنة الأولى لاستقلالية النساء المبدعات/ وبين شخصية المبدعة العربية وطبيعة الظروف التي تتحكم بنشاطها الإبداعي.
وتناول الكاتب الروائي والقصصي المصري منتصر القفاش في ورقة نقدية لكتاب “للجنة سور” للكاتبة المصرية المقيمة في كندا مي تلمساني ما اعتبره الهجرة الدائمة للكتابة مبينا كيف أن الكاتبة تحرص في يومياتها على الابتعاد عن الصور النمطية عن المهاجر وحنينه للوطن وعذاباته في المهجر.
الناقد المصري سيد السيسي تناول في ورقته بحثا في 3 نساء في الرواية العربية كان مقتلهن رمزا ودلالة صارخة على فشل الحلم بالحداثة.
أما الباحث الإيطالي سيمونه سيبيليو قدم الترجمة الإيطالية لكتاب “في الحرب لا تبحثوا عني – الشعر العربي في الثورات وفيما بعدها”. وقدمت الباحثة ماريا تيريزا زانولا بحثا تحت عنوان “الموضة والعادات، لغات متوسطية”.
وتحدث البروفيسور وائل فاروق في حفل الختام الذي أقيم في القاعة التاريخية الكبرى للجامعة المزدانة برسوم ولوحات من عصر النهضة، وكل من ماريو جاتي مدير الجامعة، والبروفسور أنطونيلا شارّوني نائب رئيس الجامعة والسفير عبدالله حسن الشامسي قنصل الإمارات العربية في ميلانو والدكتورة جيهان زكي مديرة الأكاديمية المصرية في روما والبروفسور وائل فاروق مقرر المؤتمر والدكتورة إيناس عبدالدائم وزيرة الثقافة المصرية، وأحمد بن ركاض العامري رئيس هيئة الشارقة للكتاب. وكان الحفل قد افتتح بقصيدة للشاعر نوري الجراح من ديوانه “قارب إلى ليسبوس”. واختتم بحفل موسيقي لفرقة كايرو ستبس.