شهامة افتراضية

أصبح التواصل عبر الإنترنت منصة رئيسية للتطبيل والتهليل والجهاد، وتشكيل الهويات الاجتماعية والسياسية، وروادها مصطفون في المقاهي أو في فراشهم، فكما أن هذه الوسائل توفر فرصًا هائلة للتفاعل والنقاش، تفتح أبوابًا واسعة للزيف والتظاهر، أو ما تمْكن تسميته بـ”الشهامة الافتراضية”، وهو تعبير يعكس تلك المواقف والمشاعر التي يتم التعبير عنها عبر منصات التواصل الاجتماعي دون أن يكون لها تأثير حقيقي على الواقع الاجتماعي والسياسي أو دون أن يتحرك أصحابها من أماكنهم.
ومن الظواهر التي تميز المجتمعات العربية في العصر الرقمي الاستهلاك اللامحدود لما تقدمه القوى الغربية من منتجات وأفكار وثقافات، سواء في مجال التكنولوجيا أو أساليب الحياة، فهناك ميل عام إلى تقديس كل ما هو غربي والتفاخر بما تقدمه شركات الغرب من ابتكارات وصناعات يُنظر إليها كرموز للحداثة والرقي، وما يثير السخرية أن هذه الشعوب التي تستهلك كل ما تقدمه وسائل الإعلام الغربية، تبدي في الوقت نفسه رفضًا لهذا الغرب في خطاباتها السياسية والشخصية.
وتتجلى هذه التناقضات في المواقف التي تروج لها وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يردد الأفراد شعارات ثورية ومواقف عدائية تجاه الغرب، في الوقت الذي يقبلون فيه بكل ما يقدمه هذا الغرب من ثقافة وتكنولوجيا وفن، وهنا تظهر الشهامة الافتراضية، حيث يتم التظاهر برفض الغرب وأيديولوجياته، بينما ينحصر في الحدود الرقمية دون أن يترجم إلى مواقف حقيقية أو قرارات تصحيحية على الأرض.
وتخرج الشعوب في العديد من المناسبات لتعلن عن دعمها للثورات، سواء كانت في مصر أو سوريا أو ليبيا أو غيرها من البلدان العربية التي شهدت نزاعات وصراعات، ولكن مع مرور الوقت أصبح من الواضح أن الكثير من هذه الثورات لم تكن إلا وسيلة لتمويل وتحقيق مصالح أطراف غربية كانت تحرك الأحداث عن بُعد، مستغلة هذه الحركات لتحقيق أهدافها الإستراتيجية والعرب تطبل وتنشر عنترياتها، فتمتد الأمور لتشمل أدوات السيطرة الاقتصادية والسياسية التي تستخدمها الدول الغربية لضمان مصالحها في المنطقة.
ويعبر الأفراد من ورق عن دعمهم الثوري عبر تغيير صور البروفايل أو نشر بعض المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن دون أن يكون لهم أي دور حقيقي في دعم هذه الحركات أو محاولة تحسين الواقع، فبدلاً من أن يتخذوا خطوات ملموسة في تحسين أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يكتفون بمواقف سطحية لا تمت للواقع بصلة.
ونجد أن الكثير من الأفراد يرفعون شعارات ضد الاستعمار الثقافي مثلا وينتقدون الانحرافات الغربية في الأخلاق والقيم، لكنهم لا يستطيعون الاستغناء عن وسائل الاتصال الغربية مثل الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، وهم أساسا يتفاخرون باستخدامها وتقديم أنفسهم كجزء من المجتمع الغربي من خلال تلك الوسائل، وهذه الازدواجية تكشف عن حالة من التبعية الثقافية المزدوجة، حيث يتم الانتقاد على السطح بينما يتم الانخراط في الاستهلاك الثقافي الغربي بشكل غير واعٍ.
إن الشهامة الافتراضية ما هي إلا تجسيد للواقع الذي نعيشه اليوم؛ وهي ليست سوى مسكنات وهمية لمشاعر التمرد أو الاحتجاج التي لا تجد سبيلًا للتحقق في الواقع، في حين أن الثورات الحقيقية لا تأتي عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولا يمكن للهوية الثقافية أو الوطنية أن تتحقق بمجرد تغيير صورة على فيسبوك، ولا بد من العودة إلى الجذور الحقيقية للعروبة في العلوم والفنون، وتحقيق التغيير على أرض الواقع بعيدًا عن الشعارات الافتراضية التي لا تجدي نفعًا.