شماتة القرن

ليس غريبا أن يعبر شخص ما عن شماتته في صديق أو قريب أساء إليه، ويهتم بأخباره السيئة أكثر من اهتمامه بأخباره السارة، ويتحيّن الفرصة ليرد له الصاع صاعين، فنزعة الشماتة موجودة لدى جميع البشر منذ الأزل، لكنها تشتعل حينا وتخفت حينا آخر، وفقا لنوعية علاقاتنا الاجتماعية والتجارب الصعبة التي نمر بها في الحياة، وصدماتنا من سلوك الآخرين ومعاناتنا من ظلمهم وخياناتهم وإهاناتهم.
ربما يعزى ذلك في الكثير من الأحيان إلى التنافس المشروع وغير المشروع ورفضنا تفوق الآخرين علينا وتميزهم، فنحن دائما نطمح إلى تحقيق الأهداف والطموحات الشخصية التي وضعناها لأنفسنا؛ ولذا فإن إحساسنا الداخلي بأننا أقل شأنا أو موضع ضحية قد يمثل تهديدا لكبريائنا وكرامتنا، وشعورنا بالتميز عن الآخرين.
الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، يلجأ إلى حيل بارعة للحفاظ على رباطة جأشه أمام أبناء جنسه ويحاول مواجهة عقدة النقص وانعدام الشعور بالأمان النفسي عبر أسلوب خداع النفس، ليبرر مواقفه المستهجنة تجاه الآخرين، وليبعد الأنظار عن عيوبه.
حدثتني صديقتي عن حفل صاخب أقامه موظفون أمام شركة في تونس عندما أقيلت مديرتهم التي يكنون لها الازدراء والكراهية، وكيف رقصوا وغنوا على أنغام الطبل والمزمار طيلة ثلاثة أيام، وتبادلوا مشاعر السعادة والتهاني على مواقع التواصل الاجتماعي.
تعجبت لأمر صديقتي التي لم أعهدها تظهر مشاعر حقدها وتشفيها في الغير على الملأ، إلى درجة أن تتباهى أمامي بـ”حفل الشماتة” الذي أقامه زملاؤها في العمل ولم يشهد له المجتمع التونسي مثيلا من قبل.
وجدت صديقتي لنفسها عذرا أقبح من ذنبها لتبالغ في الانتشاء بطرد مديرتها، بدلا من أن تتعاطف معها، ووفق الرواية التي قصتها علي، فإن مديرتهم كانت شرا مطلقا؛ فهي لا تتورع عن شتمهم وإهانتهم والاقتطاع من رواتبهم والتصرف معهم بشكل مهين.
على أية حال، العلاقة بين الشماتة والإحساس بالمتعة لا تمثل أمرا مستجدا؛ فقد كشفت الدراسات النفسية منذ عقود أن الإنسان يشعر بالانتشاء والراحة النفسية عندما يغذي دوافعه الغريزية العدوانية بالثأر والانتقام من الآخرين.
لكن فكرة أن نعيش في قرية افتراضية مليئة بـ”طوائف” من الشامتين والحاقدين، تبدو أكثر حداثة في عالم الإنترنت الذي أضفى على هذه النزعة البشرية المكروهة نوعا من المشروعية والمتعة التشاركية. وسواء كانت “طوائف الشامتين” أفرادا أو مجموعات، فإن لديها أساليبها الخاصة في رصد الآخرين وتتبع منشوراتهم والتلذذ بأذيتهم عبر التعليقات القاسية والعنيفة والصادمة، وقد تكون لسلوكيات مثل هذه تَبِعات نفسية وصحية على ضحاياها وعلى مجتمعات بأكملها.
بالنظر إلى التأثير المحتمل، الذي يمكن أن تحدثه التعليقات السلبية في وقت قد يصل فيه ما ينشره المستخدم على الإنترنت في لحظة من الزمن إلى مليون شخص تقريبا، فإنه ليس من المفاجئ أن يستخدم الناس النوافذ الافتراضية للابتزاز والتضليل ووصم الغير بالعار، أو لصرف الانتباه عن مساوئهم، وتسليط الضوء على مساوئ الآخرين. ورغم أن هذا السلوك قد يبدو مرفوضا دينيا وأخلاقيا وإنسانيا، إلا أنه قد يكون أسلوبا فعالا، يثبت به الكثيرون وجودهم، ويحافظون على تقديرهم لذواتهم، بل يجعلهم يشعرون براحة من ألم النقص.
لعلّ الكاتبة الروسية صوفي سويتشين محقة في قولها “الأخطر من كل الإطراء هو دونية أولئك الذين هم حولنا”.